Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أمسية باريسية تلقى خلالها الجمهور "مطرقة مجهولة" أخرجته عن طوره

يوم اندلعت فضيحة موسيقية – اجتماعية من الروسي سترافنسكي اسمها "تطويب الربيع"

إيغور سترافنسكي (1882 – 1971) (غيتي)

ملخص

يوم اندلعت فضيحة موسيقية – اجتماعية من الروسي سترافنسكي اسمها "تطويب الربيع"

كان ذلك بالتحديد مساء يوم 19 مايو (أيار) 1913. فعند تلك العشية الربيعية امتلأت قاعة مسرح الشانزليزيه الباريسية بالمتفرجين وجلهم من النخبة وربما من علية القوم أيضاً، ليشهدوا ما كان يعتبر "على الموضة" في ذلك الحين: عرضاً جديداً لواحدة من فرق الباليه الروسية التي كان يديرها بكل مهارة الروسي دياغيليف. وكان عنوان العرض "تطويب الربيع" المنتظر بلهفة بخاصة أن قدراً كبيراً من الغموض كان قد أحاط به بطلب وإصرار من ملحن العمل، إيغور سترافنسكي. واللافت هنا أن عرضاً صاخباً أثار احتجاجاً ما من قبل جمهور أقل نخبوية كان قد أثار لغطاً قبل ذلك بعام حين قدم في صالة مسرح شاتليه ويتعلق تلك المرة بباليه من تلحين كلود ديبوسي قدم أيضاً من قبل فرق الباليه الروسية. وكان مصمم الرقص في المرتين واحداً هو الروسي أيضاً، فاسلاف نيجنسكي سيد الباليه المطلق في ذلك الحين، لكن الموسيقى حينها كانت معقولة إلى حد ما وأتى الرقص متلائماً معها، بالتالي كان الضجيج الاحتجاجي متوسط القوة. أما هذه المرة فالملحن سترافنسكي ومن هنا كان الجمهور يتوقع الكثير. وضمن إطار ذلك التوقع، إذاً انطلق العرض الجديد في الموعد المضروب تماماً.

الغضب يتصاعد

ولكن منذ المقدمة الموسيقية التمهيدية وبشكل تدرجي يشبه ما يسمى "الكريشندو" التصعيدي في الموسيقى نفسها، بدأ الجمهور يتململ ثم يبتسم ثم يضحك ساخراً مع تواصل العرض الراقص. وبعد ذلك راح متفرجون في الصفوف الخلفية يصفرون استهجاناً وراحت الشتائم تتوالى من الزوايا، لكن الفنانين واصلوا رقصهم حتى وإن بات من الواضح أنهم لم يعودوا قادرين على سماع الأوركسترا وعزفها من جراء الضجيج الذي راح يعلو أكثر وأكثر وقد وصل "الكريشندو" الجماهيري لا الموسيقي، إلى ذروة غير مسبوقة في تاريخ هذا النوع من الفن. ومع ضياع صوت الموسيقى ولا سيما صوت الآلات الإيقاعية التي بدت الحاجة إليها ماسة، لم يكن أمام نيجنسكي وهو واقف مرعوباً في الكواليس إلا أن يصرخ عالياً ويطرق بيديه أملاً في أن يصل الضجيج الإيقاعي الذي يحدثه إلى راقصيه كي يتابعوا رقصهم على رغم كل شيء. أما دياغيليف فإنه سارع إلى لوحة توزيع الأضواء يطفئ من خلالها النور ويشعله آملاً من ذلك أن يخفف من ثائرة الجمهور وقد قرر بدوره ألا يتوقف العرض مهما كان الثمن ومهما كانت النتيجة. ومهما كان ما يحرك الجمهور الباريسي من احتجاج على موسيقى مضادة للبعد السيمفوني بشكل فاضح، وعلى رقص يتابع الإيقاع التكراري و"الجنوني"، من دون اهتمام جدي بالجمل الموسيقية التي راحت "على وقع الرقص، تبدو تزيينية لا أكثر" بحسب ما كتب النقاد في اليوم التالي من الذين اعترفوا على أية حال بقيمة فنية ما لعرض باليه "وثني" يصف الموت الطقوسي لصبية تقدم قرباناً في روسيا القديمة.

"الحق على نيجنسكي"!

لقد قال النقاد إن الموضوع في حده فاتن وغريب عن عالم الباليه وكان يمكنه أن يقدم بشكل أفضل بكثير. ولسوف يقول إيغور سترافنسكي إن النقاد على حق وإن المشكلة لم تكن في العرض نفسه بل "في تصميم الرقص الأحمق الذي قام به نيجنسكي". ومن هنا فتح السجال على مصراعيه منذ الصباح التالي فيما راحت باريس الفنية كلها تتحدث عن "فضيحة فنية وأخلاقية لا تضاهى"، ولكن بعد ذلك بأيام قليلة كانت "الفضيحة نفسها قد بدأت تغيب في غياهب النسيان"، فيما كان عدد من النقاد الأكثر طليعية يتحدثون عن أن ما ولد حقاً في باريس عند تلك العشية التي يجب ألا تنسى إنما كان الحداثة الفنية التي تليق بالعصور الجديدة. وبمعنى آخر "لقد ولد فن الباليه من جديد وولدت معه الحداثة الموسيقية ولادة لم يكن أحد يتوقع لها أن تكون على مثل تلك القوة". وارتفعت أسهم إيغور سترافنسكي ومكانته التي ستتعزز بقوة خلال العقود التالية، ولا سيما بعد أن تمكن في عرض كبير تال لـ"تطويب الربيع" من أن يقنع دياغيليف بإحلال مصمم الرقص ماسين محل نيجنسكي، وراح الباليه يتخذ شكلاً إن لم يكن أرضى الجمهور تماماً فإنه في الأقل خفف من غضبه وجعله يتقبل العمل أكثر وأكثر بحيث بات هذا الباليه علامة على ثورة كبيرة في عالم الفن الراقص، بل ثورة تصنع مرة أخرى كلما قدم الباليه من جديد ليصل أخيراً مع موريس بيجار الذي قدمه على طريقته في عام 1959 إلى ذروة تكاد تقارن بالذروة التي بلغها باليه "بحيرة البجع" لتشايكوفسكي قبل ذلك بعقود طويلة، مما جعل النقاد والمؤرخين يقولون دائماً إن فن الباليه إما أن يكون روسياً أو لا يكون!

روسي حتى النهاية

 و"تطويب الربيع" على أية حال، روسي من ألفه إلى يائه، بدءاً من حكايته المستمدة من تراث روسي قديم، إلى ملابسه إلى موسيقاه التي بدا فيها ستارفنسكي أكثر استلهاماً للفولكلور الروسي بل حتى الإيقاعات الروسية أكثر مما في أي وقت مضى. وكان ذلك ملائماً تماماً لتلك الحكاية التي يجد المشاهد نفسه وهو يتتبعها في قلب تلك الأصالة التي تفرض عليه، من دون كبير تفكير، أن يعود بذاكرته الموسيقية إلى تلك المساعي التي بذلتها "مجموعة الخمسة" التي هيمنت على الموسيقى الروسية في القرن التاسع عشر واقفة ضد أوربة تلك الموسيقى مصرة على ربطها بكل ما يمت إلى الشعب من تراث عريق يعود زمنياً حتى إلى ما قبل تأسيس تلك الإمبراطورية الشاسعة. ومع ذلك لن يفوت سترافنسكي الذي لم ولن يكون أبداً ضد الأوربة، أن يقول إن تلك الموسيقى العتيقة والعريقة إنما فرضت نفسها عليه من دون الخوض في أي تنظير. أما الجديد الذي سيقول هو نفسه إنه قد فوجئ بخوضه فيه "حتى من دون وعي" فإنه ذلك "الواقع الإبداعي الذي جعل الموسيقى، وكما تنبهت من خلال ما كتبه النقاد" يحدث لها "وبعدما، كانت قبل ذلك وطوال العمل تبدو منفصلة عن الشخصيات بغية تحقيق مبدأ التغريب، أن تبدو وكأنها عادت للالتقاء بتلك الشخصيات جاعلة منها ومنهم كلاً واحداً، معطية العمل ككل قوة عاطفية، كان العمل، طوال الوقت يبدو رافضاً لها". والواقع أن ذلك البعد الذي "زعم" سترافنسكي أنه إنما نجم عن ممارسة واقعية وضرورية تتعلق بالموضوع، سيسم العدد الأكبر من أعماله التالية ولا سيما رائعته: "أوديب ملكاً" التي قدمها بعد "تطويب الربيع" بنحو دزينة من السنين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من القانون الجنائي إلى الموسيقى
وإيغور سترافنسكي المولود عام 1882 في أورانينباوم في روسيا (ليموت عام 1971 في نيويورك)، يعتبر واحداً من كبار موسيقيي القرن العشرين، ومجدداً أساسياً في فن الكتابة للباليه، إن لم يكن في فن الكتابة للأوبرا أو للأعمال الأوركسترالية الصرفة. والطريف أن سترافنسكي درس أول ما درس القانون الجنائي وفلسفة التشريع في جامعة سانت بطرسبورغ، متخرجاً فيها عام 1905. وفي ذلك الحين ارتبط بصداقة وتلمذة مع الموسيقي الكبير رمسكي – كورساكوف. وفي عام 1909 دعاه دياغيليف (مجدد الباليه الروسي) وقد فتنته قطعة كتبها الموسيقي الشاب، متأثراً بهاندل، ليكتب موسيقى عروض باليه روسية قدمت في باريس، وهكذا كتب على التوالي موسيقى باليهات "عصفور النار" و"بتروشكا" حتى قبل أن ينجز "تطويب الربيع"، وكلها أعمال حققت نجاحاً، لكن سترافنسكي كان يعتبر نفسه فاشلاً إذ كان يتطلع إلى نجاحات موسيقية خالصة تأتيه بفضل كونشيرتات وسيمفونيات وأوبرات، لكن ذلك لم يتحقق له، بل إن همته تراجعت خلال السنوات التالية. وهو عاش في باريس بين 1920 و1939، وفيها كتب أهم أعماله التالية لـ"أوديب ملكاً"، مثل "سيمفونية أغرامير" وباليه "بولنشينيلا"، كما كتب عملين راقصين لآيدا روبنشتاين (التي كتب لها رافيل "البوليرو" الشهير). وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية هاجر سترافنسكي إلى الولايات المتحدة، حيث أتيح له أن يكتب أعمالاً سيمفونية وأوبرالية كان يحلم بها منذ زمن بعيد. وهو ظل يكتبها حتى عام 1966، لكن أياً منها لم يرق إلى أعماله القديمة والشهيرة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة