ملخص
من سمات حروب السودان أنها تحدث في لحظات مفصلية، مثل استعداد الدولة لبداية مرحلة جديدة، فتندلع الحرب فجأة من ركام غبار المظالم والتهميش.
تكاد لا توجد دولة تطبعت مع الحروب منذ أن كانت إقليماً ضمن بلد واحد، ثم استمرت معها حتى بعد انفصالها عنه، إضافة إلى اشتعالها في جوارها، السودان الشمالي، إلا دولة جنوب السودان.
حال فريدة من طول أمد المعاناة على رغم الجهود الإقليمية والدولية بأن هذا الواقع لا بد من أن يتغير، إذ كان الجنوبيون ينتظرون انتهاء الحرب وأن تمضي الحياة قدماً، وعندما وقع "اتفاق نيفاشا للسلام" الذي مهد للانفصال عام 2005، واجهوا واقعاً وقضايا جديدة تجسدت في مصير ما بعد الحرب، وتمنوا أن يؤسسوا دولة مستقلة بعد الانفصال الذي اختاروه، وأن تكون الحرب مجرد ذكرى لا واقعاً مستمراً اعتادوا عليه، لدرجة أن عادت بعد عامين فقط من الاحتفال بالدولة الوليدة عام 2011.
اندلعت الحرب مرة أخرى في جنوب السودان عام 2013 بعد أن اتهم الرئيس سلفا كير ميارديت نائبه رياك مشار بمحاولة الانقلاب عليه، وبعد أن أودت الحرب التي استمرت خمسة أعوام بحياة مئات الآلاف، وقع اتفاق السلام في أديس أبابا في الـ 13 من سبتمبر (أيلول) 2018، بعدما انهار اتفاق السلام الذي وقع في جوبا، في أغسطس (آب) 2015، في يوليو (تموز) 2016.
حروب متصاعدة
وعلى رغم الحروب الأهلية المتصاعدة في السودان إلا أن معظمها كانت نتيجة نزاعات إثنية وقبلية، كما في دارفور ومنطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق التي تشكل الآن الإقليم الجنوبي الجديد للسودان، كما توطنت الحرب في جزء من تاريخ السودان الحديث على صراع أيديولوجي غذته عناصر أخرى متمثلة في حرب الجنوب، وظهرت هذه الصيغة بعد استيلاء نظام عمر البشير بخلفيته المنتمية إلى الجبهة الإسلامية القومية على السلطة، فكان المقاتلون من المنتمين إلى التيار الإسلامي ضد المسيحيين في حال "جهاد إسلامي - عروبي" عن حكومتهم، وليس عن وحدة السودان التي تلاشت في عهدهم أيضاً.
أما الصيغة الأولى لحرب الجنوب التي بدأت بتمرد عام 1955 فقد كانت مناطقية حملت معها عنصر العروبة والأفريقانية من دون أن يكون الدين واضحاً، ونشبت نتيجة لتمرد قامت به الفرقة الاستوائية التابعة للقوات المسلحة السودانية في مدينة توريت جنوب السودان، تبعتها أعمال عنف وقتل للمدنيين راح ضحيتها نحو 500 شخص.
وبدأت الشرارة في جوبا بعد أن قرر حاكم المدينة نزع سلاح بعض الجنود، وتبعتها مدينة يامبيو، وعندما أمر الحاكم فرقتين عسكريتين بالتحرك نحو جوبا لإخماد العنف تمردتا، وتشكل مسار الحرب منذ تلك الحادثة بأنها حرب ضد سلطة الدولة.
أما السمة الأخرى لحروب السودان فهي أنها تحدث في لحظات مفصلية مثل استعداد الدولة لبداية مرحلة جديدة، فتندلع الحرب فجأة من ركام غبار المظالم والتهميش وغيرها، وكأن من ينتفضون عادة يصلون إلى قناعة مفاجئة بأنه حان خروجهم من صمتهم، وفي بعض الحالات تكون لإحساس مبطن بضرورة اغتنام الفرصة لتحقيق بعض المكاسب في المواقع السياسية، فعندما حدث تمرد توريت كان السودان يستعد لتقرير مصيره وخروج القوات البريطانية والمصرية من أراضيه.
وعندما نشبت أحداث دارفور عام 2003 جاء توقيتها بين توقيع الحكومة السودانية لاتفاقي "مشاكوس 2002" و "نيفاشا 2005" مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، إيذاناً بوقف القتال في الجنوب، وذلك عندما شنت حركة "تحرير السودان" وحركة "العدل والمساواة" هجوماً على القوات الحكومية المكونة من الجيش وقوات "الجنجويد".
أما الحرب الحالية التي نشبت منتصف أبريل (نيسان) الماضي فكانت على إثر الاختلاف حول "الاتفاق الإطاري" الذي وقع بين المكون العسكري والمدني في ديسمبر (كانون الأول) من أجل تشكيل حكومة مدنية والانتقال إلى المسار الديمقراطي. وكان البند موضع الخلاف هو دمج قوات الدعم السريع في الجيش خلال الفترة الانتقالية ومدتها عامان، ووضع ضوابط ومعايير لضباط الدعم.
هبوط الإنتاج
بدأ التنقيب وإنتاج النفط في بداية تسعينيات القرن الماضي بواسطة تجمع شركات من دول عدة في مقدمها الشركة السودانية للنفط والشركة الوطنية الصينية.
ولم توجد إحصاءات دقيقة عن الإنتاج في تلك الفترة لأن الحكومة كانت تقلل أرقام إنتاج النفط في منشوراتها الرسمية، مثل وزارة المالية وبنك السودان، وتعلن كمية أقل لأن تلك الإيرادات كان مقرراً أن تخضع لـ "اتفاق نيفاشا" وتقتسم مع حكومة جنوب السودان 50 في المئة لكل منهما، بعد تخصيص اثنين في المئة للمجتمع المحلي في الولايات المنتجة للنفط، كما لا توجد بيانات عن كيفية إنفاقها.
ولم يكن انعدام الشفافية حول أسعار مبيعات النفط هو المشكلة الوحيدة، فالحكومة القومية هي التي كانت تتولى مسؤولية بيع النفط، بينما لا تعلن لحكومة الجنوب أو الإعلام الاقتصادي عن الأسعار الحقيقية، وهي لا تشاركها إلا الإيرادات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعد الانفصال بقيت للسودان حقول نفط صغيرة ومراكز المعالجة وخطوط الأنابيب والمصفاة، فتراجع إنتاج النفط لأقل من 130 ألف برميل، وفشل النظام السابق في رفعه إلى أكثر من ذلك بسبب شح التمويل وهرب النقد الأجنبي والشركات المستثمرة، وتأزم الوضع السياسي وتواصل التدهور فتقلص الإنتاج إلى 60 ألف برميل في اليوم.
وعليه أصبح تقاسم العائدات بين الشمال والجنوب في صيغة رسوم على خطوط الأنابيب الممتدة من مناطق الإنتاج في دولة جنوب السودان إلى ميناء بشائر في شرق السودان على البحر الأحمر.
كما بددت كل احتياطات البلاد من النفط بسبب اندلاع النزاع عام 2013، إذ كانت جميع إيرادات جنوب السودان من النفط، وبلغ بعد الانفصال 250 ألف برميل يومياً، لكنه انخفض بعد الحرب إلى نحو 180 ألف برميل يومياً، وزاد على ذلك انخفاض أسعاره عالمياً مما أحدث عجزاً في الإيفاء بالاستحقاقات.
وفي مارس (آذار) 2015 طلبت دولة جنوب السودان من السودان خفض رسوم عبور النفط الذي يمثل العمود الفقري لاقتصادها بنحو 98 في المئة عبر أنابيب الشمال لكن لم تتم الموافقة، ليضاف ذلك إلى القضايا العالقة بين الدولتين.
وفي عام 2020 عرضت حكومة سلفا كير 14 منطقة نفطية على شركات استثمارية أجنبية للتنقيب وإنتاج النفط، لكن لم تنجح في استقطابها بسبب النزاعات الداخلية وعدم الاستقرار الأمني، والآن لا يتعرض الإنتاج في الجنوب وحده للخطر، وإنما يشمل التهديد أيضاً الأنابيب الناقلة لنفط الجنوب إضافة إلى مصافي النفط، وكلها معرضة لاتخاذها إحدى أهداف الحرب.
آثار ممتدة
ونتيجة للصراعات الداخلية حذرت منظمات إنسانية من أن عشرات الآلاف من مجموع سكان جنوب السودان البالغ 11 مليون نسمة معرضون لخطر الجوع نتيجة لموجة الجفاف التي ضربت القرن الأفريقي.
وسبق هذا التحذير الحرب السودانية، فكانت جوبا تستعين على هذه الأزمة باستيراد الأغذية والحبوب من السودان ودول الجوار، إضافة إلى المساعدات الإغاثية الدولية، وبعد الحرب توقفت الحركة التجارية بين البلدين، كما توقفت النشاطات الاقتصادية مثل الزراعة والرعي التي تقوم بها القبائل على الحدود، وأسهم ذلك في نفاد الإمدادات الغذائية الطبيعية مما فاقم أزمة الجوع.
كما يمتد الأثر ليشمل اللاجئين، إذ كان الوضع مبنياً على استقبال السودان لعدد كبير من اللاجئين الجنوبيين بسبب النزاعات القبلية، وبعد الحرب السودانية اضطر هؤلاء إلى العودة لبلادهم، وأضيف إليهم مواطنون سودانيون ومن جنسيات أخرى من بلدان الجوار، وبهذا تواجه دولة الجنوب قضية إعادة التوطين وتوفير الحاجات الضرورية من مأوى ومأكل وعلاج في ظل معاناة دولة الجنوب وما يحيط بها من أزمات.
ومع هذه الجموع فرّ عدد من الجنوبيين المقيمين في الشمال الذين قدرت أعدادهم بنحو 700 ألف جنوبي في الشمال، ولم تحسم قضية جنسيتهم منذ الانفصال على رغم أنهم من مواليد الشمال بعد عام 1956، بحسب نص الدستور المادة الرابعة، وذلك لأن مادة أخرى في الدستور نفسه، المادة 10، تجيز لرئيس الجمهورية إسقاط الجنسية عن أي سوداني بالميلاد وفق شروط معينة، لكنها استغلت في عهد البشير وأسقطت عن الجنوبيين، بينما لم يتم منحهم جنسية بلادهم أيضاً وأصبحت قضيتهم ضمن القضايا العالقة.
ويتراءى من على البعد الأثر الأمني للحرب السودانية على علاقات السودان مع دولة الجنوب التي تخشى من امتداد تأثيرات الحرب إلى أراضيها فضلاً عن اشتعال الحدود مع وجود نزاعات قبلية سابقة في الداخل.
ويتطلب ذلك التعاون الأمني والعسكري بين الدولتين لمنع المتسللين والجماعات الإرهابية والمتمردة من وسط وغرب أفريقيا طمعاً في الوصول عبر دولة الجنوب إلى السودان للمشاركة كمرتزقة في الحرب، أو استغلال الوضع لتنفيذ نشاطات إجرامية.
وهناك سابقة تاريخية، فعندما كانت الحرب الأهلية في جنوب السودان محتدمة قام جيش الرب للمقاومة الأوغندية بقيادة جوزيف كوني بتنفيذ حرب عصابات على السكان في أوغندا وجنوب السودان، ويذكر أنه كان مدعوماً من نظام البشير رداً على موقف الرئيس الأوغندي يوري موسفيني الذي كان يدعم الحركة الشعبية في الجنوب.
الوسيط الجنوبي
لعبت حكومة سلفا كير دور الوسيط في "اتفاق جوبا" لسلام السودان التي وقعتها الحكومة الانتقالية في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 2020، مع الحركات المسلحة وأبرزها الحركة الشعبية - قطاع الشمال بقيادة مالك عقار، وحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم وحركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي.
أما الحركات الرافضة للاتفاق فهي الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال، جناح عبدالعزيز الحلو، وحركة تحرير السودان جناح عبدالواحد محمد نور. وكانت بنودها تنص على معالجة قضايا معقدة مثل تقاسم السلطة والثروة والقضايا الإنسانية ومدة الفترة الانتقالية وكيفية مشاركة الحركات المسلحة فيها على كل مستويات الحكم والترتيبات الأمنية، وهذا البند الأخير هو ما استدعى البحث عن صيغة أخرى أوصلت الفرقاء السياسيين إلى "الاتفاق الإطاري" الذي بسببه اشتعلت الحرب الحالية.
وفي الخلافات السياسية في جنوب السودان تدخلت حكومة الفترة الانتقالية كوسيط في تقريب الشقة بين الفرقاء الجنوبيين، وبات السودان الضامن لاتفاق السلام هناك.
أما موقف حكومة سلفا كير من الحرب الحالية فتحاول أن تكون وسيطاً محايداً خشية اتخاذ أي موقف تكون له تبعاته، فضلاً عن أن حماية الجنوب من التأثر المباشر بالحرب يستدعي أن تقف على مسافة واحدة من طرفي النزاع، القوات المسلحة وقوات الدعم السريع.