ملخص
الجثث مبعثرة في الشوارع، والمشارح مثقلة بما فيها، وقد تحللت هذه الجثث الآن بسبب انقطاع الكهرباء.. فمن يدرأ الطاعون؟
بينما تتعثر مفاوضات التهدئة تتواصل المعارك في العاصمة السودانية الخرطوم بين قوات الجيش والدعم السريع، وسط اتهامات متبادلة بارتكاب انتهاكات ضد المدنيين من دون أن يلوح أي بصيص أمل بنهاية قريبة للحرب المستعرة منذ 15 أبريل (نيسان) الماضي.
غرقت الخرطوم وسكانها أكثر في معاناتهم المتمددة كل يوم، وجاء الموت ليضيف كارثة أخرى إلى أوجاع الحياة في ظل المعارك، فالجثث باتت مبعثرة في الشوارع، والمشارح المهملة مثقلة بما فيها مع غياب الكوادر الطبية، وقد تحللت هذه الجثث الآن بسبب انقطاع الكهرباء لتشكل أكبر الهواجس والمخاطر على البيئة والصحة العامة.
تصاعد المخاطر
وسط التحذيرات المتصاعدة من كارثة بيئية خطرة تحدق بالعاصمة السودانية، كشفت نقابة أطباء السودان عن وجود أكثر من 3000 جثة في الخرطوم تحلل بعضها بشكل جزئي في الشوارع، وكثير منها لم يدفن أو يدخل المشارح، محذرة من أن استمرار انقطاع التيار الكهربائي عن المنشآت الطبية وعدم وجود كوادر فيها بسبب المعارك سيقود إلى كارثة وبائية على الأبواب، بينما كان المجلس الاستشاري للطب العدلي في البلاد حذر في وقت سابق من مغبة تكدس الجثث مما قد يؤدي لانتشار مرض الطاعون في ولاية الخرطوم، مؤكداً أن المخاطر في هذا الخصوص تتعاظم كل يوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في السياق، حذر الأمين العام للمجلس الأعلى للبيئة بولاية الخرطوم بشري حامد، من تفاقم الوضع وتحوله إلى كارثة حقيقية في ظل استمرار الحرب التي تركت المشارح من دون كهرباء أو كوادر فتحللت الجثث وأصبح الناس يشكون الروائح الكريهة المنبعثة منها، لكن الأخطر من كل ذلك هو انتشار الأمراض والأوبئة المختلفة.
وأضاف حامد "بات خطر الجثث من أكبر التحديات البيئية والصحية التي تواجه ولاية الخرطوم في الوقت الحالي، وتضعها وجهاً لوجه أمام خطر الطاعون، ويشمل ذلك أيضاً أولئك اللذين يحملون السلاح، وعليهم أن يعلموا أنهم مهددون بسبب الوضع في المشارح أكثر من تهديد السلاح نفسه".
بعد فوات الأوان
يشير مسؤول البيئة إلى أنه على رغم إجراء بعض المعالجات الإسعافية الأولية لهذه المشكلة فإنها ظلت قائمة بسبب انقطاع التيار الكهربائي وتراكم الجثث بصورة تفوق بكثير طاقة المشارح، لافتاً إلى أن مشكلة تكدس الجثث قديمة، لكنها تفاقمت مع كارثة الحرب.
وتوقع حامد حدوث تداعيات صحية وبيئية كبيرة لهذه المشكلة، فمشارح عدة في مناطق بولاية الخرطوم لم يعد ممكناً الوصول إليها، وحتى لو تم ذلك فسيكون قد فات أوان معالجة الأمر بعد أن تحللت الجثث داخلها وتحولت إلى معضلة حقيقية.
ودعا أمين البيئة إلى ضرورة التحرك العاجل لمعالجة ما يمكن تداركه لتخفيف الآثار البيئية والصحية عبر نقل الجثث ودفنها بالطريقة القانونية والشرعية مع حفظ البيانات والمعلومات الكاملة المتعلقة بها، بخاصة أن بعضها يرتبط بقضية فض اعتصام القيادة وقضايا جنائية كبيرة أخرى، ثم مسألة التعقيم والنظافة بالمطهرات والمبيدات، وهي من مطلوبات النظافة كأمر عاجل.
وناشد بشري طرفي الحرب أن يتفهما هذا الوضع الكارثي الذي سيؤثر فيهم أنفسهم أكثر من الآخرين، بخاصة أن الخريف قد بدأ، وستنقل مياه الأمطار بقايا الجثث والميكروبات المختلفة الناتجة منها، مما سيتسبب في الأوبئة والأمراض بصورة كبيرة جداً، لذلك فإن الأمر بات يتطلب (من شدة خطورته) تدخل المجتمع الدولي بصفة عاجلة للحفاظ على حياة المواطنين والبيئة.
ميكروبات المعامل
من جهة أخرى، حذر متخصصون في المعمل المركزي للأبحاث البيطرية بمنطقة سوبا شرق الخرطوم، من تداعيات بيئية كارثية محتملة جراء اقتحام مسلحين قسم أمراض الدواجن وإفراغهم الثلاجات والمجمدات من العينات التي تم جمعها من حالات لأمراض مختلفة مثل إنفلونزا الطيور والجدري وغيرها.
ونوه المتخصصون إلى أن "التفريغ شمل أكثر من 25 ثلاجة، وخطورة الأمر أن المعزولات هي عبارة عن حواضن لميكروبات الأمراض"، محذرين من أن تكرار التعدي على أقسام أخرى في المعمل بما قد يقود إلى انتشار ميكروبات لأمراض أخرى، مثل الجمرة الخبيثة والحمى النزفية والسل وإنفلونزا الخيول وغيرها.
وحذر الأمين العام للمجلس البيطري السوداني سمير عبد الرسول، من أنه إذا لم يتم التعامل مع هذه العينات وفقاً لاشتراطات ومعايير الحفظ والسلامة، أو الإجراءات الصحية الخاصة بالتخلص من المنتجات البيولوجية البيطرية، فقد يؤدي ذلك إلى الإصابة بالمرض الذي يسببه الميكروب، سواء كان مرضاً حيوانياً أو مشتركاً بين الحيوان والإنسان.
تحسبات وبائية
من جانبها، تؤكد وزارة الصحة الاتحادية أنها تعمل مع منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية من أجل تقوية نظم الاستجابة لمجابهة الأوبئة.
وبحث اجتماع موسع، أمس الثلاثاء، ضم قيادات وزارة الصحة وممثلي إدارة الطوارئ ومكافحة الأوبئة والمنظمات الدولية والتابعة للأمم المتحدة وعدد من المتخصصين، وضع الصحة العامة في البلاد، والوضع الوبائي، وكيفية تسيير خدمات الرعاية الصحية الأساسية، وخدمات المستشفيات، وبعض الأمراض المنتشرة أخيراً في ولايات عدة بالسودان على أثر ظهور بعض حالات الإصابة بالإسهال المائي في ولاية جنوب كردفان، والحصبة في عدد من الولايات بخاصة ولاية النيل الأبيض.
واستعرض الاجتماع المعالجات والتدابير التي قامت بها وزارة الصحة الاتحادية والمنظمات الدولية لتوفير المعينات الأساسية، موجهاً بضرورة تقوية آليات الترصد المرضي والاستجابة للأوبئة الحالية مع منظمات المجتمع الدولي.
وشدد الاجتماع على ضرورة إحكام ورفع مستوى التنسيق بين غرف الطوارئ الولائية والغرفة الاتحادية بغرض معالجة البلاغات الواردة وتوحيد المعلومات، بخاصة ما يخص توفير الإمدادات الطبية.
وأكد على الحاجة الماسة لاستكمال المعينات الأساسية من مبيدات ومدخلات سلامة المياه والأغذية، منوهاً إلى أنه سيتم التواصل مع الشركاء من منظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، إضافة إلى وزارة المالية، لسد هذه الفجوة بصورة عاجلة، مثمناً الدور الكبير والفعال لكل الكوادر الطبية العاملة في القطاع الصحي في ظل هذه الظروف.
واتفق المجتمعون على ضرورة إشراك المنظمات، والتنسيق الكامل مع الوزارة من أجل الاستعداد الجيد لمجابهة الأوبئة المتوقعة، وتوجيه الكوادر المدربة من برنامج الوبائيات الحقلي ونواب اختصاصيي الصحة العامة للالتحاق بغرف الطوارئ ومكافحة الأوبئة بولايات السودان المختلفة.
إهمال ومخاوف
بحسب متابعين، فقد حال استمرار الحرب دون الوقوف على الأوضاع الحالية في المشارح وتقييم حجم الأضرار التي لحقت بها نتيجة المعارك، بخاصة في ظل انقطاع التيار الكهربائي وتوقف الثلاجات الخاصة بحفظ الجثامين، ولا يستبعدون أن تكون قد تعرضت للدمار الكلي أو الجزئي بسبب مقذوفات القصف المدفعي الطائشة التي دمرت كثيراً من المباني. ويخشون أن تكون الجثامين في تلك المشارح قد تعرضت للأكل والنهش بواسطة الكلاب والقطط الضالة بعد أن هاجمتها الفئران في وقت سابق، وأصبحت بعد الحرب لا تختلف عن تلك الموجودة في الشوارع.
ممثل منظمة الصحة العالمية في السودان نعمة عابد، وصفت حجم الأزمة الصحية في البلاد بالهائل، مؤكدة على العمل الجاد من جانب المنظمة لتكثيف استجابتها وتقديم الإمدادات الطبية الحرجة والطارئة على رغم تواصل الهجمات على المرافق الصحية وانعدام الأمن الذي يفاقم التحديات.
ونبهت المنظمة، في بيان، إلى أن الأزمة الصحية في السودان بلغت مستويات خطرة للغاية، حيث لا يزال أكثر من ثلثي المستشفيات خارج الخدمة، وسط تقارير متزايدة عن شن هجمات على المرافق الصحية.
وأوضحت أنها أطلقت نداء طارئاً لجمع 145 مليون دولار أميركي في يونيو (حزيران) الماضي، لكنها لم تتلق حتى الآن سوى 10 في المئة من المبلغ المطلوب، مرجحة أن تتفاقم الأزمة الصحية أكثر مع تضاؤل فرص السلام.
وأكدت المنظمة تحققها خلال الفترة بين 15 أبريل و24 يوليو (تموز) الماضيين، من وقوع 51 هجوماً على المرافق الصحية، تسببت في وفاة 10 أشخاص وإصابة 24 آخرين، فضلاً عن قطع طرق الوصول على المحتاجين إلى الرعاية الصحية.
وتضم الخرطوم أربعة مشارح كبيرة بمستشفيات أم درمان، والأكاديمي، وبشائر، وأمبدة، تبلغ سعتها الاستيعابية مئات الجثامين.
ومنذ عام 2019 أوقف قرار حكومي دفن أية جثة، مما تسبب في تكدس كبير للجثث حتى وصل العدد إلى نحو 3000 جثة، مما شكل ضغطاً كبيراً على المشارح.
ويرجح أن بعض الجثامين الموجودة في المشارح منذ نحو ثلاث سنوات تعود إلى ضحايا عملية فض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للجيش في 2019، وكذلك الذين سقطوا أثناء الاحتجاجات التي اندلعت عقب انقلاب قائد الجيش على الحكومة الانتقالية المدنية برئاسة عبدالله حمدوك في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، إلى جانب الضحايا الذين سقطوا خلال الحرب بين الجيش و"قوات الدعم السريع"، الممتدة إلى الآن.