Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سيرة جديدة تفضح جورج أورويل شرطيا قاتلا وعاشقا متهتكا

دي جي تايلور يعيد رسم صورته بأنانيته وقسوته وضعفه وندمه ويكشف أثره في جيل الأجيال المتعاقبة

الروائي البريطاني جورج أورويل المثير للجدل (أورويل فاونديشن)

ملخص

دي جي تايلور يعيد رسم صورته بأنانيته وقسوته وضعفه وندمه ويكشف أثره في جيل الأجيال المتعاقبة

أوصى جورج أورويل بعدم كتابة أي سيرة له بعد رحيله، وأذعنت أرملته سونيا براونيل لوصيته، رغم كل المحاولات لإقناعها بالعدول عن رأيها. غير أن كل هذا لم يمنع تدفق الكتابة عن حياته المثيرة للجدل، سواء بموافقة براونيل أو حتى من دونها. في عام 1972 صدر كتاب عن سنواته الأولى "أورويل المجهول" للكاتبين الأميركيين بيتر ستانسكي وويليام أبراهامز، من دون تصريح أو مساهمة من براونيل، بينما صدرت "حياة"، السيرة التي كتبها برنارد كريك، بتكليف من براونيل رسمياً. أعقب ذلك سيل من السير المتنوعة لتغطية كل وجه من وجوه أورويل المتغيرة، كمحاولات لسبر أغواره، ومنها مثلاً السيرة التي كشف فيها مايكل شيلدن عن إيمانه المهووس بفشله وعدم كفاءته، في كتابه "جورج أورويل: 10 رسائل لمزرعة الحيوانات إلى وكيله ليونارد مور"، وقد استند إلى 100 رسالة غير منشورة، كانت قد مضت سنوات عديدة، على وجودها في ركن مهمل في مكتبة جامعة إنديانا الأميركية. ومنها ما شكك في صورته كقديس بإبراز الجانب المظلم من شخصيته كما فعل جيفري مايرز في "أورويل: وعي عاصف للجيل"، على نقيض ما طرحه ريتشارد برادفورد في كتابه "أورويل: رجل العصر"، هذا في الوقت الذي انشغلت ريبيكا سولنيت في "ورود أورويل" بمدى حبه للبساتين والحدائق وما كانت تعني الزراعة له، ناهيك بالسير التي كتبت عنه بلغات مختلفة كالروسية مثلاً. ومع تراكم الأعمال عن رجل انحصرت رغبته الأخيرة في عدم "التنبيش" في حياته، طرح سؤال منطقي جداً، أما زال هناك المزيد أم أن تلاً من الكتب، بوسعه استنفاد حياة أمة بأكملها وليس شخصاً واحداً؟

النزول إلى نهر أورويل مرتين

مع صدور السيرة الأحدث "أورويل: الحياة الجديدة" في مايو (أيار) 2023 عن دار نشر بيغاسوس، يجيبنا الكاتب دي جي تايلور عن السؤال السابق بمنتهى الثقة: حقاً لا يزال هناك المزيد لا سيما مع ظهور عدد آخر من الرسائل الحميمة كتبها أورويل إلى صديقاته وزملائه القدامى، تكشف عن جوانب مهمة وشائكة من شخصيته التي تزداد تعقيداً يوماً عن يوم، وهو ما دفع كاتب سيرته القديم إلى المغامرة بالنزول إلى نهر أورويل مرتين.

كان تايلور قد أصدر في الذكرى المئوية لميلاده "أورويل: الحياة" وفاز عن هذه السيرة بجائزة "وايتبريد" عام 2003، ولم يستلزمه الأمر سوى إضافة كلمة واحدة إلى العنوان السابق وزيادة 120 صفحة عن النسخة السابقة. غير أن هذا لا يعني أن السيرة الجديدة مجرد إعادة صياغة لما سبق، سواء على مستوى السرد أو المعلومات المنتقاة بعناية، بل على العكس تماماً، يقدم تيلور لنا حياة جديدة بالفعل لأورويل بعد أن أثقلته الخبرة، كاشفاً ببساطة عن تغير علاقة كاتب السيرة الذاتية بموضوعه مع مرور الوقت. قرأ تايلور أورويل لأول مرة وهو في سن 13، وأخذ من حينها. يتابع كل ما يخص الرجل الذي أحبه بشغف واعتبره حديقته الغناء: "إنه واحتي... كاتب لا يقترب منه أي عملاق آخر في القرن الـ20"، وهو ما جعله أكثر قرباً من أورويل لدرجة مكنته من النفاذ إلى حياته الداخلية والربط بين الظروف المحيطة به وما يعتمل داخله، مما يمكن وصفه بإعادة خلق جورج أورويل من جديد، لتقديم قراءة حديثة لجيل الألفية الثالثة الذي وجد نفسه في عالم "أورويلي" بامتياز، حيث تكتسح مخاوفه الديستوبية أرض الواقع، وتدعو إلى إعادة تقييم حياة وكذلك أعمال إريك آرثر بلير، المولود في ولاية بيهار الهندية يونيو 1903، صاحب الاسم المستعار المستوحى من نهر أورويل في مدينة سوفولك، حيث نشأ في ظل أبوين تقليديين، وظروف معيشة "أعلى قليلاً من الطبقة الوسطى" لم توفر له فرصاً دراسية جيدة.

هكذا كانت الأفراح

يتألف الكتاب من ثمانية فصول، ويبدأها تيلور بهذه العبارة "هكذا كانت الأفراح"، العنوان الساخر لأورويل عن الفترة التي أمضاها في مدرسة سانت سيبريان الإعدادية في إيستبورن، وحادثة الضرب المبرح من زوجين كان يمتلكانها، جعلاه يأكل كل ما تقيأه من طبقه عنوة، بسبب التبول اللاإرادي. وهي الظروف التي شكلت حياة بطل روايته "1949" عندما كان طفلاً وأفضت إلى تكوين شخصية ونستون المعيبة، الخاضعة دائماً وأبداً للرصد. كان لقرار أورويل بالانضمام إلى الشرطة الإمبراطورية في ميانمار حين لم تسعفه الظروف للوصول إلى إكسفورد، أثر لا يمكن إنكاره في تدريبه على القسوة، واتخاذه من المظهر العسكري الصارم سمتاً له، وممارسته ضروباً من العنف مع العمال والخدم، واستخدام هرواته عند أي بادرة، وحتى القتل بدم بارد. يفسر ذلك بقوله "لمدة خمس سنوات، كنت جزءاً من نظام قمعي، وقد تركني ذلك مشوه الضمير". ولأنه أورويل الصارم المؤنب لذاته، قرر أن يستقيل من وظيفته مضحياً بمورد رزقه الوحيد، والعمل في وظائف متدنية للانضمام إلى ركب البؤساء الذين طالما سخر منهم وظلمهم، وهي نقطة قضية يغطيها تيلور بعناية في كتابه. عمل أورويل في المتاجر، والمناجم، وغسل الصحون في فندق ديو دي ريفولي، وخدم في منزل مقابل نصف كراون في اليوم. واستخدم كل ما جربه في تلك الفترة في مقالاته مثل "المداخل والمخارج في باريس ولندن"، وكتابه "الطريق إلى رصيف ويغان"، حتى وصف بأنه "ربما أفضل مؤرخ للثقافة الإنجليزية في القرن الـ20".

يسهب تيلور في تلك الفترة التي تعد من أكثر الفترات تناقضاً في حياته: "في إحدى اللحظات نجده يناقش القومية والإمبريالية على أنهما موجات مد تاريخية عظيمة، وفي اللحظة التالية يصبح شرطياً إمبراطورياً، مستلقياً على بطنه، ويطلق النار على فيل لم يكن يريد إطلاق النار عليه". وما بين الميل إلى العنف والرغبة في التماس أي قدر من الشفقة، استنفدت قواه عبر رحلة لا آدمية.

يرى تيلور أن مفتاح قراءته لأورويل هو ما حدث له في إسبانيا التي ذهب إليها طواعية للانضمام إلى الحرب الأهلية، وهناك أصيب برصاصة في حلقه، أدت، إلى جانب الخنادق الرطبة، إلى تدمير صحته الضعيفة بالفعل. يكتب كذلك بمهارة عن تعوده الوقوف متكئاً على حاجز الخندق يدخن غليونه، وهو ما جعله هدفاً لا يقاوم للقناصين، ولولا طوله البالغ ست أقدام وأربع بوصات لنفذت الرصاصة في رأسه. بعد إسبانيا، بدا أورويل هزيلاً، منهكاً، لقد دفعه ولعه بالحياة الوعرة إلى الأماكن الباردة والرطبة، سواء في الخنادق أو الأحياء الموبوءة أو الأماكن السيئة التهوية. ينصب اهتمام تيلور على حالة أورويل المرضية طوال صفحات الكتاب، وعدم التفاته إلى صحته واستنفاد ما تبقى منها، في الوصول إلى قلب الحالة الإنسانية، على رغم تحيزاته المثيرة للانتقاد، ومنها كرهه للمثلية ومعادته للسامية وأنانيته الشديدة وعنفه، وكذلك ولعه بالنساء. يصرح مابل فيرز الذي أصبح صديقاً مقرباً لأورويل: "اعتاد أن يقول الشيء الوحيد الذي كان يتمناه في هذا العالم، أن يكون جذاباً للنساء. كان يحب النساء ويعرف الكثيرات في ميانمار وفي ساوث ولندن. كان بالأحرى زير نساء، لكنه كان يخشى ألا يكون جذاباً".

امرأة واحدة لا تكفي

لم يكن أورويل بطبيعته لبقاً مع المرأة ولم يستطع الحصول على ودها إلا بصعوبة بالغة، لكن إيلين أوشونيسي قبلته على حاله وتزوجا في عام 1936. كانت إيلين امرأة ذكية ومضحية وجديرة به أو على حد قول الجميع، لم يكن هو جديراً بها. ألفت معه "مزرعة الحيوانات" وتكيفت مع حياته المتقشفة الصارمة، وحين مرض كان عليها أن تتولى جميع المهام المنزلية، إضافة إلى رعاية الماعز والدجاج التي كانت جزءاً من خطته لعيش الكفاف. كانت إيلين الجميلة ترد باسمه وتكتب كلماته على رسائل أصدقائه وتواكب عمله في الكتابة. والأغرب من ذلك كله، تدوين تفاصيل يومه في دفتر يومياته بانتظام، حتى يتماثل للشفاء، كمن يحصي خطواته، خطوة خطوة، سواء في حضوره أو غيابه. ترى! لصالح من كان أورويل يراقب نفسه؟

"نحن ضحايا أنفسنا، لا نكتشف ما آل إليه حالنا إلا في اللحظات الحرجة، بحيث لا يمكن التراجع أو إدارة عجلة الزمن للوراء". يقتبس تيلور تعليقاً مفجعاً أدلت به إيلين في رسالتها الأخيرة إلى زوجها، قبل إجراء جراحة لورم يكلف 40 جنيهاً، بينما كان بعيداً في باريس يعمل بجديته المعهودة ويلهو مع النساء. كتبت إيلين إلى زوجها الغائب دوماً: "ما يقلقني هو أنني لا أعتقد حقاً أنني أستحق المال"! إنها إيلين طالبة الدكتوراه، الباحثة الشابة الواعدة التي التقاها أورويل وهي في أوج طموحها، في حفلة في لندن، فمن الذي أوصلها إلى هذا الحد من تحقير الذات، وكيف استطاع أورويل أن يجندها لصالحه؟ لقد كان ألطف تعليق أدلى به عنها على الإطلاق هو أنها "لم تكن عصا قديمة سيئة".

من ضمن ما يورده تيلور رسائل مكتشفة جديدة كتبها أورويل وإيلين، تفضح علاقات كل منهما خارج إطار الرابطة الزوجية التي يبدو أن أياً منهما لم يقدسها، منها علاقته مع بريندا سالكيلد والروائية إنيز هولدن، وسكرتيرته، وجاسينثا، إلينور، دوروسي، سيليا، والقائمة تطول. في رسالة إلى أن بوبهام، كتب يقول "كنت أحياناً غير مخلص لإيلين، كما أنني عاملتها معاملة سيئة، وأعتقد أنها عاملتني أيضاً معاملة سيئة، في بعض الأحيان، لكنه كان زواجاً حقيقياً، بمعنى أننا مررنا بصراعات مروعة معاً، وكانت من جانبها تفهم كل شيء عن عملي".

في ظل هذا التواطؤ الضمني كانت إيلين بدورها تلهو بين الحين والآخر، لكن أورويل لم يكن يستطيع الاعتناء بنفسه في غيابها. ذات مساء، خرجت وتركت له "فطيرة الراعي" في الفرن وبعض سمك الحنكليس على الأرض للقط، في كوخهما الرطب في هيرتفوردشاير. وعندما عادت وجدت الفطيرة لم تمس، كان أورويل قد أكل بقايا الأنقليس، طعام القط، وترك له فطيرته!

 قبل الرحيل

في هذا الكوخ الرطب، تدهورت صحة أورويل وأيلين على مدار 12 عاماً، غير أن أورويل عثر فيه على السلام الذي ضاع منه، ووجد العزاء في تربية الماعز وزراعة البطاطا، وحصد التوت الأسود، والاستمتاع بكل تفاصيل الحياة البرية. هنا يلون تايلور كتابه المليء بهنات السيرة الأورويلية والإخفاق والخشونة والمرض، بشيء منعش من روح في طريقها إلى الزوال. ويورد مقاطع ساحرة عن الفترة التي قضاها أورويل، معلماً في مدرستين صغيرتين، حين كان يصطحب تلاميذه في نزهات في الطبيعة لتعبئة أوعية المربى بغاز المستنقعات، ومشاعره الفوارة هو وإلين، تجاه الطفل الذي تبنياه لعدم قدرتهما على الإنجاب، وابتسامته التي ملأت وجهه أمام الكاميرا وريتشارد الصغير في حضنه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مع اقتراب الموت، استحوذت على أورويل موجة من الجنون لإنهاء روايته الأكثر شهرة "1984". فكان يستلقي على سريره بآلة كاتبة في حضنه في كوخه، يسعل دماً ويمزق رئتيه ويدخن بشراهة، ليترك للعالم أهم رسالة تنقذ آداميتهم قبل فوات الأوان. وتحذرهم من التحول إلى أنماط وأرقام ووحدات بشرية مادية صرفة، البقاء فيها للأصلح، في ظل الأخ الكبير، وشرطة الفكر، ووزارة الحقيقة والمعاني المزدوجة، والغرفة الرقم 101، ووسائل المراقبة الشمولية في المستقبل.

عاش أورويل بعد إيلين وحيداً ومحبطاً، كان يائساً من أن تقبل امرأة أخرى أن تكون رفيقة له أو أماً لريتشارد. ولم يجد مفراً من عرض نفسه على أربع صديقات، من بينهن سيليا كيروان. وفي النهاية وافقت سونيا براونيل، وعقد القران في المستشفى ومات بعد ثلاثة أشهر في يناير (كانون الثاني) 1950، من دون أن يرى النجاح المذهل والمستمر للرواية التي حذره ناشره بتهكم، ألا يتوقع أن يجني منها الكثير، فإذا بها تصبح الأكثر مبيعاً وحضوراً واقتباساً عبر كل المراحل.  

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة