عمق الانهيار المالي والاقتصادي من معاناة الفئات الأكثر تهميشاً في لبنان، من نساء، وأطفال، وذوي احتياجات خاصة، فاتسعت الفجوة الحقوقية الموجودة أصلاً نتيجة البنى الثقافية والتربية التقليدية التي تقوم على مفاهيم ذكورية.
وطبقاً لتعريف مفوضية الأمم المتحدة للاجئين لمصطلح "العنف الاجتماعي والاقتصادي" فإنه يعني استبعاد شخص من المشاركة في المجتمع، ويشمل ذلك حرمانه من الحصول على الخدمات الصحية والتعليم والعمل، وكذلك من حقوقه المدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، ويتخذ هذا العنف بعداً جندرياً عندما ينصب هذا الحرمان على النساء والفتيات اللاتي يحرمن من الحصول على الفرص والموارد.
الشابة إليانا حرب، واحدة من هؤلاء الذين عانوا تاريخياً من العنف الاقتصادي، فهي تعاني كف البصر الجزئي، ولا تمتلك حاسة البصر إلا بمقدار 10 في المئة، الأمر الذي يعوق إتمامها لبعض المهام من دون مساعدة. تعود إليانا بذاكرتها إلى مرحلة الطفولة، حينذاك لم تحظَ بفرص متساوية مع بقية الطلاب، حتى في عام 1994 عندما تقدمت لشهادة البريفيه لم تتمكن من تجاوز الاختبار، لأنه لم يتوفر مساعدة لها، لذلك اضطرت إلى مغادرة المدرسة، وبدأت بالبحث عن عمل، حتى اهتدت إلى ضالتها في أحد الدكاكين الصغيرة، وعندما بدأت تشعر بتعرضها للاستغلال المادي، طالبت صاحبة المؤسسة بمنحها زيادة في الأجر، فما كان من الأخيرة إلا أن رفضت وتنمرت عليها، لأنها "لن تجد من يوظفها".
شكلت هذه التجربة محطة مفصلية في حياتها، لتتعرف لاحقاً إلى القانون 220/ 2000 المتصل بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وقررت الانضمام إلى أسرة إحدى المؤسسات الدامجة لذوي الاحتياجات الخاصة، وحظيت بخدمات تربوية، وتجاوزت مرحلة الشهادة الرسمية، وصولاً إلى التوجه للتسجيل في الجامعة اللبنانية، وتقول إنها عندما ذهبت للتسجيل في قسم علم النفس، قيل لها، "لا يمكنك التسجيل في هذا الاختصاص لأنك لا تبصرين".
تؤكد إليانا حرب أن النساء من ذوي الاحتياجات الخاصة، هن الأكثر تأثراً بالأزمات من بين مختلف الشرائح الاجتماعية، فهي تشعر بمعاناتهن كل يوم. وتعلن تمسكها حالياً بوظيفتها، قائلة: "لن أترك عملي على الرغم من الأجر المحدود، حتى ولو بلغ مستوى تأمين أجر النقل فقط، لأنه يحقق لي الشعور بالوجود والاستقلالية".
تجارب النساء مختلفة
تشكل تجربة إليانا نموذجاً لمعاناة عشرات السيدات اللاتي يعانين التهميش بالأصل، وجاءت الأزمة لتعمق معاناتهن. فهؤلاء يواجهن تدخلاً خارجياً، يمنعهن من اختيار العمل المفضل لديهن، إحدى الشابات تقول، إنها درست الميكانيكا في أوروبا لكن عند عودتها إلى لبنان، منعت من ممارسته لأنها أنثى، كما تدلي إحدى المحاميات ذوات الاحتياجات الخاصة بتجربتها الذاتية، فقيل لها ذات يوم، خلال الفحص الطبي للوظيفة، "إعاقتك لا تسمح لك بأن تكوني قاضية"، كما نصحت بقبول أول من يتقدم لها للزواج لأن مثيلاتها لا يحق لهن الخيار فيمن سيكون شريك حياتهن.
لا تتوقف حدود التجارب عند هذا الحد، بل تشكو النساء من التعرض للعنف الاقتصادي من خلال حرمانهن من التمتع بأجورهن ومصادرة الزوج البطاقة المصرفية من أجل قبضه معاشها، علماً أنه يرفض مشاركتها أعباء تربية الأطفال أو الأعمال المنزلية.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يشتكين من حرمانهن من الميراث، لأن "الإرث هو للابن الذكر وليس للصهر، لعدم تبديد الثروة والأرض"، كما لا يحصلن على نفقة عادلة في حالة الطلاق، لأن المحاكم تقرر نفقات منخفضة للنساء بما لا يتناسب مع التغير الحاصل في سوق الصرف وانهيار العملة الوطنية. كما تشكو إحدى الموظفات من "صرف النساء أولاً في المؤسسات المتعثرة، وإنهاء خدماتهن، خلافاً للقانون، خلال إجازة الوضع والأمومة".
المجتمع المدني يتحرك
أدى استفحال العنف الاقتصادي إلى تحرك جهات في المجتمع المدني من أجل تحقيق التوازن في المجتمع اللبناني والعربي. وتتحدث غنوة شندر، مديرة جمعية Womam Alive عن إطلاق مشروع "قياديات لا مهمشات" كجزء من مشروع إقليمي على مستوى 4 دول: لبنان، الأردن، فلسطين، وتونس، بالشراكة مع جهات دولية، لافتة إلى أنه "للمرة الأولى يتم طرح قضية التهميش على نطاق واسع وعميق في هذه البلدان التي تعاني العنف الاقتصادي القائم على العنف الاجتماعي". يسهم هذا المشروع في نشر التوعية حول هذه الظاهرة التي ازدادت أخيراً، في ظل الأزمة الاقتصادية المتصاعدة بلبنان، في أعقاب جائحة كورونا، والانهيار المالي.
تتطرق غنوة شندر إلى مظاهر مختلفة من العنف الاقتصادي، البعض منها يكون داخل المنزل، على شكل حرمان الفتيات من الحقوق المالية على يد الزوج والأخ أو الأب، وجزء آخر ينتشر داخل أماكن العمل بواسطة رب العمل الذي ينتهك حقوقهن وحرماتهن على شكل عنف جنسي أو تحرش، أو منعهن من الوصول إلى مواقع القرار أو الترقية أو الحرمان من الإجازات وغيرها. وتلفت إلى أن هذه المظاهر تتعمق في مراحل الانهيار حيث تصبح النساء أكثر عرضة لتقديم تنازلات من أجل الحفاظ على وظائفهن، لأنهن "يشكلن الفئة المستضعفة، سواء أكانوا مواطنات أو أجنبيات".
يستمر المشروع طوال 4 سنوات، وبدأ بإعداد دراسة اجتماعية واقتصادية تتناول أوضاع النساء في لبنان، وسيتبعها سلسلة تدريبات وحلقات التوعية لجميع فئات المجتمع، وصولاً إلى خلق مناخ تغييري من خلال رفع مستوى الوعي حول العنف الاقتصادي، وتجاوز ثقافة الخضوع التي تعود في الجزء الأكبر إلى التنشئة والتربية.
القانون تمييزي أحياناً
تلعب بعض القوانين دوراً تمييزياً، وتسهم في تعميق التفاوت الاجتماعي والقانوني في بعض الأحيان بفعل مسايرة الواقع الاجتماعي، والأعراف، والتقاليد. يشير المحامي أمين بشير (باحث قانوني) إلى أن أشكال التمييز القائمة على النوع الاجتماعي (الجندر) والأدوار التي تكرسها الأعراف والأفكار النمطية بين الذكور والإناث، تسهم في تعزيز بعض أوجه العنف الاقتصادي، مشيراً إلى بحث ميداني بدأ من خلال استكشاف دور السلطة الأبوية داخل الأسرة والرابطة الزوجية، والعنف أثناء مزاولة العمل في القطاعين العام والخاص، إضافة إلى قوانين الأحوال الشخصية والحرمان من الميراث والنفقة الضئيلة التي تمارسها المحاكم الشرعية والروحية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يميز بشير بين نوعين من القوانين، قوانين معطلة لا تطبق، وأخرى تتضمن نقصاً، بالتالي لا بد من تعديلها، كقانون الضمان الاجتماعي وقانون العمل، لإعطاء حقوق متساوية لكل من العمال والعاملات للحد من العنف الاقتصادي والتفاوت. كما ينتقد "شلل مؤسسات إنفاذ القانون على مستوى الضبطية القضائية التي يعتنق بعضها عقلية ذكورية تمتنع عن التدخل عندما يكون الخلاف داخل الأسرة الواحدة".
يلاحظ بشير أن "العنف الاقتصادي يتعزز في بيئة الفقر، والأزمة الحالية في لبنان تفتح باب الخضوع لدى كثير من الفئات والتنازل عن حقوقها، والقبول بالابتزاز لإبقاء مصدر معيشتها". ويعلق على فرضية أن بعض القوانين تبقى حبراً على ورق، لأنها لا تتوافق مع الأعراف الاجتماعية، بقوله إن "القوانين وضعت لتنفذ، وعلى رجال القانون العمل من أجل ذلك، وليس لوضعها على رف. فالقوانين وضعت استجابة لحاجة اجتماعية، ولا بد من إنفاذها لحماية مصالح المجتمع".