Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"السوشيال ميديا" بعيون عربية: دهاء الجمهور وخبايا الآلات الذكيّة

قراءة في كتاب "دهاء شبكات التواصل الاجتماعي وخبايا الذكاء الاصطناعي" للاختصاصي اللبناني في ألسُنيّات الكومبيوتر الدكتور غسان مراد

غلاف الكتاب (أحمد مغربي)

يمكن النظر إلى كتاب "دهاء شبكات التواصل الاجتماعي وخبايا الذكاء الاصطناعي" الذي ألّفه د. غسان مراد، وهو اختصاصي لبناني في ألسُنيّات الكومبيوتر Computer Linguistics، باعتباره من المؤلّفات التي تنتمي إلى فئة "أدب التسكّع" أو أدب الـ"فلانير" باللفظ الفرنسي. وتنتمي إلى تلك الفئة من المؤلّفات، أعمال لمشاهير من بينهم الشاعر الفرنسي الشهير بودلير والروائي النمسوي بيتر هانكه والألماني- الأميركي والتر بنجامين وغيرهم. ومن الملامح التي تميّز تلك الأعمال، أنها تعتني بالتسّكع في شوارع المدن الحديثة، بمعنى أن المتسّكع يتأمل في الهويّة المجتمعيّة العامة والهيمنات التي تفرض نفسها على الشوارع، وهو يتفرّج على مظاهرها المتنوّعة [المحطّات والواجهات والإشارات والمواصلات وحركة البشر والآلات...]، بل يختبرها أيضاً، بمعنى أنه يسعى إلى رسم هويته الذاتيّة و"تخليصها" من الهيمنات المختلفة.

في ذلك المعنى، يتضمن كتاب "دهاء شبكات التواصل..." تسكّعاً هائلاً في شوارع الفضاء الافتراضي للإنترنت، خصوصاً دروب الـ "سوشيال ميديا" (مواقع التواصل الاجتماعي) الرقميّة كـ"فيسبوك" و"تويتر" و"انستاغرام" وغيرها. ليس في الأمر مبالغة، إذ يعتبر الكتاب أن "الإنترنت عالَمٌ ثالثٌ لكل فرد يعيش عصر الشبكات الرقميّة. يتمثل الأول في العالم المباشر الذي نعيش فيه فعلياً، حيث نتواصل مع الآخرين بوجه واضح وهويّة محدّدة... وتشكّل الأحلام، العالم الثاني للفرد... هناك أحلام تراودنا في يقظتنا وفي منامنا، ومَنْ نتفاعل ونتحاور معهم في تلك الأحلام، هم جزء مِنْ رغباتنا... ويستطيع هواة آراء سيغموند فرويد العودة إلى كتابه المرجعي "تفسير الأحلام" للاستزادة من الموضوع... وتبدو شبكة الإنترنت قريبة من كونها عالماً ثالثاً للفرد، وتستعير كثيراً أو قليلاً من العالمين الأول والثاني". (ص 69).

وفي سياق التسكّع في الفضاء الافتراضي، تنثال الأسئلة: "ماذا تفعل بنا التقنيّات وماذا نفعل بها؟" (ص 09) و"هل تصبح التقنية الرقميّة جزءاً من التربية على المواطنة؟" (ص 23) و"هل نجحت التقنيّات الرقميّة في مواجهة التطرّف والكراهية؟" و"هل تُرْدَم الفجوة المعرفيّة بالخطابات وحدها؟" و"من يواجه وحش الـ"فيسبوك؟"(ص 83) و"هل نعلّم أطفالنا حقائق العالم الثالث؟" (ص 69) و"حركة ما بعد الإنسانيّة... إلى أين؟" (ص 162) و"هل نستطيع يوماً أن نفهم ما يجول في دماغ الإنسان؟" (ص 175) وغيرها.

 

زيف الطمأنينة حيال تهديد الحرية الفردية

كذلك يبرز في الكتاب تَفَرُّجٌ بعين المتسكّع الافتراضي على صفحات الجمهور العربي واللبناني، وحساباته وتغريداته وصوره وأشرطة الفيديو وغيرها. ويؤدي ذلك إلى التقاط تناقضات هائلة [بل ربما مآسٍ الأفراد والمجتمعات]، لا يتوانى المتسكّع عن نبشها ونفض زيف الطمأنينة الإلكترونيّة المخادعة عنها. وخلف بهرجة الصفحات والحسابات والتغريدات، يبرز بوضوح أن "السعادة في مواقع التواصل الاجتماعي مُفَبْرَكَة ومُصْطَنَعَة" (ص 105)، إضافة إلى وجود "تسخيف لأمنيات الأعياد في شبكة الويب والسوشيال ميديا" (ص 99)، و"انقراض لغوي وشخصيات "تواصليّة" على شبكات التواصل" (ص 91) وسواها. ويصل التسكّع الافتراضي إلى هدفه العميق المتمثّل في إبراز هويّة الفرد على حساب الهيمنات المسيطِرة على الفضاء الرقمي الاجتماعي عبر الإضاءة على ما ليس مألوفاً الإشارة إليه في مجمل الخطاب الإعلامي والثقافي في الدول العربيّة عن الشبكات الرقميّة. وهناك مثلٌ مكثّف على ذلك، يظهر في مقاربة ظاهرة تتمثّل بوقوع "أفراد التواصل الاجتماعي بين مطرقة التَمَظْهُرْ وسندان الواقع" (ص 109).

ربما يعرف كثيرون أن الجمهور العربي الواسع يسوده ميل إلى إبراز صورته الفردية والعائلية والمجتمعيّة على الإنترنت، باعتبارها متألقة ووردية دوماً. ويستنطق الكتاب تلك الظاهرة، مشيراً إلى ريائها وزيفها. ويرى أنها تعبّر أيضاً عن استلاب شبكي للفرد العربي، عبر "تطويعه" للصور السائدة المهيمنة على الإنترنت. واستطراداً، تظهر أفكار ترغب في تحرير الفرد من الاستلاب والهيمنة، عبر صرخات من نوع "المشاهير بوصفهم صُنّاع شهرة الآخرين" (ص 114) و"عندما ترغب في الشهرة، فكر في قوانين السمعة الرقميّة" (ص 117) و"السلوكيّات الفيسبوكية تحدّد ملامح الشخصيّة" (ص 96) وغيرها.

والأرجح أن ذلك الصراع بين الإصرار على حرية الفرد وحقوقه في الفضاء الافتراضي وبين "الوحوش" المسيطرة على ذلك الفضاء الرقمي العام، هو أمر ينسج خيوطاً بين أوضاع عربيّة على الإنترنت من جهة، وصراعات ضخمة تتميّز بوعي أكثر وضوحاً في الدول الغربية، المهد الفعلي لثورة المعلوماتية والاتصالات المتطوّرة، من جهة ثانية. ولعل ذلك يصبح أشدّ وضوحاً لدى مَن تابع مجريات حديثة متعلقة بشبكات السوشيال ميديا عالميّاً، خصوصاً سلسلة الفضائح التي تخبط بها "فيسبوك" على غرار فضيحة "كامبريدج أناليتكا"، واستخدامه في التدخّل الروسي الإلكتروني المفترض في انتخابات الرئاسة الأميركية الأخيرة، وإقراره بالفشل في حماية بيانات الجمهور، إضافة إلى تورّطه في بيع تلك البيانات إلى شركات الإعلان التجاري وغيرها.

إشكالية نقدية بشـأن الذكاء الاصطناعي

ربما ليس غريباً أنه بعد مثول مارك زوكربرغ، مؤسّس ومدير موقع "فيسبوك"، أمام برلمانات غربية وأميركيّة، يظهر كتاب عربي يحاول الربط بين تلك المعطيات العالميّة من جهة، وما يمارسه الجمهور العربي الواسع على شبكات الـ “سوشيال ميديا" من جهة ثانية. واستطراداً، تظهر في الكتاب صفّارات إنذار تؤشر على تلك العلاقة كـ"الـ"فيسبوك" بين نهاية حلم وبداية كابوس" (ص 198) و"سقوط شعبيّة الفيسبوك نموذجاً لظاهرة السمعة الافتراضيّة" (ص 122) و"أزمة فيسبوك إقرار بإخفاقه منصة للإعلام" (ص 201) وغيرها.

في سياق العلاقة بين المحلي والدولي وبين العربي والعالمي، يناقش الكتاب مظاهر متنوّعة، لعل الأبرز بينها هو "الفجوة الرقميّة" Digital Divide، التي يفرد لمناقشتها فصلين مطوَّلين متتاليين، الأول عنوانه "فجوة رقميّة.. فجوة معرفيّة" (ص 27- ص 50) والثاني "الفجوة الرقميّة - المعرفيّة مدخل إلى الإرهاب والتطرّف" (ص 51- ص 66). ولعل الكتاب يندرج ضمن الأصوات القليلة عربيّاً التي تدعو إلى نقاش تلك الفجوة ضمن أطر أوسع من أبعادها المعلوماتية والتكنولوجيّة. إذ يشدّد على أن الفجوة الرقميّة هي جزء من "أنواع أخرى من "الفجوات" بين الدول وداخل المجتمع الواحد، كالتفاوتات الاجتماعية والاقتصاديّة والطبقيّة والثقافيّة والعمريّة. ويُرجح أن الفجوة الرقميّة تستند أساساً إلى التفاوتات الهائلة بين الدول الغنيّة والفقيرة" (ص 33). وكذلك يرى أن "الفجوة المعرفيّة بابٌ مفتوح على التطرف" (ص 56)، كما يثير نقاشاً شائكاً عبر إشارته إلى مواضيع كـ"دور الإعلام الرقمي في تجنيد الشباب غرباً" (ص 53) و"السوشيال ميديا وإرث الحادي عشر من أيلول" (ص 61)، وهذا ما يزيد في تعدّد الأبعاد التي يجب الالتفات إليها في نقاش الفجوة الرقميّة.

والأرجح أن ثمة خيطاً شبحيّاً ينسرب بين كلمات الكتاب كلها، هو الذكاء الاصطناعي والنقاشات الصاخبة التي تُثار حوله عالميّاً، والتي يقابلها حال انبهار وذهول في العالم العربي. ويتحوّل ذلك الخيط الشبحي إلى فصلين واضحين في تناولهما ذلك الموضوع، هما "آلات الذكاء الاصطناعي في ميدان علوم الاجتماع" (ص 235- ص 152) و"الذكاء الاصطناعي نحو إنسانيّة جديدة" (ص 153- 189).

وعلى عكس الانبهار المذهول عربيّاً بإنجازات الذكاء الاصطناعي، يطرح الكتاب ذلك الموضوع عبر مواضيع إشكاليّة قد تحفّز العقول على التفكير نقديّاً به، كما يتضمّن تحديّاً للنمط السائد في تناول ذلك الأمر. وفي ذلك المسار، يرتسم الأفق النقدي عبر مقولات في الكتاب مثل "ثورة الذكاء الاصطناعي... إشكاليّة لكن موضوعاتها متداولة بقوّة" (ص 155) و"تغيير الرأس بحسب الطلب: نصف إنسان... نصف آلة" (ص 170) و"نحو إنسانيّة هجينة: عالم السايبورغ" (ص 167) وغيرها. ويتكثّف أفق النقد والتحدي في مقولة حاسمة كـ"لا ذكاء اصطناعيّاً للآلات... حتى الآن" (ص 185). وتأتي براهين النظرة النقديّة عبر استعراض التاريخ الحديث للذكاء الاصطناعي، خصوصاً منذ وضع عالِم الرياضيات البريطاني الشهير آلان تورينغ (1912- 1954) اختباراً عُرِفَ باسمه يتضمن حوار بشر مع "طرف ما" يجهلون ما إذا كان آلة ذكيّة أو إنساناً. وأوضح تورينغ أنه إذا وصل ذكاء الآلات إلى حد لا يتمكن الإنسان معه من تمييزها عن المُحاور البشري، عندئذ يكون الذكاء الاصطناعي وصل إلى حد التساوي مع الذكاء البشري.

ولم يكن صدور الكتاب بعيداً عن ظهور رأي متشائمٍ عن الذكاء الاصطناعي عبّر عنه الفيلسوف السويدي المعاصر نيك بوستروم الأستاذ في جامعة أوكسفورد. إذ رأى بوستروم أن تطوّر الذكاء الاصطناعي ربما يوصل البشريّة إلى فنائها في مستقبل غير بعيد! وأكّد أن مجموعة كبيرة من المختصين في المعلوماتية يرون أن الذكاء الاصطناعي سيساوي 10 في المئة من ذكاء البشر مع حلول العام 2022، ثم 50 في المئة في 2040 ثم 90 في المئة في 2075. وأشار إلى أن تساوي ذكاء الآلات مع نظيره لدى الإنسان يولّد وضعاً تظهر فيه الميزات المتقدمة الخاصة بالكومبيوتر، وهو ما لا يستطيع العقل البشري مجاراته، فيختل التوازن بين الذكائين لمصلحة الاصطناعي. وأحدث ذلك الرأي تأثيراً قويّاً في الأوساط العلمية العالمية. وفي أحد الردود على رأي بورستروم، أجرى البروفسور أورين إتسيوني، من "معهد ماساشوستس للتقنية" دراسة شملت 80 خبيراً في التقنيّات الرقميّة والذكاء الاصطناعي. وأعربت غالبيّة ساحقة (72.5%) من أولئك العلماء عن اقتناعها بأن المستقبل المنظور لن يشهد وصول الذكاء الاصطناعي إلى المستوى البشري!

 

المزيد من كتب