ملخص
معرضها النيويوركي في غوغنهايم الحالي يكشف فيض الصور الذي يستهلك العصر
إنه لأمر مثير دائماً أن يُسمح للفنان بالتلاعب بفضاءات متحف ما، وباستثمار هندسته الخاصة، في سياق تنظيم معرضه فيه. فكيف إذا كان المتحف المقصود هو غوغنهايم في نيويورك، الذي يشبه صرحه مركبة فضائية، بمنحدراته اللولبية وسلالمه السرية، وإذا كانت الفنانة المدعوة لعرض أعمالها فيه هي الأميركية ساره زي التي تمكنت منذ مطلع التسعينيات من تشييد لغة بصرية فريدة تبلبل الحدود بين وسائط فنية مختلفة، وبين الصورة التقليدية والصورة الرقمية، بين الملموس والمتخيَّل، وبين الثابت والعابر؟
في مناسبة معرضها الحالي، ابتكرت زي سلسلة تجهيزات خاصة بالصرح الذي يستضيفها، تنسج مسار تأمل واكتشاف يعبر عدة فضاءات داخلية منه، ثم يفيض إلى خارجه على شكل دفق من الصور يشكل خير انعكاس لحركة المرور في الشارع الذي يقع هذا الصرح فيه. وأيضاً عبر إسقاطها الحيّ للقمر على واجهته المستديرة، محولةً إياه بذلك إلى ساعة عملاقة لا تذكّر فقط بعبور الزمن، بل تبيّن أيضاً مدى ارتباط إدراكنا لتسلسله بتجاربنا الجماعية وذاكرتها.
في الطابق الأرضي للمتحف، يستقبلنا بندول يعلو النافورة، وتجهيز يمتد بينهما على شكل أرجوحة نوم (hamac) منسوجة بخيوط زرقاء سماوية. عملان صامتان غايتهما تحضيرنا إلى ما ينتظرنا في الطابقين السادس والسابع، حيث يقع معرض الفنانة، أي فضاء غامر من الأعمال التي تتراوح بين لوحات ومنحوتات وتجهيزات بصرية وصوتية. أعمال تربطها سلسلة فيديوهات مُسقَطة فوقها أو خلفها، تشكّل مجتمعةً خطّاً أفقياً من الصور المتحرّكة. ويختم سينوغرافيا المعرض، تجهيز عملاق ومتعدد الحواس بعنوان "موقِّت" (Timekeeper) يشكّل، مثل مضمون المعرض ككل، "تأملاً في الطريقة التي نحدد بها الوقت، والطريقة التي يحددنا هو بها"، على حد قول زي.
مبان وأبراج
مَن يعرف عمل هذه الفنانة، يلاحظ بسرعة أن معرضها الحالي يشكّل امتداداً لأعمالها السابقة التي تقوم على ملئها فضاءات مغلقة أو مفتوحة بأشياء صغيرة عادية تأخذ في اجتماعها شكل شبكة متداعية ومصغّرة من المباني والأبراج والجسور، تقطنها شخصيات مبهمة تحضر كما لو أنها منحوتة داخل قوالب من صابون. وفي معرض تفسيرها، تشير زي إلى استخدامها عناصر منتجَة بكميات كبيرة، وبالتالي لا هوية فردية لها، بغية خلق أنظمة محسوسة تغيّر تجربتنا لغرفة أو مبنى أو فضاء ما. وهذا ما يحدث في متحف "غوغنهايم"، حيث يتجلى حسّها التفصيلي، وميلها إلى استثمار الأشياء اليومية الصغيرة، وتحريكها بطريقة مترابطة ومتناغمة، كما لو أنها سرب أسماك. ولذلك، بدلاً من عصي وسلالم نقّالة ومصابيح مكتبية، نشاهد مدناً وحضارات وأنظمة بيئية أو شمسية بكليتها. وبدلاً من متحف، نشعر بأننا داخل آلة ضخمة، حية وصاخبة.
ومثل أرجوحة النوم الأثيرية في الطابق الأرضي، تنتظرنا في الطابق السادس شبكة مشابهة وموازية، تعلوها صور ممزقة لشمس في السماء، ونقاط طلاء. عملٌ نسجته الفنانة من سلسلة حبال، يمتد أحدها على طول الفراغ الذي يتوسط صرح المتحف اللولبي، الأمر الذي يجعله يأخذ شكل تعويذة. أما الحبال الأخرى فتربط سلسلة الفضاءات المعقوفة التي تمتد على طول الطابق السادس، وتستقبل لوحات ومنحوتات زي المدوخة، وأيضاً أجهزة عرض سينمائي تُسقط صوراً متحركة على قصاصات من الورق مثبتة على الجدران أو الأرض، وتؤدّي دور شاشات صغيرة. هكذا نرى على هذه القصاصات يدين تقومان بحيلة بورق الشدّة، بُروقاً تمزق السماء، أسراب طيور، مدخنة في طور السقوط، فتاة نائمة... صور تقليدية أو رقمية، تتغير أو تتكرر، كما لو أنها تشكّل معجماً من المفردات البصرية الملغزة.
لكن أكثر ما يفتننا في أعمال زي المعروضة في هذا الطابق هي منحوتاتها واللوحات ذات القياسات الضخمة التي تجاورها. الأولى تتألف من عيدان خيزران وقضبان فولاذ وعلب ملح وصناديق كرتون ومراوح كهربائية وأسلاك وخردوات مختلفة. أعمال غريبة، لكن شديدة الإيحاء، تستحضر في الهاجس الذي يتحكم بتراكم الاشياء الهجينة المصنوعة منها، سلوك طائر العقعق الذي يمضي وقته في تجميع كل ما يلفت نظره.
ولا تختلف لوحات الفنانة كثيراً عن منحوتاتها، فمع أنها تبدو مجرّدة من مسافة معينة، على شكل زوبعة من الألوان الهلسية، لكن ما أن نقترب منها حتى يتبيّن لنا أن سطوحها تتألف من مطبوعات وصور فوتوغرافية منضَّدة بتقنية الملصق. عناصر تستحضر بصوريتها الهجينة مادة الأحلام وطريقة تداعيها. ففي واحدة من هذه اللوحات، نشاهد صورة فتاة نائمة، تحاصرها صور حصان يعدو للمصور إدوارد مويبريدج، فصور متفرّقة ليدين تقولبان مادة الطين، لصقر جاثم، لنار تحدث ثقباً في ورقة، ولمشاهد طبيعية للرسام الياباني هيروشيجي. عمل حلمي بامتياز، يقابله تجهيز يستحضر، بترتيب النباتات والعصي والأشياء الأخرى المصنوع منها، حديقة "زين" يابانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما الزمن الذي يشكّل موضوعاً ثابتاً، لا بل هاجساً، في عمل زي، فنستشفّ أثر عبوره في طبيعة مواد منحوتاتها وتجهيزاتها، السريعة الزوال، كما في طريقة تراكمها، العشوائية تارةً، التي توحي بزمن انقضى، والدائرية تارةً أخرى، التي توحي بشركٍ لا مفر منه. وكما في الطابق الأرضي، ثمة بندول في الطابق السادس أيضاً، معلّق على سلّم، يلمس طرفه المتحرّك صحناً صغيراً من الملح. هل المقصود بذلك هو الإيحاء بأن الزمن هو ملح الأرض وما يمنح الحياة طعمها وقيمتها؟ أم بأنه ما يتلف الحياة بفعل عبوره؟
التجهيز العملاق الذي يحمل عنوان "موقِّت"، ويختم مسار المعرض، يجعلنا نميل إلى التفسير الأول. فبتشييده على شكل غرفة عمل ضخمة تعجّ بأشياء لا تحصى، تحضر ضمن فوضى عارمة: أدوات كهربائية، قطع أثاث مكتب، أوراق، شاشات حاسوب... تتقصد الفنانة فيه، كما في معظم أعمالها، فضح السديم اللامتناهي للصور والمعلومات الذي بات يغمرنا كل يوم ويستهلك وقتنا القصير على هذه الأرض.