Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البريطاني درك مالكوم آخر نقاد السينما في العصر الذهبي

كان يعيد النظر في آرائه بجرأة وترك إرثاً من الكتب والمقالات المرجعية نقدا وتأريخا

درك مالكوم فائزاً بجائزة (صفحة الكاتب - فيسبوك)

ملخص

كان يعيد النظر في آرائه بجرأة وترك إرثاً من الكتب والمقالات المرجعية نقدا وتأريخا

مر رحيل الناقد السينمائي البريطاني الشهير درك مالكوم (1932 - 2023) من دون أن يترك خلفه أثراً لافتاً في الصحافة العربية خلافاً للإعلام الغربي. ما عدا بعض الذين جايلوه وقرأوا له في "الغارديان" وغيرها من الصحف طوال عقود. فبدا أن كثراً من الشباب لا يعرفون أهمية هذا الناقد في مضمار الثقافة السينمائية، عند الذين يقرأون بالإنجليزية. في أي حال، مالكوم من الأسماء التي من الممكن إعادة اكتشافها حتى بعد رحيله من خلال مجموعة مقالات له متوافرة على الإنترنت أو في الكتب التي تركها خلفه. صحيح أن شهرته العالمية لم تصل إلى تلك التي نالها زميله الأميركي روجر إيبرت (رحل قبل عشر سنوات)، إلا أن من الصعب تجاهل فكرة أنه واحد من آخر شيوخ النقد السينمائي في عصره الذهبي، حينما كان للأخير حضور في الحياة الثقافية وكان للنقّاد كلمة مسموعة. مع رحيل مالكوم، يخسر النقد أحد كباره الذين كتبوا بلغة شكسبير مقالات تجمع بين خفّة الدم والعلم والقراءة الذاتية والرؤية الفنية في آن واحد، وحملت روح كاتب عصيّ على التقليد.

ظل مالكوم يتابع المهرجانات السينمائية ويغطيها، حتى آخر سنوات حياته وهو في منتصف ثمانينياته ولم "يقلع" عن ارتيادها إلا بعدما بدأ جسده يتعب وصحته تضعف. تعرفتُ إليه في هذه المهرجانات، وكنا نلتقي على أبواب الصالات، فنتبادل بعض الكلام عن الأفلام، وكانت تعابيره مطعّمة على الدوام بخفّة وطرافة، فهو كان على هذا المستوى الـ"بريتيش" الأصيل الذي يلعب بالكلمات كما لا أحد، ويكاد لا ينطق بكلمة لا تحمل سخرية.

عقل وثقافة

ارتبط اسم مالكوم بالـ"غارديان" التي كتب فيها لربع قرن (من مطلع السبعينيات حتى 1999) و"الإيفنينغ ستاندارد" (عشر سنوات)، فتحوّل مؤسسة في ذاته: عقلٌ نير وثقافة واسعة وقدرة عالية على تفكيك ما تخفيه الأفلام من حقائق وإيحاءات. نال الاحترام في كل أصقاع الأرض وكان له الكثير من المتابعين والقراء، من أميركا إلى الهند، مستفيداً من انتشار اللغة الإنجليزية. لم يكن يتوانى عن انتقاد أفلام متواضعة لمخرجين كبار، وهذا مما صنع شهرته. كما أنه لم يبخل على التلفزيون بإطلالاته، إذا قدّم برنامجاً سينمائياً على الـ"بي بي سي 2" في منتصف الثمانينيات.

على رغم الأهمية التي وصل إليها في مجاله، فلم يكن الفتى الذي كان يحلم بالسينما منذ الصغر. بعد الجامعة، راح يحاول اقتحام مجال النشر. يعترف أنه فشل في تلك الفترة ولم يكن يعرف ماذا يفعل. كان يكتب كثيراً، وفجأةً صار خيّالاً لأحصنة السباق. توجّب عليه القفز فوق الحواجز وليس السباق العادي، ولكنه لم يرغب في أن يمضي بقية حياته في مثل هذا العمل، على رغم فوزه 13 فوزاً. ثم فُتِحت أمامه أبواب التمثيل المسرحي، وأتيح له العمل مع جوان أوزبورن وهارولد بنتر.

كان حبّه الأكبر إنتاج المسرحيات، لكن الظروف لم تساعده، فوجد نفسه في مجال الصحافة. ولكونه خريج أكسفورد، قررت الصحيفة التي عمل فيها أن تجعله مراسلاً اجتماعياً، معتقدةً أنه "صديق" المشاهير. ثم التحق بـ"الغارديان"، فصار نائباً لرئيس قسم الفنون. فجأةً، قررت "الغارديان"، وهي كانت جريدة تقليدية بحسب مالكوم، تأسيس صفحة يومية عن سباق الخيل، فاقترحت الإدارة عليه تولّي شؤون هذه الصفحة. روى قائلاً: "في مرحلة ما من وظيفتي في "الغارديان"، كنتُ نائب الناقد المسرحي ونائب الناقد السينمائي ومراسل سباق الخيل. كان هذا أمراً مضحكاً. وفجأةً، طُرد ريتشارد راود من عمله كناقد سينمائي معتمد في الجريدة، وعُينتُ أنا مكانه". يروي مالكوم أيضاً أن الاستغناء عن راود بسبب مقالة "غير لائقة" كتبها عن "صوت الموسيقى" (اكتفى بقول كلمة "لا" بدلاً من نقد حقيقي) جعله يسهر على كتاباته ويتسلّح بالحجج وأن يقول ما هي المبررات التي تجعله يحب هذا العمل أو لا يحبه.

كان يدّعي أن ذوقه كلاسيكي جداً ولم يكن يعير اللوائح التي يضعها النقّاد والمجلات، أي اهتمام يُذكر، معتبراً أن هذه التقييمات تتعلّق بالمكان الذي يأتي منه الناقد وليس الأفلام التي شاهدها حين كان في الثانية والعشرين أو الأشياء التي اكتشفها للمرة الأولى. أي أنه كان يربط بين النقد وتجربة الناقد الذاتية. في مقابلة لي معه، قال: "هناك أسماء تعرفت إليها في شبابي ورافقتني حياتي كلها، ومن هؤلاء إنغمار برغمان. مَن هم أصغر منّي سناً، اكتشفوا كلود شابرول وجان لوك غودار وأندره تاركوفسكي. ثم فجأةً، شاهدوا "جانّ دارك" لكارل دريير. من الأفلام التي كنتُ أدرجها عادةً في هذه القوائم: "سارقو الدراجات" لفيتوريو دي سيكا. صادف أن شاهدته مجدداً وقلتُ في نفسي: "يا إلهي، لا يمكن إنجاز أفضل منه". لذا، وضعته مجدداً في لائحة أفلامي المفضّلة، علماً أن الفيلم كان يتربع في الخمسينيات على عرش أفضل الأفلام على الإطلاق".

لم يمنعه عدم حبّه للوائح من أن ينشر كتاباً بعنوان "قرن من الأفلام"، بعد خروجه من "الغارديان"، عن أفلامه المئة المفضّلة. وعندما سألته كيف جرت عملية الاختيار، وهل كان التقويم ذاتياً محضاً، فقال إنه قرر أن يختار فيلماً واحداً لكل مخرج، وانسحب هذا المبدأ على الجميع، من جون فورد إلى هاورد هوكس، فهو لم يرد كتاباً أكاديمياً، بل نابعاً من ذوقه الشخصي. صدر الكتاب في عام 2000، وفي عام 2012 عند لقائي به في الهند التي أحبّها وكان يزورها باستمرار، وددتُ معرفة ماذا لو أعاد تأليفه اليوم، أي بعد عقد فقط، فهل يغيّر فيه الكثير، فرد قائلاً: "نعم. سيطرأ عليه تغيير في حدود عشرة في المئة. مشكلتي أنني لا أعرف أن أختار أياً من الأفلام المعاصرة لإدراجه في اللائحة. فمثلاً، بين "تعال وشاهد" لكليموف و"القيامة الآن" لكوبولا، أيهما تختار لفئة أفضل فيلم حربي؟".

كان مالكوم من النقّاد الذين "يتطور" رأيهم في الأفلام مع مرور الزمن. هذا بناءً على مشاهدة ثانية، تكون ضرورية أحياناً لكشف جوانب لم يدركها من خلال المشاهدة الأولى. قال مراراً إن بعض الأفلام تقدّرها وليس أكثر، ثم تشاهدها مرةً أخرى بعد سنوات لتكتشف أنها من أروع الأعمال. فعندما شاهد "كازانوفا" لفيلليني مثلاً في مهرجان البندقية، كتب مقالاً سلبياً في شأنه، وما إن شاهده مرة أخرى، حتى تجلّت أمامه فجأةً مزايا لم يرها في المرة الأولى. وكتب هذا في الجريدة قائلاً بكل فخر واعتزاز، أنه أخطأ في حكمه الأول.

أما ما يُشاع خطأ عن النقد بأنه يجب أن يكون موضوعياً، فهو كان يراه ضرباً من الحماقة. في نظره أن كل النقّاد مشبعون بالأفكار الجاهزة، والنحو الذي نعيش فيه حياتنا يؤثّر في رد فعلنا إزاء فيلم. لنأخذ فيلماً هندياً: هل من الأفضل أن نعرف الهند جيداً لتقويمه؟ سؤال طرحته عليه في لقائنا الهندي، فكان جوابه: "نعم ولا. هناك عدة مدارس نقدية. يوجد ناقد يقول لك: لا أريد أن أعرف شيئاً عن الهند، ولا عن مصاعب إنجاز الفيلم في الهند، ولا عن الأعمال السابقة للمخرج. أريد أن أشاهد الفيلم بمعزل عن هذا كله وسأعطي رأيي فيه. أنا أعمل على عكس ذلك. كل ما يتجاهله الناقد الآخر يهمّني ويكون ذا أهمية في تقويمي للعمل. لأرى حجم المساومة الذي يقدّمه المخرج، عليّ أن أكون مطّلعاً على الواقع. طبعاً، الأمر أصعب عندما يتعلّق الأمر بفيلم إيسلندي. أحياناً، يطيب لي أيضاً أن أقابل المخرج، وأسأله كيف أنجز الفيلم. ولكن هذا ليس واجباً على كل النقّاد. إني أصنّف نفسي من النقّاد "التدخليين". تقتصر مهمتي على إرسال ناس إلى السينما، لا يكونون دائماً على استعداد تام لمشاهدة أفلام مختلفة. أحياناً أنجح وأحياناً لا. هناك أيضاً نقّاد أكاديميون ونقّاد المجلات السينمائية الشعبية. ليس كل ما أكتبه دراسات نقدية، بل هناك مقالات تكون عبارة عن عرض لفيلم أقول فيها رأيي وأطرح معلومات تفيد القارئ وتساعده في خياره".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اعتبر مالكوم أنه يجب مشاهدة على الأقل 2000 فيلم كي يطرح المرء نفسه ناقداً، لكن ليست هذه بقاعدة إذ إن "بعضهم يملك موهبة الكتابة فيعمل على ثقافته السينمائية فتراه أصبح ناقداً جيداً". أما أسوأ النقّاد في نظره، فهو الذي يتمتّع بالسلطة، مقراً بأن ثمة مقالات كتبها في الماضي وقد يخجل منها اليوم. كان يمنع نفسه أحياناً من فتح الجريدة ليقرأ مقاله، مؤكداً أن على الناقد أن يتميز بخاصية "نقد الذات" قبل نقد الآخرين.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما