Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رسامو الكاريكاتير... خطوط ساخرة للعراق "الحزين"

مشاكسون للسلطة محتجون على الفساد يصطدمون بتهديدات الميليشيات

تأخر فن الكاريكاتير في العراق حتى مطلع الثلاثينيات بسبب تأخر افتتاح أول معمل لـ"الزنكوغراف" (أ ف ب)

ملخص

تاريخ مميز للكاريكاتير العراقي بدأ مستلهماً إبداعاته الأولى من التجارب الإنجليزية والعثمانية والمصرية وصولاً إلى رسومات ضد الفساد تحاصرها تهديدات الميليشيات.

شقت الصحافة الساخرة في العراق طريقها مع الظهور الأول لصحيفة "حبزبوز" في 9 سبتمبر (أيلول) عام 1931، حين أصدرها الكاتب نوري ثابت في بغداد، فكانت نتاج ظاهرة استكمال مؤسسات الدولة العراقية منذ عام 1921، لكن قبل تجربة "حبزبوز" كانت هناك محاولات عديدة لإصدار صحف ساخرة على غرار "الهزل" و"كناس الشوارع" و"سينما الحياة" و"الكرخ"، التي أصدرها أشهر شاعر شعبي ساخر في التاريخ العراقي الحديث، الملا عبود الكرخي، وكذلك جريدة فكاهية أخرى باسم "بهلول" أصدرها الكاتب عبدالقادر المميز وسواها.

غير أن "حبزبوز" تميزت بالاهتمام بالكاريكاتير وتخصيص صفحاتها لهذا النمط الساخر المعبر الذي استهوى الشارع العراقي، حين استقطب رئيسها الكاتب نوري ثابت مجموعة من الرسامين والكتاب والفنانين والشعراء الفكاهيين في صحيفة واحدة يتلقفها أهل بغداد حتى صارت ظاهرة في المجتمع العراقي المتطلع للحرية والتخلص من النظام الموالي للإنجليز.

كانت قصائد الملا عبود الكرخي الساخرة والمتهكمة على الأوضاع في العراق تسري كالنار في الهشيم باعتماده المفارقة والطرفة، ومن خلالها أشيع فن الكاريكاتير، الذي عرفه العراقيون من إنجلترا منذ القرن السابع عشر، وتأثر به مثقفو بلاد الرافدين من الصحف البريطانية الوافدة إليهم، التي كانت تستجلبها الحملة البريطانية إلى البلاد مطلع القرن العشرين، وتنال إعجاب المثقفين الواقعة بلادهم تحت الانتداب البريطاني.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومعنى تسمية "حبزبوز" الغريبة، مأخوذ عن أحد فتوات بغداد في تلك الفترة الذين كانوا يحكمون سطوتهم على محلات بغداد الفقيرة القديمة.

ظل العدد الواحد من "حبزبوز" يحتوي على أكثر من رسم إضافة إلى الغلاف، ومن الفنانين الذين عرفوا فيها مصطفى أبوطبرة وعبدالجبار محمود وسعاد سليم وعطا صبري، علاوة على رسوم رئيس تحريرها نوري ثابت، في وقت شهدت الصحف التي سبقتها "موتيفات" لرسامين مجهولين، يرسمون بأسماء مستعارة، أمثال جحا الرومي ورشيد الصوفي وكناس الشوارع لميخائيل تيسي.

يعزو الصحافي الرائد صادق الأزدي تأخر فن الكاريكاتير في العراق حتى مطلع الثلاثينيات إلى تأخر افتتاح أول معمل لـ"الزنكوغراف" في العراق لعام 1931، حيث يتم التعامل طباعياً مع الرسوم والصور.

رسوم ورسامون ساخرون

ثلاثة من أبرز رسامي الكاريكاتير العراقيين تحدثوا إلى "اندبندنت عربية" عن مكابدتهم حالياً والظروف التي تتحكم بعالمهم، في ظل الفوضى التي تعيشها البلاد وهم من المواكبين لهذا الفن وامتهنوه منذ نصف قرن تقريباً، وأسماؤهم معروفة في الأوساط الثقافية التي تحتفي بنتاجهم لكن الأوساط السياسية تدقق برسوماتهم بحذر.

يقول خضير الحميري، وهو أنشط الرسامين المحترفين الحاليين نتاجاً، "كانت الصحافة الساخرة (المكتوبة) في العراق أسبق من الصحافة الساخرة (المرسومة) لأن الكتابة لا تحتاج إلى الزنكوغراف، فقد صدرت أول صحيفة ساخرة في البصرة عام 1909 عبر جريدة مرقعة الهندي لصاحبها أحمد المشراقي، تلتها جريدة (جكه باز) و(الثرثار) في الموصل عام 1911 لصاحبها عبدالمجيد الخيالي، وتوالى العديد من الإصدارات السريعة الانطفاء في بغداد وغيرها وصولاً إلى جريدة (حبزبوز) في الثلاثينيات والتي استمرت إلى فترة أطول نسبياً".

ويضيف الحميري "الصحافة الساخرة في العراق كانت متأثرة بنظيرتيها التركية (العثمانية) والمصرية، لكن القفزة الحقيقية للصحافة الساخرة المصحوبة بالكاريكاتير كانت مع مجلة (قرندل) لصادق الأزدي 1947، المدعمة برسوم رائد الكاريكاتير العراقي غازي البغدادي، الذي يعد أول من عرف الناس بفن الكاريكاتير بشكله التهكمي المعاصر وجعل رسام الكاريكاتير مطلوباً للترويج لأي مطبوع جديد".

أما ضياء الحجار المولود في بغداد عام 1952 الذي كتب أول أطروحة جامعية عن فن الكاريكاتير المعاصر في العراق، فيرى اليوم أن "الكاريكاتير ظل الحيز الذي ينقل القارئ أو المتلقي للصحيفة من ثقل المادة الجادة وهموم الواقع الثقيلة التي تحتل كل صفحات الصحيفة تقريباً إلى مناخ من الفكاهة والمرح، وهو ضرورة لكل الصحف اليومية والأسبوعية، فإنه عصب الحياة والضرورة القصوى للصحافة الساخرة".

وأضاف "شخصياً أنا رسام كارتوني شامل ولست متفرغاً لرسم الكاريكاتير فقط، وبالدرجة الأولى أنا منشغل في معظم أوقاتي برسم القصص المصورة، ولكني أرسم الكاريكاتير بنشاط عندما ألتزم عقداً مع الصحف كما كنت في السبعينيات والثمانينيات، ولكن وبعد تجربة عقود من رسم الكاريكاتير للصحف الورقية أدركت في العقدين الأخيرين بأن الالتزام مع الصحف يحد من حريتي في النقد الساخر للجهات التي تخشاها إدارات الصحف أو تجاملها، فابتعدت عن الورقية وحتى الإلكترونية لأخذ حريتي التامة في (فضح الفساد والفاسدين من كل الجهات) بالكاريكاتير".

ومضى في حديثه "من خلال صفحتي بـ(فيسبوك) أفضح الفساد، ولكني لا أفعل ذلك يومياً، لذلك قد أبدو شبه متوقف كاريكاتيرياً، ولكن من يراجع صفحتي يتأكد له اختلافي الشديد عمن يرسم الكاريكاتير من الزملاء في تقنيات الرسم وجرأة الفكرة فأنا صريح ولا أجامل ولا خوف عندي، طالما كنت أعمل ضمن دولة ينص دستورها على (حرية الرأي)".

في حين يعتبر الرسام المتخصص خريج معهد وأكاديمية الفنون في بغداد، عبدالرحيم ياسر، أن الأهمية الأوسع للصحافة الهزلية العراقية كانت في مطلع السبعينيات من القرن الماضي مع تطور الطباعة في البلاد، وإصدار مجلات وكتب الأطفال التي استدعت انخراط كثير من الرسامين في هذا المجال.

وذكر "وعموماً فإن هناك خاصيتين في هذه المرحلة، أولاهما أن معظم الرسامين الذين رسموا الكاريكاتير كانوا ممن امتلكوا المقدرة التشكيلية للتعبير عن أفكارهم، وأذكر منهم نزار سليم وفيصل العيبي وصلاح جياد وبسام فرج ومؤيد نعمة وعبدالرحيم ياسر وعلي المندلاوي ومنصور البكري ورائد الراوي، وثانيتهما أنهم كانوا يرسمون في ظل نظام شمولي حساس إزاء أي نقد".

وتابع "لذا فإن رسومهم ابتعدت عن الخاص باتجاه العام مفتوحة على التأويل مما جعلها أقرب إلى الثقافة منها إلى الصحافة، وهذه الميزة على رغم أنها أضرت بهم على الصعيد المحلي فإنها ساعدت على أن تحظى كثير من هذه الرسوم بالاستحسان والقبول وتحصد عديداً من الجوائز في مختلف المعارض الدولية".

الكاريكاتير الحديث

يحاول خضير الحميري تقديم عرض للكاريكاتير الحديث في العراق فيقول إنه "يصعب تحديد وصفة موحدة لقواعد رسام الكاريكاتير، فلكل فنان مواصفاته وأدواته وأسلوبه، بالنسبة إليَّ فإن الكاريكاتير فن معارض للسائد والمهيمن على الصعيدين السياسي والاجتماعي، وهو فن مشاكس لا يمكن تدجينه، وسيلته التهكم وطرح الأسئلة الحرجة من دون أن يكون مطالباً بالإجابة، ينتقد من أجل التغيير أو التعبير عن وجهة النظر المغبونة سياسياً واجتماعياً".

وقال "الظواهر التي يتبناها فنان الكاريكاتير متجددة لا تنتهي لأنها متصلة بتطلعات متجددة، فقبل أن أقف أمام تحدي الورقة البيضاء لا بد لي من الإمساك بالفكرة التي أرغب بمعالجتها، بعدها يتولى دبيب القلم على الورقة مهمة الزاوية التي أعالج من خلالها الفكرة بطريقة يسهل فهمها من قبل القارئ أو المشاهد، وغالباً ما يخضع الرسم عندي لمحاكمة بصرية وموضوعية متكررة قبل أن أدفع به إلى النشر".

لعل الواقع العراقي الجديد انعكس بدوره على مجمل الثقافة العراقية وأمزجة المبدعين من كتاب ورسامين ومسرحيين، فهناك من ساير الواقع بنوع من التحايل أو المخاتلة وهناك من قنط وتحول إلى الرسوم واللوحات.

ويعلق ضياء الحجار على علاقة رسامي الكاريكاتير بالسلطة فيرى أن "الدستور الحالي في العراق ينص على حرية الرأي، والحكومات المتوالية تتظاهر بأنها ملتزمة ذلك، ولهذا السبب ربما تغض الطرف رسمياً عمن ينتقدها ولكني لا أستبعد ونحن نعيش في دولة تكثر فيها الميليشيات والأذرع المسلحة لأحزاب السلطة والسلاح المنفلت أن توعز الحكومة لبعضهم بأن (يأخذ لها حقها) ممن تعرض لها بالنقد وفضح فاسديها".

واستمر في إبداء مخاوفه بقوله "تلقيت وما زلت أتلقى تهديدات كثيرة ممن تناولتهم بالنقد الكاريكاتيري، وهم أطراف عديدة ومتقاطعة في توجهاتها الفكرية والسياسية، فمن طرف إرهابي ومناصريه إلى بعض من عناصر النظام السابق وصولاً إلى أطراف عدة من ممثلي النظام الحالي، حتى بات الأهل والأصدقاء والمعارف يناشدونني وبإلحاح متواصل أن أتوقف عن التعرض للجهات المتنفذة".

وتساءل "ماذا أفعل؟ إذا كانت هذه الجهات المتنفذة هي نفسها فاسدة ومنحرفة، أنا لا أتقاضى أجراً عن أي عمل أنشره وأكتفي بالمطالبة بحقوق الشعب والوطن، من أي جهة، ولا أنتمي أو أمثل أي جهة إلا نفسي كمواطن عراقي حر، ألوذ بجهدي الفني المتواضع لحماية حقوق بلدي وشعبي، ولا أنتظر مكافأة أو أجراً عما أفعل، بل اعتبر ذلك واجباً، ولذلك لا تخيفني التهديدات ولن توقفني".

ويؤكد خضير الحميري أنه "غالباً ما ينظر إلى فن الكاريكاتير بعين الريبة والشك، فقد تم تصنيفه مبكراً بأنه وسيلة للهجوم والتسقيط، وهذا التوصيف يحمل كثيراً من المغالطة والتجني، فهو فن من الفنون التأملية الجميلة، التي تثير البهجة في النفس حتى وهي تنتقد هذه الظاهرة أو تلك، هذا الشخص أو ذاك".

وتابع "سياسيونا مصابون بحساسية مفرطة تجاه أي نوع من أنواع النقد، فكيف إذا كان النقد كاريكاتيرياً تشخيصياً؟ ولذلك فإني أكثر ميلاً للتعميم منه إلى التشخيص، حين أتصدى للمواضيع السياسية، وقد كانت لي تجارب في التعاطي الانتقادي مع سلوك أو تصريح هذا المسؤول".

وعن اضطرار رسام الكاريكاتير للتحايل على السلطة قال "اسمح لي أن أختر له اسماً آخر غير التحايل، وهو التلميح، وأغلب رسومي ورسوم زملائي قائمة أساساً على التلميح، ما دمنا محرومين من التصريح فالتلميح هو الحل، وهي طريقة يحبذها ويتفهما ويفهمها القارئ والمشاهد العراقي، اعتماداً على خبرته الطويلة في قراءة ما بين السطور".

لكن لعبدالرحيم ياسر رأي مغاير "فالتناقضات كانت على الدوام الحافز الأساس في اشتغال رسام الكاريكاتير من أجل عرضها على الآخرين للمناقشة وإبداء الرأي والاحتجاج أحياناً، وفي الواقع العراقي هناك كثير مما يستحق الخوض فيه ومناقشته وتأشيره، لكن الإحجام والتردد أحياناً يكون سببه عدم قدرة الحكومة على حماية الحريات التي أقرها الدستور. وعموماً لا أرسم فكرة لست مقتنعاً بها أصلاً، قد أرسم فكرة ولا أنشرها وقد أرسم رسماً لا يعجبني فأمزقه واستبدل به رسماً آخر أجده ملائماً أكثر في الوصول إلى القارئ".

ريشة صحافيين

يعود خضير الحميري وهو فنان منتج ليوضح أن فن الكاريكاتير منذ انطلاقته الأولى ارتبط بالصحافة، فرسام الكاريكاتير صحافي وفنان تشكيلي، وقد تختلف أدواته قليلاً عن الصحافي الكاتب أو المحرر، ولكن رسومه يمكن أن ننظر إليها على أنها مقالة أو تحليل سياسي بصري.

وعلى رغم فك الارتباط الأزلي بين الكاريكاتير والصحافة في ظل مستجدات العمل الإعلامي بعد أن تحول الكاريكاتير إلى منصة فاعلة في وسائل التواصل، فإنه ما زال محكوماً باشتراطات وأخلاقيات العمل الصحافي.

هنا يتدخل الحجار ليقول "لقد تغير كل شيء بغياب الصحافة الورقية شبه التام في العراق، وخسر فن الكاريكاتير حاضنته الأساسية ومصدر ديمومته المادي، أما عن حصانته فالكاريكاتير يستمدها من الدستور والقوانين التي تؤكد حرية الرأي والتعبير".

في الجبهة المقابلة يؤمن الرسام عبدالرحيم ياسر بأن "الكاريكاتير كان قبل نشوء الصحف الورقية وبعدها، لكنه وعلى مدى قرون عديدة اقترن وتطور بمساعدة هذه الصحافة بشكل خاص، وصار رسام الكاريكاتير مطلوباً في كل الصحف والمجلات، خصوصاً الهزلية منها، أما الآن فقد تغير الوضع نسبياً وسيتغير أكثر مستقبلاً".

يكاد يجمع رسامو الكاريكاتير على أن الوضع الديمقراطي الحالي منحهم فرصة أوسع للتعبير عن أفكار كانت محظورة في النظام السابق، وإن بقيت خطوط حمراء يتحاشون تجاوزها.

ببساطة ترك رسامو الكاريكاتير العراقيون وغيرهم بصمة في عوالمهم وهمومهم الكثيرة وأفكارهم الجميلة، وهم يرسمون كل يوم مع سيل لا يتوقف من التناقضات والأخبار التي لا تنقطع في زمن الفوضى وعشرات المفارقات اليومية التي لم يعتدها المجتمع العراقي خلال الـ20 عاماً الماضية، غير أن هناك شريحة منهم تركوا إشكالات هذا الفن التي تتولد جراء رسوماتهم فأودعوها في الذاكرة البعيدة وكأنهم يقولون لا مزيد لوجع الرأس.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير