Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حسين جلعاد يرصد معاناة المهمشين في الضواحي

"عيون الغرقى" مجموعة قصصية تغوص في العالم المنسي

لوحة للرسامة السورية سهف عبد الرحمن (صفحة الرسامة - فيسبوك)

ملخص

"عيون الغرقى" مجموعة قصصية تغوص في العالم المنسي 

للمدن ضحايا تعرفهم ضواحيها المهملة والمنسية، هناك في المناطق الهامشية، حيث ينمو البؤس وتشتد العوز. ضحايا يلجأون الى الصمت ويلتحفون بالخيبات. يألفون القاع ويعتادون الغرق. أولئك المنسيون والمهمشون هم أبطال الكاتب الأردني حسين جلعاد في مجموعته القصصية الجديدة "عيون الغرقى"، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. 

تنطلق القصص من منطقة يلتقي فيها السرد مع الموسيقى، فقد التقط الكاتب تلك الخيوط الخفية بينهما ليعزف لحناً شجياً، موزعاً قصصه على درجات السلم الموسيقى فبينما كانت دو "أسرار معلنة"، كانت "بويا"، "الأسفلت والمطر"، "سيدي وقاص"؛ ري، مي، فا، أما صول فكانت "كائن سماوي"، و لا، سي "أربعة جدران وباب، المساء يطير غرباً"، "الخريف والشبابيك القديمة"، ثم دو "البحر ينام أيضاً". 

يبدو الفقد والحنين النغمة الغالبة، والثيمة الرئيسة للحن، الذي تدفق عبر القصص، وبدا منذ الوهلة الأولى مع اختيار الكاتب فضاءات سردية، استعاد عبرها أماكن غادرها أبطاله، وأزمنة انقضت. وترجم عبر هذه الثيمة التي هيمنت على سرده القصصي؛  شعور جيل من الشباب العربي عاش نشوة الآمال الكبرى، ثم امتلأ بالخيبة والإحباط واللاجدوى بعد أن أجهضت آماله كلها، واستحالت إلى كابوس لا يزال جاثماً فوق الصدور. واتسق مع هذه الغاية بروز صور من التقابل بين ما كان وما بات، أذكى الكاتب عبرها شعور الفقد والحنين. 

"عبرت الجسر مبكراً نحو الرجولة، لقد نبت فيك الغناء، لكنك بقيت تطير الورق ... فيما بعد وحين جاء زمن الخروج وضياع الياسمين البيتي وانشراخ عزوة العباءات، كان صوت فيروز يرافق وعود العاصفة ... لتجعل لأيلول طعماً آخر  كالحزن وأنت تمشي وحيداً مع الإسفلت والمطر" ص 13

تناقضات النفس والعالم

 

استمر الكاتب في انتهاج التقابل، وأبرز عبره تناقضات النفس الإنسانية المركبة والمنقسمة بين مشاعر الحزن والفرح، اليأس والأمل، الحب والحقد. ورصد أيضا من خلاله تناقضات الواقع، والتفاوت الطبقي الهائل، لا سيما في قصة "بويا"، التي عبر بطلاها عن هذا التفاوت، فكان الصبي الصغير "ماسح الأحذية"؛ وجهاً للفقر، والانسحاق، والتهميش. أما الرجل فكان وجها للترف، الذي لا يعبأ بالأدنى، ولا يراه إلا مستحقاً للازدراء. والمفارقة أن تلك الدائرة التي كانت تدور بين الانسحاق والازدراء، تكررت نفسها ولكن في مدارات أخرى، فكان الرجل الذي ازدرى ماسح الأحذية، منسحقاً أمام من كانوا من طبقة أعلى. هذه الفجوة الهائلة بين الطبقات، لم يقلصها الحب، لذا لم ينسجم عدنان ابن الطبقة الفقيرة، مع جيهان ابنة الطبقة الغنية في قصة الخريف والشبابيك القديمة، وهو تقابل آخر  عبر عن الموقف الأيديولوجي الحاسم للكاتب، في قضايا التفاوت الطبقي، وتوزيع الثروة، وانحيازه للمهمشين، الذين بدوا عبر قصصه حقيقيين، أكثر من أولئك البرجوازيين المتذبذبين على الحبال، والمزيفين الساعين للغنائم الفردية.

 امتدت صور التقابل في القصص، فبدت حتى في دفاعات الشخوص، واستجاباتهم النفسية، لما حصدوه من خيبات وآلام. فبينما لجأ نزار في قصة "الخريف والشبابيك القديمة" إلى النساء، محاولا التجاوز والتخطي، سقط صديقه في بئر سحيقة من السوداوية، تلك التي لم تكن ملمحاً أصيلا لشخصية عدنان أيوب فقط، وإنما بدت كظل رئيس في كل قصص المجموعة، ما اتسق وثيمة الفقد، وعكس أثر التحولات الكبيرة، التي تمخض عنها واقع بائس، حاول الكاتب رصد وتوثيق ما يأن به من فقر، وقمع، وشتات.

صورة قاتمة

وكما كان التقابل، وسيلة اعتمدها جلعاد لإبراز سوءات الواقع، انتهج التماثل أيضاً لتحقيق الغاية نفسها فبرز في قصة "بويا" بين سواد يد الطفل، جراء مسحه للأحذية، وبين حذاء الصحفي، وكذا زجاج سيارة الأثرياء، وحبر الجريدة. وبدا كذلك في محاولات الشخوص للهروب من الواقع، والغياب عنه، في قصة "الأسفلت والمطر" وإن اختلفت أساليب غيابهم. فبينما غاب الأب بالسكر ومعاقرة الخمر، غابت زوجته الثانية بالجنس، وغابت الأم  بالشعوذة وتحضير الحجب. ورغم اختلاف وسائلهم للغياب، تشابهت غاياتهم ورغباتهم، في الانفصال عن واقع لفظهم قبل أن يلفظوه. وعبر هذا التماثل استطاع الكاتب، نقل صورة قاتمة لواقع ينهشه الفقر، ومجتمع تشرعن ثقافته، وقوانينه قهر الأضعف.

في سعي الكاتب لنكأ جراح المهمشين، وكشف ما يعانونه من شظف العيش وبؤس الحال؛ منح الأطفال دور البطولة في بعض قصص المجموعة، ليكشف عبرهم عن وجه أكثر قبحاً للفقر، حين يغتال البراءة، والإنسانية، والأحلام. فلم يكن العيد في قصة "بويا" للطفل ماسح الأحذية، سوى يوم آخر للعمل تحت أقدام العابرين. ولم تكن وجهة بائع العلكة في قصة "الإسفلت والمطر"، سوى حاويات القمامة، كي يحصل منها على طعامه!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واستمر جلعاد في رصد قسوة هذا الواقع، الذي يعيشه المهمشون، عبر ما اختاره لبعض أبطاله من مصائر  ونهايات مأساوية، رسمها على نحو ضمني، سمح له بنقل فداحتها. وبممارسة سلطته على القارئ، وإشراكه في لعبة السرد، عبر دفعه للتأويل والاستنتاج، ليتحول إلى متلقي إيجابي، لا سيما في ظل ما بتره الكاتب من الحكي.

"يحدث أحيانا، أن تتوقف السيارات فجأة، لكنها حينذاك، تُحدث صريراً عالياً يقذف القلب خارج الصدر. مع اصطدام المطر بالأرض، ينغسل الأسفلت من الغبار، والأوراق، والخيوط الحمراء" ص 23

تنويعة أسلوبية

مزج الكاتب في سرد بعض قصص المجموعة، بين السرد الذاتي "بضمير المتكلم"، والسرد المركزي من خلال الراوي العليم. فأتاح صورة بانورامية، التقط عبرها ملامح العوالم الداخلية والخارجية للشخوص، وتمكن عبر هذه التنويعة الأسلوبية، من الجمع بين ذاتية وموضوعية السرد، لا سيما وأنه انتقل بين كلا الأسلوبين، بنعومة فائقة، وحافظ على سلاسة السرد، وانسيابيته. كما تمكن عبر كلا الأسلوبين لا سيما الذاتي، من تجسيد الصراعات الداخلية للشخوص، التي احتدمت بين نوازعها الرديئة، والطيبة، ما زاد من جاذبيتها، التي أسهمت بدورها في زيادة التماهي مع النصوص. "شعرت بالرعب، رأيت الله غاضبا مني، شيء ما في داخلي بكى، فنظرت إلى السماء، كان للنجوم لون آخر كأنها تضحك، خدر لذيذ في أوصالي. نعم سأدخل النار لكن دبيبا منعشا أبعد الرهبة عني فضحكت" ص ٣٠

 ومن أجل بلوغ الغاية نفسها، من ولوج العوالم الداخلية للشخوص المأزومة، وتبيان ما خلفه الواقع المعطوب فيها من غرق، عمد الكاتب لاستخدام تيار الوعي، والمونولوغ الداخلي،  في حين لجأ إلى الحوار المسرحي لإتاحة وقفات واستراحات، تتيح إبطاء حركة السرد، وتسمح للقارئ بتأمل تعقيدات النفس الإنسانية، التي تشوهت بفعل واقع معطوب، وأسهمت كذلك فيما حدث فيه من عطب. وقد تسلل عبر الحوار بعض اللهجة العامية الشامية، ما أنعش السرد وأكسب القصص مزيدا من الصدقية، والحميمية، والجاذبية في آن.

حضور الشعر

لم يتخلص صاحب ديوان " كما يخسر الأنبياء" من شعريته، التي انعكست على لغة السرد، من دون أن تعطله. ولم يحضر الشعر عبر لغة عذبة وحسب، ولكن أيضاً عبر ما استدعاه الكاتب من رموز الشعر، مثل توماس إليوت صاحب قصيدة "الأرض اليباب"، وفدوى طوقان الشاعرة الفلسطينية، إذ استدعى بيت من قصيدتها "لن أبكي"، وقام بتوظيفه داخل السرد.

"هنا كانوا .. هنا رسموا مشاريع الغد الآتي .. تذكرت أشعار فدوى طوقان وهي تعبر البساط الأخضر، حيث اعتاد الجميع أن يجلسوا مساءً، في اجتماعات التجمع الطلابي اليساري" ص 48

في خلفية السرد  رسم الكاتب ظلال فلسفية،  بدت فيما طرحه من أفكار حول الحياة، الموت، المثالية، الرومانسية، والحالمين. كما تجلت ظلال أخرى سياسية، أبرز جلعاد عبرها مفاسد واقع يأن بالقمع، والقهر، والإحباط، فلعب الحراك الشعبي، والتظاهرات  دورا رئيساً في تحريك الأحداث بقصة "كائن سماوي"، وقصة "الأسفلت والمطر". كما استدعى  بعض الأحداث السياسية المهمة، مثل توقيع اتفاقية أوسلو. وطرق في أكثر من قصة، قضايا الشتات والنفي، إما داخل الأوطان، حيث يطرد طالب من مسكنه إلى الشارع، ثم إلى الحبس، بلا جريمة إلا الفقر، وإما خارجها، حيث يفر الناس من أوطانهم، ولا يبقى لهم فيها سوى جذور، انفصلت عنها الفروع.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة