ليس من عادة الكاتب الإنجليزي إيان ماك إيوان أن يشكو، وهو الذي حققت مسيرته الروائية خلال العقود الخمسة الماضية ما وضعه في المقدمة بين أبناء جيله من الروائيين الإنجليز الذي تحلق من حولهم النقاد والقراء بكثرة لافتة، وانهمرت عليهم الجوائز وضروب التكريم، مما جعل ترجمة رواياتهم إلى عديد من اللغات الأخرى محتماً، كما جعل السينما، الجيدة بالتأكيد، تتقاطر لاقتباس أعمالهم. الحقيقة أن ماكوين كان أكثر حظاً في المجالين من رفاقه، وفي مقدمتهم حنيف قريشي ومارتن آميس وكريستوفر هتشنز، وحتى سلمان رشدي، الذي سيكون الأشهر من بينهم، ولكن ليس لأسباب إبداعية بالتأكيد.
المهم أن ماك إيوان لم يكن من النوع "النقاق" الذي لا يتوقف عن الشكوى. ومع ذلك رأيناه يفعلها ذات يوم حين انتهز فرصة إجراء واحدة من المجلات الأدبية الفرنسية الأشهر حواراً معه للشكوى من الأميركيين، نقاداً وربما قراء أيضاً، "إذ فقدوا قدرتهم على التقاط روح الفكاهة الإنجليزية في الأدب الروائي في الأقل".
كان ذلك على أية حال بمناسبة صدور روايته "طاقة شمسية" التي سجلت نوعاً من إدخاله في عمله الروائي، بعدين باتا متضافرين لديه: البعد العلمي من ناحية وحس الفكاهة الذي أشرنا إليه، من ناحية ثانية. صحيح أن كلاً من هذين البعدين كان موجوداً في عدد من روايات ماكيوان في السابق، لكنهما ندر أن اجتمعا معاً كما اجتمعا في "طاقة شمسية".
الأدهى من هذا أنهما اجتمعا هنا من خلال بطل سلبي يتسم بقدر من الشر والانتهازية والتهور على رغم أنه حائز جائزة نوبل للفيزياء. وهذا النجاح "الجوائزي" الأسمى شكل فرصة بالنسبة إلى الكاتب ليتساءل بقدر كبير من السخرية عن معنى الجوائز وجدواها.
سهام مصوبة على الأميركيين
غير أن شكوى ماك إيوان من الأميركيين لا تتعلق بهذا الأمر مباشرة، بل بواقع أن النقد الأميركي في مجمله هاجم الرواية من "دون أن يفهمها أو يفهم حس الفكاهة الذي يطبعها"، بحسب ما يقول الكاتب الذي روى خلال الحديث الصحافي الذي نشير إليه وأمام الفرنسيين الذين يطربهم عادة أن يجدوا أنفسهم أمام هذا النوع من "الفضح للعقلية الأميركية"، كيف أن زوجته التي كانت ترافقه في جولة أميركية قصد الترويج للرواية هناك، كانت توقظه كل صباح لتطلب منه ألا يقرأ اليوم هذه الصحيفة أو تلك، إذ فيها مقال يقرب إلى أن يكون شتائمياً في حقه وحق روايته.
ومن هنا "توقفت عن مطالعة الصحف الأميركية خلال تلك الفترة"، لكن كل ذلك انتهى بالنسبة إليه ما إن أكمل جولته في أميركا الشمالية واجتاز الحدود الكندية ليقرأ كل أنواع المديح لروايته وليس فقط لدى النقاد الأنغلوفونيين، بل حتى لدى زملائهم الفرانكوفونيين "واكتشفت أن النقاد لا يزالون يعرفون كيف يقرأون في كندا على عكس زملائهم الأميركيين؟!"، ولكن ليقرأوا ماذا؟ واحدة من أكثر روايات إيان ماكوين مرحاً وتمسكاً بالشر، ولكن ضد شخص واحد هو مايكل بيرد بطل الرواية الذي يحاول أن يعيش اليوم مستفيداً من الفوز النوبلي الذي جعل له مكانة لم يكن ليحلم بها. فهل تراه يستحق تلك المكانة؟
مكانة غير مستحقة
من الناحية الأخلاقية: "أبداً!" يقول لنا كاتب الرواية الذي يتابع في هذا العمل الذي صدر عام 2010 سبره لأغوار شخصيات رواياته دون اهتمام زائد بالحبكة أو المناخ العام لعمله. فما يهمه هنا وفي المقام الأول كيف تنعكس أوضاع الشخصية وما يطرأ عليها في حياتها وتبدل في شخصيتها "أو بالأحرى تفضح حقائق كانت مخبوءة خلف أقنعة سميكة".
ومايكل بيرد لم يعد مضطراً وقد حقق المجد الأسمى في عالم الفيزياء، أن يواصل وضع أقنعة تخفي حقيقته، لكنه في الوقت نفسه بات مضطراً إلى مضاعفة الثمن الذي يدفع عادة مقابل تلك "الثقة الزائدة بالنفس". فهو الذي كان في الماضي "زير نساء" صاحب نساء كثيرات وتزوج خمسا منهن لم يفته أن يخون كل واحدة منهن دون وازع من ضمير، ها هي زوجته السادسة التي تزوجها بعد فوزه بنوبل، تخونه وليس مرة واحدة. فهو العائد الآن من مؤتمر علمي كبير شارك فيه في كوبنهاغن، والطريف أن ماكيوان يصف هنا من خلال هذا المؤتمر الذي كرم فيه بطل روايته، مؤتمراً حقيقياً مشابهاً شارك هو نفسه فيه بوصفه مهتماً بالاحتباس الحراري وبحوث الطاقة البديلة والطاقة الخضراء.
المهم أن بيرد وإذ يعود إلى بيته وزوجته بعد وصوله من كوبنهاغن، يفاجأ برجل نصف عارٍ يتجول في صالون بيته. فيفقد أعصابه ويقتل هذا الرجل وقد أدرك أنه عشيق جديد لزوجته، ثم يغطي جريمته بحيث يبدو أن من اقترفها ليس سوى العشيق السابق للزوجة نفسها: مساعد بيرد العالم الشاب توم.
حكاية توم
لتوم هذا في حياة بيرد حكاية تفسر كيف أن هذا الأخير تمكن من خلال قتل الرجل نصف العاري في صالون بيته وسعيه لإلصاق التهمة بتوم، وتفسر أيضاً سبب شعوره إثر ارتكابه جريمة "الغيرة الزوجية" بأنه قد تنفس الصعداء، إذ شعر بأنه ضرب أكثر من عصفورين بحجر واحد، بحسب تعبيره وهو يحدث نفسه مطمئناً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فمن ناحية أولى تخلص من منافسين له على زوجته، ومن ناحية ثانية لقن زوجته درساً لا يمكنها نسيانه، لكنه من ناحية ثالثة، وهذا هو الأهم: بات في طريقه لأن يتخلص من مساعده بصرف النظر عن كون هذا الأخير عشيقاً لزوجته. وهذا ما يعيدنا إلى وقائع المؤتمر العلمي الذي انتهى عقده في العاصمة الدنماركية. فهناك وإذ كان على مايكل بيرد، نجم المؤتمر من دون منازع، أن يلقي بحثاً يدور من حول المسائل العلمية التي مكنته من أن ينال جائزة نوبل، وجد نفسه عاجزاً، وربما تحت وطأة الجائزة الأسمى، عن كتابة أي سطر في بحثه.
جاءته النجدة من مساعده توم، الذي كان قد طلب إليه مراجعة بحث كتبه هو – أي توم – يتعلق بالمسائل العلمية المطروحة نفسها. وهو إذ قرأ البحث ذهل فهو يتجاوز ما كان يفكر فيه وكل البحوث التي اشتغل عليها طوال سنوات وحققت له مكانته وشهرته. وهكذا من دون أدنى تردد استحوذ على بحث توم وقدمه باسمه في المؤتمر لينال تصفيقاً وإعجاباً كبيرين.
وكان بيرد مطمئناً على أية حال: حتى لو فضح مساعده حقيقة ما حصل وأذاع أنه هو وليس معلمه من كتب البحث، هل كان لأحد أن يصدقه؟ ففي البحث أسلوب بيرد وأفكاره. ومع ذلك ها هو هذا الأخير، إذ تتاح له لاحقاً، وقبل أن يدخل توم على خط البحث، فرصة التخلص من توم باعتباره قاتل منافسه على فؤاد زوجة معلمه، يزداد طمأنينة وراحة بال.
على الطريقة الإنجليزية
الحقيقة أن علينا أن نتنبه هنا إلى أن إيان ماك إيوان تعامل مع موضوعه بطرافة يشوبها حس فكاهة سوداء على الطريقة الإنجليزية، وهو أسلوب كان قد اتسم به بعض أعماله السابقة عبر صفحات أطربت قراءه وانطبعت بقدر من الأدب الغرائبي، كما الحال في روايته "يوم السبت" التي حولتها السينما إلى فيلم ممتع بالغ الطرافة، لكن يبدو أن النقاد، وربما أيضاً القراء، الأميركيين كان يفضلون على ذلك روايات أخرى له اتسمت بقدر كبير من الجدية وتعاملت مع حبكات تتعامل مع مسائل مثل الموت والهوية والحب، كما مثلاً في روايتين كبيرتين له تحولتا إلى فيلمين حققا نجاحاً كبيراً.
لكن خاصية "التكفير" التي تناولت في طريقها حبكة تتعلق بمفهوم الأدب الروائي نفسه من خلال حكاية حب وحرب وذنب تكفر عنه صاحبته باستخدام رواية تكتبها للتعويض على جريمة عاطفية كانت ارتكبتها وهي في بداية سنوات مراهقتها، وها هي الآن وقد أضحت كاتبة عجوزاً ذائعة الصيت، تعيد إحياء ضحيتيها (أختها الكبرى وحبيب هذه الأخيرة) من خلال حبكة روائية بالغة الجمال والروعة.
يقيناً، إن ذلك هو نوع الأدب "الجاد" الذي يبدو أن تفضيل الأميركيين له كان في خلفية غيظ ماك إيوان منهم ووصفهم بجمود فكري أنساهم قدرة الأدب الإنجليزي على أن يكون فكاهياً من دون أن يحاول أن يؤذي أحداً.