Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سترافنسكي يغرق في القالب المحلي مودعا وطنه الروسي إلى غير رجعة

باليه "بتروشكا" تدخل بطريقة مواربة في السجال العنيف بين التغريب والأصالة

من تقديم معاصر لباليه "بتروشكا" (غيتي)

قبل باليه "بيتروشكا" الذي يعتبر عادة من أكثر أعمال الموسيقي الروسي الأصل إيغور سترافنسكي شعبية وتقديماً طوال القرن العشرين، كان هذا الموسيقي الذي يعتبر من كبار المجددين في فن الموسيقى عند بدايات ذلك القرن قد اشتهر بعديد من أعماله الموسيقية الناجحة حتى وإن كانت أعماله الكبرى ستتأخر بعض الشيء عن ذلك. غير أن اللافت كان يكمن في واقع أن بدايات سترافنسكي الموسيقية كانت غربية الطابع يحاول فيها أن يبتعد عن كل ما يمت بصلة إلى الموسيقى المحلية، فيما سيلاحظ دارسوه في العقود اللاحقة أنه بقدر ما سيبدو مبتعداً عن وطنه الروسي متجولاً بين منافيه العديدة وربما أحياناً فقط لأسباب سياسية ومن ثم أيديولوجية، كانت موسيقاه تزداد اقتراباً من جذوره الوطنية حتى ولو أنها راحت تتسم بتجريبية مدهشة وصلت به إلى حدود تبني ما يرتبط بالتجديدات المتنوعة والتي سميت إجمالاً بالموسيقى الاثني عشرية، بمعنى أن ذلك الترابط اللاحق بين أصالته وحداثته التجريبية سيطبع مجمل موسيقاه ويجعل له مكانته الكبيرة في تاريخ الموسيقى.

قبل الثورة

والطريف أن الذروة المحلية التي أطلقت ذلك الحراك لديه، إنما تمثلت تحديداً في باليه "بتروشكا" الذي وسمته لغة موسيقية محلية (روسية) خالصة، ولكنه تميز في الوقت نفسه بكونه العمل الوداعي الذي كان خاتمة إنتاجات مرحلة "روسية" عميقة في حياته. بكلمات أخرى كان، ومن دون أن يقرر ذلك عند بداية اشتغاله عليه، العمل الذي ودع به وطنه. فالمعروف، وكما سنرى بعد سطور، أن سترافنسكي لم ينتظر اندلاع الثورة البلشفية وانتصار الحكم الاشتراكي وقيام الاتحاد السوفياتي كي يغادر نهائياً إلى أوروبا بل استبق ذلك كله من دون أن تكون أسبابه أيديولوجية أول الأمر. ومن هنا ارتبط باليه "بتروشكا" بالمنفى الذي كان اختياراً حراً، وربما إبداعياً، للموسيقي الذي من الصعب القول إنه قد ندم عليه أبداً. ولنعد هنا إلى حكاية "بتروشكا".

بداية منفى طويل

ففي عام 1910 توجه إيغور سترافنسكي من لوزان التي كان يقيم فيها منذ فترة، إلى سانت بطرسبورغ بعد أن كان التقى سيد الباليهات الروسية دياغيليف وتمكن من إقناعه بتقديم عمل موسيقي للباليه كان كتب فصليه الأولين وشرع يفكر في الثالث والأخير. وفي الحاضرة الروسية التقى سترافنسكي مهندس الديكور ألكساندر بنوا ومصمم الرقص ميشال فوكين بغية الاتفاق معهما على تفاصيل العمل. وكان لديه من الوقت هناك ما مكنه من وضع موسيقى الفصل الثالث. وأخيراً حين غادر العاصمة الروسية إلى باريس كان الباليه مكتملاً معه. وكان الاتفاق قد تم على تقديمه في باريس بعد شهور. قدم العمل بالفعل في العاصمة الفرنسية للمرة الأولى في يونيو (حزيران) 1911 تماماً كما كان مخططاً، غير أنه ما لم يكن في الحسبان هو أن سترافنسكي لن يعود إلى وطنه الأم طوال الخمسين سنة التالية كما أشرنا أول هذا الكلام، ما جعل باليه "بتروشكا"، يعتبر آخر عمل له وضعه في روسيا. ولسوف يكون أكثر أعماله روسية على أي حال وضمنه أغنيات وأناشيد فولكلورية روسية وكأنه كان في ذلك وصيته الأخيرة فنياً، قبل أن يغوص نهائياً في حداثة مدهشة.

ثلاثة تواريخ لباليه واحد

يتألف باليه "بتروشكا" الذي أعاد سترافنسكي الاشتغال عليه ثلاث مرات، أولاها طبعاً حين قدم على مسرح "الشاتليه" الباريسي في العرض الأول، ثم ثانية في عام 1947 ثم مرة ثالثة وأخيرة في عام 1965– علماً أن تعديل عام 1947 هو المعتمد غالباً في التقديمات المعاصرة- هذا الباليه يتألف من أربع لوحات تدور أولها في ساحة عيد شعبي ديني روسي حيث وسط الزحام والفقرات يصل الساحر مع فرقته لنتعرف على بتروشكا والباليرينا والموريسكي يتناوبون على الرقص ونكتشف أن بتروشكا مولع بالباليرينا، لكن هذه لا تعيره أدنى اهتمام، بل تكاد توحي لنا بأنها مولعة بالموريسكي. وفي اللوحة الثانية نجدنا في مهجع بتروشكا حيث نكتشفه حائراً بين حبه للباليرينا وخوفه من الساحر الذي سرعان ما يقذف بالموريسكي إلى المكان لتتضح الصورة، التي يفرضها نزق الساحر حين لا تستجيب الباليرينا إلى دعوة بتروشكا المولهة معتبرة إياه مثيراً للشفقة لا أكثر مفضلة الموريسكي المليء بالحيوية. وإذ تدور اللوحة الثالثة في مهجع الموريسكي حيث يقذف الساحر بتروشكا إلى المكان ليدور الصراع بين الاثنين منتهياً على طرد بتروشكا. وهكذا نلتقي الجميع من جديد في اللوحة الختامية حيث خلال العرض وتحت رعاية الساحر يمتشق الموريسكي سيفاً خشبياً "يقتل" بتروشكا به ليحمل الساحر دميتيه خارجاً وسط صراخ الجمهور ونحيبه فيما يظهر فوق السطح طيف بتروشكا تاركاً للجمهور أن يخمن ما سيمكن أن يحدث.

غرام بين الدمى

"بتروشكا" عمل روسي إلى حد عميق جداً. ومع هذا اشتغل سترافنسكي عليه أوركستراليا بطريقة تخرج عن المألوف الروسي موفراً للراقص الكبير نيجنسكي– الذي قام فيه بدور بتروشكا– فرصة لتقديم أفضل ما عنده، لكنه وفر فيه أيضاً لتامارا كورسافينا دوراً لا ينسى إذ لعبت دور الباليرينا. ومع هذا فإن الاثنين ليسا أكثر من دميتين في حكاية الباليه، وإلى جانبهما "دمية" ثالثة هي "الموريسكي" ذو الأحاسيس الباردة. أما ما يجمع الدمى الثلاث معاً فهو الساحر النزق الذي يتجول في الأعياد الشعبية الروسية التقليدية عارضاً فنونه وسحره من خلال حكاية الغرام التي تدور بين الدمى ويتحكم هو فيها كما يشاء، فإن لامه في نهاية الأمر لائم أو شعر بعض الجمهور بأنه مستفز وعلى وشك البكاء على مصير بتروشكا، سيسارع الساحر قائلاً: "لا تنسوا أن ما ترونه هنا ليس أكثر من دمى صنعت من قماش وقش ورؤوس من خشب... فعلام العويل؟". ومع هذا حين ينتهي كل شيء في نهاية الأمر، لن تنقضي الأمور على تلك البساطة طالما أن العرض يترك المتفرج، متفرج العرض في العيد الروسي، أو حتى متفرج العرض في حفل الباليه نفسه، وهو محتار وقد ترك له، من خلال طيف بتروشكا الذي يظهر وكأنه كائن بشري على سطح مسرح العرض، أن يسائل نفسه: وماذا لو أن مأساة الغرام حولت بتروشكا من دمية إلى كائن له عواطفه ودموعه؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عواطف روسية في الميزان

لعل هذا السؤال الذي طرحه كثر على أنفسهم يومها قد أسهم مساهمة أساسية في المكانة "الميلودرامية" التي حظي بها هذا الباليه الذي يتوسط مسار إيغور سترافنسكي (1882 – 1971) الفني، وجعلته من فوره يحقق من النجاح الجماهيري– وإن لم يكن النقدي أول الأمر– ما يفيض عما كان قد حققه قبله بعامين فقط عمله الكبير "عصفور النار" (1909). ففي نهاية الأمر لم يحفل الجمهور كثيراً بالبعد الدرامي في "عصفور النار" بقدر ما اهتم بالبعد الجمالي مستوعباً تجديدات موسيقية بدت مدهشة. أما بالنسبة إلى "بتروشكا" وربما لأسباب قد تبدو لنا اليوم غامضة إن لم نربطها من ناحية ما بالبعد العاطفي الروسي العنيف والقلق الذي يشعر به متابع الأعمال الروسية أمام لوعة الحب وإخفاقه، ومن ناحية ثانية بغرق الباليه في الموسيقى الروسية إلى حد فتح جروح المنفيين حين رأوا الباليه للمرة الأولى على خشبة باريسية، ويمكننا أن نفترض أن هؤلاء كانوا يشكلون غالبية جمهور العرض الأول. ومهما يكن فلا شك أن ما نقوله هنا يبقى من باب التكهنات. أما الباليه نفسه فإنه تابع طريقه ونال رضا غامراً في شتى التعديلات اللاحقة التي أدخلها سترافنسكي عليه، بل إنه ربما كان قد شكل، بالنجاح الهائل الذي حققه البعد الروسي الذي غمره، إغراء قوياً لمبدعه كي ينهل أكثر وأكثر من الموسيقى الروسية الغنية بالأبعاد العاطفية على عكس ما كان يفعل في أعماله الأول حيث كان جل همه، سواء أكانت تلك الأعمال موسيقى أوركسترالية أو أوبرات أو باليهات، أن ينهل من تلك الموسيقى الغربية التي كان الغوص فيها يشكل موضوع سجالات عنفت في مراحل كثيرة بين الخمسة الروس الكبار (غلينكا وموسورغسكي ورمسكي كورساكوف...) من ناحية وبين تشايكوفسكي من ناحية ثانية. غير أن هذه حكاية أخرى سبقت ظهور "بتروشكا" بعقود لكنها كانت لا تزال ماثلة حين آثر سترافنسكي بدوره أن يسلك دروب "الإصالة" وحقق بذلك نجاحاً كبيراً يبقى "بتروشكا" علامته المثلى.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة