Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"أبي قتل أمي" صرخة تطلقها الروائية البرازيلية باتريسيا ميلو

"نساء قتيلات" رواية تفضح زيف الرجل وعدوانيته وتواطؤ النساء مع العنف

ملصق في يوم الدفاع عن المرأة ضد العنف (حقوق الصورة محفوظة - مواقع التواصل الاجتماعي)

المنزل أمان المرء وملاذه من قسوة العالم، لكنه ليس دائماً كذلك بالنسبة للنساء، وهذا ما أشار إليه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، في تصريحات أدلى بها العام الماضي، بمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة. وأكد أن هناك امرأة تقتل كل 11 دقيقة، على يد شريكها أو أحد أفراد أسرتها. ورغم تفاوت دول العالم في معدلات العنف ضد المرأة، تظل المجتمعات ذات الثقافة الأبوية هي الأكثر وحشية وقسوة، وقتلاً للنساء.

ولكون البرازيل واحدة من الدول الموسومة بالعنف، حد أنها تحتل المرتبة الخامسة عالمياً في معدل قتل الإناث، قررت الكاتبة البرازيلية باتريسيا ميلو، طرْق هذه القضية الخطيرة في روايتها "نساء قتيلات"، الفائزة بجائزة غابوتي، الجائزة الأدبية الأهم في البرازيل، والتي صدرت نسختها العربية أخيراً عن دار العربي - القاهرة، بترجمة شذى الكيلاني.

تندرج الرواية في فئة روايات الجريمة. وقد استهلت الكاتبة فصولها بأخبار حول جرائم قتل حقيقية، تعرضت لها نساء برازيليات، كان القاتل فيها دوماً شريك المقتولة أو أحد أفراد أسرتها لتعزز ميلو - عبر استهلالاتها- واقعية الأحداث. وترصد في الوقت نفسه هول ما تتعرض له النساء على يد الرجال، رغم تفاوت ثقافاتهم، وطبقاتهم الاجتماعية.

حبكتان متوازيتان

تمضي أحداث الرواية -عبر سرد ذاتي- في حبكتين متوازيتين، تلعب المحامية الشابة دور البطولة في كلتيهما، وتحاول الكاتبة عبرهما رصد قضايا نفسية، وكذلك اجتماعية خطيرة، تتصل بالعنف والتمييز ضد النساء. في الحبكة الأولى تعاني البطلة عطباً نفسياً، نتيجة جريمة شهدتها في طفولتها، حين قام أبوها بقتل أمها، فباتت هذه الحادثة هويتها الحقيقية، وأزمتها المستمرة، رغم محاولاتها نسيان الماضي وتجاوزه. ولإبراز عمق هذه الأزمة اعتمدت الكاتبة تقنية التكرار لعبارة "أبي قتل أمي".     ورغم قسوة الصفعة التي تلقتها البطلة من حبيبها، فإنها كانت طوق نجاتها، من مثالية زائفة وعدوانية مستترة للرجل. غير أنها نبشت في الوقت نفسه قبور الذاكرة، وأيقظت ميراثاً كامناً من الغضب. أما الحبكة الثانية فبدأت مع وصول البطلة/ الساردة؛ مدينة كروزيرو دي سول، في ولاية أكري الحدودية، لإنجاز عمل، يتصل برصد العنف ضد النساء، وأيضاً هروباً من حبيبها العدواني. وقد اختارت الكاتبة هذه الولاية؛ فضاءً مكانياً للأحداث، لما تتسم به من خطورة، وما تشهده من جرائم قتل، وعنف، وتمييز ضد النساء، لا سيما إن كن سوداً، أو فقيرات، أو من السكان الأصليين، وهو ما يتسق مع القضية الرئيسة للسرد.

تشاركت الحبكتان الجريمة كمحرك رئيس للأحداث، فكانت في الأولى جريمة قتل الأم، التي استعادتها البطلة عبر تقنيات التذكر، أما في الثانية، فكانت جريمة قتل فتاة من السكان الأصليين، لم تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها وتدعى "تشوبيرا"، ثم توالت جرائم أخرى.

 

 

أطراف الصراع

أتاحت الحبكتان تنوع أطراف الصراع، فبينما كان "أمير" (الحبيب السابق)؛ الطرف الرئيس للصراع مع البطلة في الحبكة الأولى، بعد أن قررت إنهاء علاقتها به، كان الشبان الثلاثة الأثرياء، المتهمون بقتل "تشوبيرا"، هم أطراف الصراع في الحبكة الثانية. ومع توالي جرائم القتل التي طاولت الشخوص الثانوية مثل الصحافية "ريتا"، والمحامية "كلارا"، تعددت أطراف الصراع، وتحولت غاية الشخصية المحورية، من إثبات تورط الشبان الثلاثة في اغتصاب "تشوبيرا" وتعذيبها وقتلها، إلى محاولة الكشف عن هوية الجاني المسؤول عن الجرائم التالية لقتلها، والتي شملت حتى الشبان الثلاثة، مما زاد من غموض الأحداث وسمح للكاتبة أن تمضي بالسرد بعيداً من توقعات القارئ، وتدفع بالمزيد من التشويق، والإثارة في النص. لا سيما عبر ما لجأت إليه من حيل استباقية، تارة بالإشارة إلى عثور "ريتا" على دليل إدانة الشبان الثلاثة، ثم تعزيز غموض هذا الدليل بموتها، وإرجاء الكشف عنه، وتارة عبر استدعاء رسائل نصية جنسية - تخللت النسيج- وصلت البطلة عبر هاتفها، وإرجاء تفسير سرها ودوافعها. ولم تكتف ميلو باستدعاء القتل في صورته الحقيقية، وإنما عمدت إلى إبراز نوع أخر من القتل النفسي الأشد قسوة، والذي بدا في ما جنته البطلة من قتل افتراضي على يد حبيبها السابق، حين قام بنشر صور، ومقاطع فيديو حميمة لهما على مواقع إباحية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكما كان الصراع الخارجي، وسيلة ناجعة لإبراز مساوئ المجتمع البرازيلي، وطبقيته، وازدرائه للمرأة، أضاء الصراع الداخلي، في العوالم المخفية للشخوص، سوءات النفس الإنسانية، ووشى بمسؤولية النساء عما يتعرضن له من عنف. فرغم دراية البطلة بسيكولوجية الرجال العدوانيين، وتدرج مستويات العنف لدى بعضهم على نحو ينتهي عادة بالقتل، صارعت في داخلها رغبة في العفو عن حبيبها العدواني، وجنوحاً لتجاوز إساءته. وهذا الصراع تتشاركه في العادة أغلب النساء اللاتي يتعرضن للعنف، واللاتي يمنحن الجاني بعفوهن عنه، وتعاطفهن معه؛ تصريحاً لاحقاً بالقتل... "تمكنتُ اليوم من الحصول على حكم صدر ضد رجل أحمق شوَّه وجه حبيبته، وحوَّلته من الحبس الاحتياطي إلى السجن، ظننت أنها ستفرح، ولكنها كادت تنهال عليّ بالضرب، قالت إنها لم ترد سجنه، سألتها عما أرادت. أجابت أنها أرادته أن يتوقف عن ضربها لا أكثر". ص 147.

ثقافة الشعوب الأصلية

أتاح الفضاء المكاني للأحداث، إضافة إلى تمثيل السكان الأصليين داخل النص؛ إمكانية إبراز التنوع العرقي، والخصوصية الثقافية لكل عرق وما يعانيه بعضهم من الفقر والتمييز. ورصدت الكاتبة ملامح هؤلاء السكان، ومحاولاتهم خلخلة هوان الفقر؛ بهيبة يحققها لهم رسم خطوط سميكة حول أعينهم. وتطرقت إلى زي نسائهم، من ريش ذيول الببغاوات، وأساورهن المصنوعة من الريش، والتنانير المحوكة من ألياف نباتية، وما يرتديه الرجال من أقنعة زاهية اللون من الكتان، وما يقومون به من دهن أجسادهم بلون مستخلص من شجرة البكسة الأورلانية. وتطرقت كذلك إلى أدواتهم من الأقواس، والسهام، والحلي المصنوعة من الريش. ورصدت موسيقاهم، رقصاتهم، مكونات أطعمتهم، أدويتهم العشبية، وبعض طقوسهم الدينية، التي تعتمد على مشروب "الآياهواسكا"، المعروف بتأثيره المهلوس، والذي تستخدمه هذه القبائل لفتح العقل، وخلق رؤى روحية كشفية، استخدمتها الكاتبة كوسيلة لاستدعاء الفانتازيا، التي كشفت عبرها عن مخزون هائل من الغضب، جراء ما تتعرض له النساء من عنف.

ولكون السحر مكوناً أصيلاً في ثقافة هذه القبائل، نقلت الكاتبة اعتمادهم عليه، لا سيما للانتقام وتحقيق العدالة... كذلك كان السحر وسيلة، نقلت الكاتبة من خلالها، التمييز ضد المرأة، حتى بين هولاء السكان. فرغم ما يتعرضون له من تهميش، لا ينفكون يهمشون نساءهم، حد أنهم ظلوا - طوال تاريخهم- يمنعونهن من ممارسة السحر، ويقصرونه على الرجال.

 

 

العدواني والضحية

إلى جانب المتعة التي يتيحها النص لما يتسم به من إثارة وغموض، وهي سمات أصيلة لأدب الجريمة، طرقت الكاتبة الكثير من القضايا الاجتماعية التي تؤرق المجتمع البرازيلي، بداية من العنف ضد المرأة، ومروراً بقضايا البيروقراطية، الإهمال، الفساد وعدم تطبيق القانون. فالمحلفون يمكن شراؤهم، والأطباء الشرعيون لا ينتبهون للشبهة الجنائية، والجناة يفرون بلا عقاب، والشرطة لا تصل إلا متأخرة.

وإضافة إلى ما أثارته ميلو من قضايا اجتماعية، حاولت بلوغ المنطقة المظلمة من النفس الإنسانية، وفهم سيكولوجية الرجل العدواني، والمرأة الضحية. ورصدت بعض الظواهر النفسية مثل "الإزاحة"، التي تجعل الرجل ينفس عن إحباطاته عبر تعنيف النساء وقتلهن ، وكذلك "متلازمة استكهولم"، التي تدفع الضحايا للتعاطف مع الجناة، إضافة إلى "لوم الضحية" كسمة أصيلة في الثقافات الأبوية، والمجتمعات التي تحمل قدراً من الكراهية للنساء. وقد مرَّرت الكاتبة رؤى وضعت هذه الكراهية، إضافة إلى الأفلام الإباحية، في مقدم الأسباب المباشرة لقتل النساء: "الإباحية مصنع حقيقي لإنتاج قتلة النساء. يقضي الرجال حياتهم وهم يشاهدون هذا الهراء. يرون كيف نُقيد، وكيف نُضرب على ظهورنا بالسوط، ومن ثم يصبح أمراً عادياً لديهم خنق المرأة إن غضبوا" ص104.

استدعت الكاتبة حمولات معرفية، يتصل بعضها بجغرافيا البرازيل، تاريخها، غاباتها، والتنوع العرقي لسكانها. ومررت معارف أخرى عبر ما استخدمته من صور التماثل، لا سيما بين سلوك البطلة وأنثى اليعسوب، التي تتظاهر بالموت للهروب من ممارسة الجنس مع الذكور العنيفة. وبين سلوك حبيبها السابق وفرس النهر، الذي ينثر برازه حوله، أملاً في أن يغوي أنثاه! وكما برز حضور المعرفة، برز حضور آخر للأسطورة، إذ استدعت أسطورة بينلوبي، وأساطير السكان الأصليين، حول أصل وجودهم ونشأتهم. وانسجم حضور الأسطورة مع الفانتازيا، التي تسللت في مساحات واسعة من النص، عبر أحلام البطلة، التي عكست مشاعر الغضب، إزاء ما حصدت النساء من عنف. ومررت الكاتبة عبر تلك الأحلام، وعبر مواضع أخرى من السرد، رؤى ضمنية تميل إلى إعدام القتلة، رغم إلغاء هذه العقوبة في البرازيل.

ورغم إزالة الغموض مع انتهاء السرد، والكشف عن الجناة الحقيقيين، اختارت الكاتبة نهاية مفتوحة، فلم تحسم صراع البطلة مع حبيبها السابق، بل أججت هذا الصراع مع نهاية الأحداث، ربما أملاً بأن تحرك بحيرة ساكنة، في مجتمع يعاني واقعاً فاسداً، أثمر تلالاَ من النساء القتيلات.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة