Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل سيعاد تشكيل العالم وكثير من الحدود كذلك؟

يبدو السودان مقبلاً على أخطار أكبر بسبب تركيبته السكانية وخلفيته التاريخية بخاصة بعد انفصال الجنوب

غالبية حدود العالم الراهنة ليست لها جذور تاريخية طويلة (أ ف ب)

ملخص

ما حدث في أوروبا ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وفي أقل من عقدين من الزمان قد يكون أكبر تعديلات حدودية تشهدها القارة العجوز والعالم في زمن قصير

تتعامل الغالبية مع الترتيبات والحدود الجارية، سواء ولدوا في ظلها، أو حتى تشكلت حدود بلادهم بعد مولدهم وكأنها منذ الأبد، فبمرور سنوات حتى لو كانت قصيرة يعتاد الناس ويبدأون في التصرف كما لو كانت هذه الحدود خالدة أو منذ الأزل. ومن يقرأ التاريخ يعرف أن هذا غير صحيح، وأن غالبية حدود العالم الراهنة ليست لها جذور تاريخية طويلة، وكثير منها ينطبق عليها قول "مصطنعة"، وأن الأمم التي كونت دولاً عبر التاريخ هي الأقلية وليست غالبية ما نراه من دول العالم الراهنة.

ومن المؤسف أيضاً أن التغيرات الكبرى في أحوال العالم وحدود الدول تجري دوماً من خلال الحروب، وأنه عبر آلاف السنين كانت حدود الدول تتغير نتيجة الحروب والغزوات، ولم يتوقف هذا في العصور الحديثة. وبعد قرون من الاستعمار الأوروبي لمعظم دول العالم القديم والجديد، بدأت ظاهرة انحسار الظاهرة الاستعمارية التقليدية واستقلال كثير من دول آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، وتشكّل كثير من الحدود التي كانت أساساً مصطنعة صنعتها توسعات الإمبراطوريات وليست بالضرورة حدوداً طبيعية.

وفي الحقيقة، إن إثارة هذا الأمر تعود إلى مخاوف كثر من أبناء العالم العربي من أخطار جسيمة من حالة تشبه الانقسام في أكثر من قطر عربي منذ اندلاع الصراعات في هذه البلدان، ولا شك أن هذه المخاوف لها كثير من الأسس، ولا ينبغي تجاهلها، لكن الأمور أعقد من أن يجاب عنها بشكل مبسط وقطعي.

تاريخ حافل بالتغيرات

في العصر الحديث يشكل دوماً القلق حول مستقبل الدول الأفريقية نقطة انشغال لكل المعنيين من ساسة ودبلوماسيين وقادة رأى، بخاصة جنوب الصحراء، وحتى بعض تلك الكيانات شمال القارة، والمسألة ببساطة بدأت منذ انتهاء الاستعمار الغربي في معظم هذه الدول في النصف الثاني من القرن العشرين، إذ إن معظم هذه الدول نشأت بحسب التقسيمات التي أنشأتها القوى الغربية المستعمرة.

صحيح أن بعض هذه الدول شهدت حضارات قديمة في كل أو بعض أجزاء إقليم هذه الدولة، لكن تطابق حدود هذه الحضارات القديمة مع حدود الدول الراهنة يكاد يكون استثنائياً ومحدوداً، وباستثناء الثبات التاريخي الراسخ لمصر في القارة وتاريخ البشرية فإنه حتى الكيان التاريخي التالي رسوخاً، وهو إثيوبيا تعرض لكثير من التغيرات والتحولات على أسس عرقية وجغرافية.

ولهذا من التقاليد المستقرة في القارة الأفريقية مبدأ قدسية الحدود التي تركها الاستعمار الغربي، وتكرار مقولة إن حكمة الآباء المؤسسين لمنظمة الوحدة الأفريقية التي تحولت إلى الاتحاد الأفريقي كانت تؤكد احترام قدسية الحدود الاستعمارية، وإنه لو انفلتت المراجعات سينهار معظم الدول والترتيبات.

وبالفعل، عندما بدأت الحروب والنزاعات الأفريقية منذ ستينيات القرن الماضي، وكان أشهرها حرب بيافرا في نيجيريا، اتخذت القارة موقفاً حاسماً ضد النزعات الانفصالية، مع تورط بعض الأطراف الأفريقية بشكل سلبي في بعض الحالات، لكن بقي التيار الأفريقي الرئيس حاسماً في دعم استمرارية الترتيبات والحدود القائمة، وذلك على رغم أنه في بعض الحالات كان مناخ الحرب الباردة بين الكتلتين الغربية والشرقية آنذاك مصدراً للمخاطر والمخاوف ومعقداً لكثير من الصراعات في هذه المرحلة. وحتى الآن لا يمكن إلا القول إن أفريقيا فلتت من تقديرات متشائمة عديدة، وذلك على رغم وجود مسببات كثيرة للقلق.

لكن، الانقسامات الحادة وإعادة ترتيب الخرائط حدث بعد انتهاء الحرب الباردة في معسكر المهزومين، أي في الكتلة الاشتراكية لتؤكد تقاليد التاريخ بهذا الصدد، ففي كل مراحله القديمة والحديثة يندر أن تبقى حدود المهزومين كما هي، فانهار الاتحاد السوفياتي وتفكك إلى عديد من الدول، بينما كانت ألمانيا قبله قد اندمجت بعد انفصالها في شقين كناتج للحرب العالمية الثانية، وتفككت تشيكوسلوفاكيا إلى جمهوريتين التشيك وسلوفاكيا. أما يوغسلافيا السابقة التي لم تكن دولة واحدة إلا في القرن العشرين، فقد شهدت حروباً واضطرابات درامية انتهت إلى عديد من الدول، بناءً على تكوينات عرقية ودينية وحتى جغرافية.

وفي الحقيقة إن ما حدث في أوروبا ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وفي أقل من عقدين من الزمان قد يكون أكبر تعديلات حدودية تشهدها القارة العجوز والعالم في زمن قصير حتى لا يقارن مع إعلان استقلال المستعمرات الأفريقية في أقل من ثلاثة عقود في النصف الثاني من القرن الماضي.

هل يتعرض بعض العرب لمخاطر التقسيم؟

ثمة قلق لا يمكن تجاهله في بعض الأوساط الدولية والعربية مما يحدث في معظم ساحات الصراع العربية الجارية، بخاصة في ليبيا وسوريا واليمن، ودخل السودان أخيراً دائرة القلق وبصورة ربما تكون أسرع من الحالات الأخرى.

في سوريا تبلور الانقسام بحسب مناطق النفوذ التي تمارس الأطراف الخارجية السيطرة عليها، تركيا تسيطر على مناطق شاسعة تحيط بمحافظة إدلب في الشمال الغربي للبلاد، وتسيطر بالشراكة مع الميليشيات المتطرفة التي تتبنى خطاب الإسلام السياسي، وهي مناطق لا يمتد إليها نفوذ النظام السوري وحلفائه.

وفي الشمال الشرقي للبلاد، حيث تنتشر القوات الأميركية تسيطر قوات كردية على مناطق يحتفظون بها بالغالبية السكانية، ويمارسون حكماً ذاتياً فعلياً، وقد يتعمق في المستقبل في ظل الحماية الأميركية وعدم وجود أفق تسوية شاملة بعد في البلاد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما اليمن فيتبدى الانقسام بحسب المساحة التي يسيطر عليها الانقلابيون الحوثيون في مواجهة الحكومة الشرعية، والمخاطر نابعة من أن خطوط التماس متقاطعة مع تقسيم اليمن الجنوبي والشمالي الناتج من الاحتلال البريطاني للجنوب، وخلقه لتطور سياسي واجتماعي منفصل عن باقي اليمن، وعمقه تباين مذهبي بسيطرة حوثية على الشمال.

والحال في ليبيا منقسم بين الشرق والغرب منذ تبلور الصراع بين معسكرين يقف خلف كل منهما أطراف دولية وإقليمية متنوعة. والحقيقة أن ليبيا على رغم استمرارية الانقسام والصراع منذ سنوات عدة مختلف عن الحالتين السورية واليمنية، حيث تبدو معظم القوى السياسية على رغم صراعها على السلطة مبقية على خيوط تواصل أو لنقل شعرة معاوية في شأن وحدة البلاد.

واليوم، يبدو السودان مقبلاً على أخطار أكبر بسبب تركيبته السكانية وخلفيته التاريخية، بخاصة بعد انفصال الجنوب، ويمثل انفجار الصراع في دارفور أخيراً مصدراً كبيراً للقلق، مع التقاطعات المعروفة من دور قوات الدعم السريع وماضيها المظلم في هذا الإقليم.

لكن الصورة ليست قاتمة بالكامل، إذ إن كل حالة من حالات الصراع العربية سابقة الذكر تستحق معالجة شاملة لتقييم أبعادها، بخاصة أن كل حالة تشكل تركيبة مختلفة عن الأخرى، وهي مسألة تغري بضرورة مواصلة محاولة سبر غور هذا البعد لآثاره الخطرة التي لا يمكن تجاهلها، لكن هناك مجموعتين من الاعتبارات السلبية والإيجابية.

أما تلك الاعتبارات السلبية فأخطرها الحداثة النسبية لمعظم هذه المجتمعات، فبالنسبة إلى السودان نجد كياناً سياسياً حديثاً نسبياً يواجه تحديات نابعة من تركيبته الديموغرافية، ويليه من حيث مسألة حداثة الدولة تأتي ليبيا التي أيضاً تعد كياناً سياسياً مستقلاً حديثاً، وحتى حدود سوريا أو الشام الراهنة ليست متطابقة مع كيان الشام التاريخي، وفي حالة اليمن التي هي أحد أقدم الكيانات السياسية والاجتماعية التاريخية في العالم وليس فقط المنطقة فقد كان للاستعمار البريطاني أثره في تعميق تباين طبيعة الشمال عن الجنوب، وإن كان وحده ليس المسؤول عن هذا.

وفي كل هذه الحالات يلعب التدخل الخارجي دوراً سلبياً في تعميق مخاوف الانفصال، والخطورة أن يرتهن المستقبل في هذه الحالات بمصير التنافسات الخارجية، ومن سيكسب ومن يخسر، وآثار هذا على هذه المجتمعات.

وفي كل هذه الحالات، باستثناء ليبيا، تعاني هذه المجتمعات تباينات مذهبية تعمقت بسبب التدخلات الخارجية ولأسباب تاريخية ولإخفاق النخب السياسية.

وفي مواجهة هذه الاعتبارات السلبية السابقة وغيرها مما يتعلق بكل حالة على حدة، تكمن أهم فرص الإيجابية من وجود أجيال جديدة متعاقبة تعرف وطنها فقط بهذا الشكل، وتدرك تعقيد العالم المعاصر، وأن خلق فرصة وطن بديل محفوفة بالمخاطر في عالم مزدحم بالسكان، وترهقه ظاهرة الهجرة والنزوح، وإدراكهم بالمصير المظلم الذي واجه معظم حالات الانفصال والتشرذم، فضلاً عن خوف البشر من المجهول، وهذه الاعتبارات التي قد تبدو للوهلة الأولى أضعف من الاعتبارات السلبية فإنها في الوقت نفسه لا يمكن الاستهانة بها، وأرجح أنها قد تلعب الدور الحاسم في النهاية، وإن كان يظل من الضروري كما سبق تأمل كل حالة على حدة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل