Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حين تتحرر الخطوات في النور... سيرة ولع بالموت

الثقافة العربية الأكثر تقديساً لمبدأ التضحية وفكرة تشييع الموتى بالفرح عادة متجذرة والطغاة يستغلونها للحشد والبقاء

عدم إدراك قيمة العمر والبحث عن طريقة للتضحية به وانتظار نهايته أمر يبعث على التساؤل (أ ف ب)

ملخص

هل الولع بالموت عادة عربية موروثة أم تخضع لاستغلال سياسي من قبل بعض القادة لحشد الجماهير خلفهم؟

 حين كان من المفترض ذرف الدموع بغزارة كان الجميع في الواقع يرقصون وهم يرفعون النعش ويهللون ويغنون، وبعضهم يصفق ويطلق الزغاريد في مشهد شديد التناقض بين مفرداته.

فعادة ما تترافق لحظات الوداع مع النحيب، لكن هذه الأجواء هي أقرب إلى السعادة والفرح والاحتفال وهي حال ليست نادرة ولكنها متكررة تابعها الملايين عبر الشاشات في جنازات عدة، فهل جاء اختيار هذه الطريقة في وداع الأحبة نوعاً من أنواع الإنكار، أم مجرد وسيلة للتحايل على الحزن المقيم وتخطي موقف قاس عبر النظر إليه بسعادة؟

الحقيقة أن الاحتفاء بالموت لا يشمل الثقافة العربية وحدها، لكن هناك بعض الطقوس والكرنفالات في ثقافات شتى تشير إلى تقديس الوفاة، لكن تظل المنطقة العربية الأكثر زخراً بمواقف ومعتقدات تعتبر الموت انتصاراً وغاية كبرى، سواء لأسباب دينية أو حتى مجتمعية بحتة، بينما تنهزم الحياة بتفاصيلها وبهجتها أمام أي نقاش يشكك في هذا المعتقد.

بعيداً من الحزن

مظاهر السعادة هنا ليس المقصود بها بالطبع قيم مثل الصبر والرضا واستيعاب الصدمة والتعايش معها، ولكن التفكير في الموت كغاية بل الولع به بدلاً من تعلم الاستمتاع بالحياة ومباهجها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بالطبع يبقى الموت هو الحقيقة المطلقة في هذه الحياة، لكن عدم إدراك قيمة العمر وإهداره والبحث عن طريقة للتضحية به وانتظار نهايته أمر يبعث على التساؤل، فمن هو المسؤول عن تزييف معنى الحياة؟ ومن لديه المصلحة في إعلاء مبدأ السعي إلى الموت ووراثة تلك الفكرة أباً عن جد؟ ولماذا تكون الآلية الأولى التي يلجأ إليها بعضهم لتقبل حدث مروع مثل هذا هي محاولة تجميله؟

لا ينكر أستاذ الطب النفسي محمد المهندي أبداً أن اعتناق مثل هذه المفاهيم هو وسيلة لتجاوز الحزن، لافتاً إلى أن الحفاوة الظاهرة بالموت ربما تكون بالفعل نوعاً من الدفاع النفسي ضد الخوف والقلق والرعب من الموت، ومشدداً على أن رؤية مغادرة الحياة بهذا المنظور ومحاولات الاحتفال بها تكون أيضاً مرتبطة بمعتقدات دينية أو وطنية أو توظيفات سياسية، أو بفلسفات وتصورات تجعل الموت حدثاً مهماً يدعو إلى الفخر أو العزة، أو يخلص الإنسان من معاناته، أو يصبح البوابة الذهبية نحو عالم الخلود.

الميت يعبر في أمان

الحديث عن الخلود والعبور نحو دار أرحب يجعلنا نتذكر على الفور معتقدات قدماء المصريين في الموت، إذ تركوا وراءهم كنزاً من المقابر الأثرية التي تتضمن كافة مظاهر الحفاوة بالرحيل إلى العالم الأوسع والأبقى.

فـ"الخروج فى النهار" هو اسم من أسماء كتاب الموتي الفرعوني، بمعنى بعث الميت وخروجه بعد الوفاة إلى عالم النور والخلود.

يتحدث الشاعر والباحث مسعود شومان، رئيس اللجنة العلمية لأطلس المأثورات الشعبية المصرية، عن معنى العبور لدى المصريين بالتأكيد على أنه "منذ القدم والموت عندهم يمثل طقساً احتفالياً لأنه ليس نهاية بل هو عبور إلى مكان وزمان آخرين"، مشيراً إلى أنه لم يكن له ذلك الشكل الجنائزي المعتمد على اللطم والسواد والحزن، بل جرى الاحتفال به عبر تقديم المأكل والمشرب وتحويل العزاءات إلى طقس اجتماعي للتعارف والمجاملات وتبادل الصفقات وهي أمور مستمرة حتى اليوم".

 

 

يشبّه شومان فكرة العبور في الموت بما يحدث في مناسبات أخرى مثل ليلة حناء العروس وأيضاً أداء فريضة الحج، فالزواج يعتبر مرحلة جديدة في الحياة، كما أن الحاج يتطهر ويعود من رحلته المقدسة إذا ما أحسن أداءها وأخلص النية فيها، متخلصاً من ذنوبه، والأداءات الإنشادية في الحالين تبدو متشابهة كثيراً.

أما أستاذ الطب النفسي محمد المهدي فيقول "في الأديان مثلاً تكون للموت أبعاد تجعله مقبولاً وأحياناً مطلوباً، إذ إنه ذهاب إلى الخالق وارتقاء للسماء وراحة من عناء الدنيا وفوز بنعيم مقيم، فالإنسان قد يقدم حياته راضياً سعيداً لتحقيق معنى ديني، بل ربما يقدم أحد أبنائه قرباناً للآلهة ليرضوا عنه وقد يضحي بحياته الفردية فداء لوطنه أو أهله أو قبيلته أو أمته وهذا ما يجعل الموت مصحوباً بفخار وعزة"، ويضرب المهدي المثل هنا ببعض الجنازات في الأراضي الفلسطينية التي تتحول إلى احتفاليات.

زفة الأولياء وزيارة الموتى

إذاً فمنذ الحضارة الفرعونية القديمة وهناك اهتمام خاص بمن فارقوا الحياة وهو أمر أصبح متوراثاً ومترجماً في مظاهر كثيرة مثل تقديس المقامات والعناية الفائقة بالمقابر وشكلها وتزيينها بشواهد مصنوعة بمهارة عالية وكأنها قطع فنية نادرة، والاعتقاد بأن المتوفى مقدس أمر تشترك فيه أيضاً حضارات أخرى مثل الإغريقية أو الصينية وبعض قبائل أفريقيا كذلك، حيث تقديم القرابين لأرواح الموتى نظراً إلى الاعتقاد بأن الشخص الذي فارق الحياة سيظل أثره ممتداً ومتوغلاً في حياة ذويه.

وذلك ما يفسر على سبيل المثال عادة زيارة القبور عند عموم المصريين، فيقول رئيس اللجنة العلمية لأطلس المأثورات الشعبية مسعود شومان إن "الأمر في بعض المجتمعات لا يتوقف فقط عند مجرد الزيارة ولكن أيضاً الحديث مع صاحب القبر وكأنه لا يزال حياً، كأن تحكي الزوجة لزوجها الراحل عما حدث في غيابه وتبوح بأسرار العائلة له وتطمئنه على الأبناء والأقارب وتأتنس بهذا الطقس تماماً كما لو أن رفيقها ما زال حياً يرزق".

 

 

بحكم اهتمام الشاعر والباحث مسعود شومان بجمع التراث غير المادي، فإنه عايش ظواهر عدة تؤكد توغل أفكار الاحتفال بالموت في أنحاء البلاد وفي المجتمعات كافة بها، منوهاً إلى أنه شاهد بالفعل جنازات يتم تشييعها بما يشبه الزفة ولافتاً إلى أن هذا أمر معتاد حينما يكون الفقيد خيّراً وطيباً ويعتقد من حوله بأنه ربما يصل إلى درجة الولاية، وكأن الموت في نظرهم هو تتمة وتعميد له ليصبح ولياً، فالجنازات من الطبيعي أن تستخدم فيها الطبول والبيارق، بل يتم فيها ذبح الأضاحي تحت النعوش، وهذه الطقوس منتشرة في بعض قرى الدلتا (شمال القاهرة) وبعض قرى الوادي الجديد (جنوب غربي البلاد) حيث يتم تشييع المتوفى بالزغاريد والطبول كنوع من التبشير بالجنة.

هل للموت جمال؟

لكن أليس احترام الموت وتقدير طقوسه بأمر مختلف تماماً عن تفضيله على الحياة والولع بها؟ إن الفطرة والأديان أساسها عمار الأرض بالعلم والعمل وهو ما لن يتحقق حينما يكون هدف الإنسان أن يختار أقصر طريق لمغادرة العالم، وإذا كان الشهيد مكرماً في الأديان وتستقبل عائلته جثمانه بالزغاريد وتشعر بالفخر لشجاعته في مواجهة الأعداء، فيكون الاحتفاء هنا بموت بطولي، فالبطبع كان هؤلاء المحبون سيشعرون بسعادة أكبر حينما يستقبلونه وهو على قيد الحياة ليتمتع بشبابه ويكمل مسيرته.

الباحث مسعود شومان يشدد على أن التعامل مع الموت بتلك الأفكار الاحتفالية لا يتعارض أبداً مع فكرة الاستمتاع بالحياة وتقديسها، بخاصة في المجتمع المصري، بل يعتبرها بمثابة استكمال وتأكيد لهذه المعاني المبهجة التي تحوّل الحدث المقبض إلى آخر أقل ثقلاً على القلب.

 

 

هذا الرأي تعززه دراسة بعنوان "عادات الموت كمحدد للسمات الثقافية للمجتمعات الريفية في المجتمع المصري" للأستاذة بقسم الاجتماع في جامعة قناة السويس مرفت حسن برعي، إذ خلصت الدراسة إلى أن "للموت مكانة خاصة فى حياة المصريين القدماء من حيث اعتقادهم بالبعث وضرورة الحفاظ على الجسد من التحلل والفناء، بالتالي نشأت لديهم فكرة التحنيط ومن أبرز مظاهرها حضارياً الأهرامات".

وتتابع الباحثة "يدلنا هذا على أن هناك سمة أساسية متأصلة في الشخصية المصرية هي الإيمان بأن هناك حياة أخرى سوف يحياها الإنسان بعد الموت وهي حياة خالدة سيرى فيها ألوان النعيم والأمان والراحة والسعادة الأبدية".

كما يلفت أستاذ العادات والمعتقدات والمعارف الشعبية عبدالحكيم خليل النظر إلى عادات أتباع بعض الطرق الصوفية التي تقضي بإقامة طقوس احتفالية عند أضرحة شيوخهم، معبرين عن فرحهم بقربهم منهم بتلك الطريقة، بل قد تستمر هذه المظاهر أياماً طويلة تتخللها أنشطة عدة وكلها تصب في محاولات التعبير عن حبهم للراحلين".

تسييس الرحلة إلى الآخرة

أستاذ الطب النفسي محمد المهدي ينوه بأن هناك عدداً ليس قليلاً من السياسيين في أنحاء العالم استغلوا اعتناق الشعوب لمبادئ تقديس الموت لحشد الجمهور خلفهم، كما أن القادة العسكريين كذلك تغنوا بهذه الأفكار لتحفيز الجنود على القتال في سبيل أهداف بعينها يرونها باعثة على الفخر والاعتزاز من وجهة نظرهم، مشيراً إلى أن هذا الأمر لا يقتصر على منطقة جغرافية بعينها، فيرى أن ثقافة الفخر والحفاوة بالموت موجودة في مجتمعات وحضارات كثيرة قديمة وحديثة، لكن "هذا المعنى يكون أكثر وضوحاً ورسوخاً في الثقافة العربية نتيجة لتشبعها بمفاهيم دينية كثيرة تجعل الموت مرغوباً فيه، بخاصة حينما يتصل بمفهوم الشهادة".

بمتابعة تعامل رواد الـ"سوشيال ميديا" مع بعض حالات الموت سنجد وصفاً للذين يفارقون الحياة في مقتبل العمر بأنهم "عرسان الجنة"، ومن بين الأمثلة هنا وفاة الملحن محمد النادي الذي رحل فجأة أخيراً وهو في أواخر الثلاثينيات من عمره، حين علق الشاعر بهاء الدين محمد بالقول إن "الموت حياة" ولخص بعضهم الموقف بعبارة "الموت فرح".

كما أن تحويل مراسم تشييع جنازة الفنان اللبناني جورج الراسي الذي قضى نحبه شاباً في حادثة سير مأساوية العام الماضي إلى مشهد غنائي راقص كان حدثاً توقف عنده كثيرون.

قبله بأعوام في لبنان كان الجمهور على موعد مع متابعة الجنازة الراقصة للفنانة صباح التي أوصت بتشييع جثمانها وفق تلك الطقوس.

يحاول أستاذ الطب النفسي محمد المهدي شرح هذا التناقض بالتأكيد على أن "من المعتاد والمعروف بالضرورة أن الناس يخافون الموت ويقلقون لمجرد ذكره ويتشاءمون من أي شيء يتصل به ويحاولون نسيانه أو إنكاره قدر استطاعتهم، كما يحزنون إذا خطف الموت أحداً ممن يحبون وربما يعيشون الحزن طوال حياتهم، ومع هذا توجد توجهات أخرى تحتفي بالموت وربما تشجع عليه أو تسعى إليه، وهذه التوجهات قد تكون مدفوعة بتصورات ومعتقدات دينية أو محفزات سياسية ووطنية أو دوافع شخصية أو معان فلسفية ووجودية أو حتى خيارات شخصية".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات