Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السيرة الغيرية: "إدوارد سعيد- أماكن الفكر"

يكشف الكتاب زوايا عديدة لحياة إدوارد سعيد وأعماله التي يجهلها أقرب المقربين له

سيرة إدوارد سعيد مبهرة سرداً وصياغة (رويترز)

اطلاعك على كتاب كثيراً ما يفتح عليك مسائل قد تكون ذات صلة بموضوع الكتاب أو غير ذلك، لكن الكتاب الجيد هو ما يثير الأسئلة وليس الإجابات، خصوصاً القطعية منها. وحتى في العلم المحض، جودة الكتاب بما يطرحه من أسئلة، ومن ثم تصورات وبحث في المفاهيم، والأجناس الإبداعية، وما في حكم ذلك. وكما الكتاب الجيد يطرح أفكاره، فإن القراءة الجيدة تذهب من هذه الأطروحات إلى استنباط أفكار أخرى، وتستقرئ المسكوت عنه في الكتاب. وثمة كتب تذهب بك بعيداً فتكون زاد المخيلة، لكن منها ما يمس قضية تشغلك ولو بشكل عابر، فالمسألة بالنسبة إليك في صميم اهتمامك، وعندئذ خذ الكتاب بقوة، فقد أمسى كتابك.

كنت أقرأ كتاباً هو سيرة غيرية، وهذا النوع من الكتابة يشغلني. والسيرة الغيرية عرفت باعتبارها الوجه الآخر للسيرة الذاتية، التي تنشغل بالذات ويكتبها المرء عن نفسه. فالسيرة الذاتية حسب فيلسوفها فيليب لوجون، ميثاق بين المرء ونفسه، أي وجوده الخاص.

كنت تناولت السيرة الغيرية وكتبت أنها مجهرية، في معرفة الذات البشرية الفاعلة، ما من خلاله، معرفة "ما حدث ما سيحدث"، فإنها إضافة مركزة تُعنى بدور الفرد، والفرد الفاعل في الجماعة، بل إنها إعادة إحياء لدوره، وبعثه في مهمة تخص المستقبل. بذا السيرة الغيرية، تسقط الضوء على ما يشبه "العقل الباطن"، ما هو مظلم في العادة. وكم يكون في ذلك تحفيز متعدد الأهداف والأغراض، لدراسة موضوعة ذات صلة بصاحب السيرة. ومن هذا فإن الذات في السيرة الغيرية تكون الموضوع، فيتاح لكاتبها ما لا يتاح في السيرة الذاتية، وللقارئ/ الدارس، والقارئ العابر.

وعلى الرغم من ضرورة السيرة الغيرية، والاحتياج الملح إليها، خصوصاً للباحثين والمؤرخين، فإنه بحسب علمي، قل أن نجد سيراً غيرية باللغة العربية. فما نقرأه مترجم، وهو أيضاً ليس بالمتوسع فيه، كما هو حاصل مع الرواية، ومنها الرواية السيروية. ولقد كانت وما زالت السيرة الغيرية تمثل نقصاً بارزاً في التأليف والكتابة العربية. وكم هو نقص فادح يكشف عنه ثراء الغرب في هذا النوع.

هذه الأفكار، وما حثني على التفكر مرة أخرى في المسألة، كتاب جدير بالقراءة، فالكاتب كما نلاحظ، بذل جهداً كبيراً لأجل الإلمام بالسيرة التي يكتب عنها، وثمة اعتناء مميز بالكتابة، فجاءت في أسلوب مترع وسلس وممتع. الكتاب: "إدوارد سعيد- أماكن الفكر" تأليف تيموثي برنن Timothy Brennan (ترجمة محمد عصفور، عالم المعرفة، مارس 2022). وعلى الغلاف كلمة للدكتور رشيد الخالدي، الأستاذ في جامعة كولومبيا: "إن هذا الكتاب يقدم صورة إدوارد سعيد بكل أبعادها، ويكشف الزوايا العديدة لحياته وأعماله، التي يجهلها أقرب المقربين له"، وإن تيموثي برنن "يعطينا فيه، صورة رثائية مرهفة، لشخصية من أبعد شخصيات القرن الماضي تأثيراً".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقد كنت طالعت سيرة إداورد سعيد الذاتية، التي كتبها ثم نشرها تحت اسم "خارج المكان" وترجمها فواز الطرابلسي، فلقيتني عند مطالعة السيرة الغيرية التي كتب تيموثي برنن، وكأنني كنت تحت هيمنة إداورد سعيد، وأنني في الصورة مغمور في محيط ذات إدوارد سعيد، ومع "إدوارد سعيد- أماكن الفكر"، تأليف تيموثي برنن قد خرجت من هذا اليم، من الصورة، لأرى ما لم أر وأعرف ما لم أعرف. وهذا إضافة إلى كم المعلومات المضافة والمسهبة. وهو ما جعلني أشعر كما لو أنني كنت أقرأ الشعر، عند قراءة "خارج المكان"، فيما أقرأ نثراً سردياً، عند قراءة "إدوارد سعيد- أماكن الفكر". وقد ذكر الناقد باتريك بارندر أن السيرة الذاتية "خارج المكان" هي أفضل سيرة قرأها في حياته.

إذاً، يبدو أن سيرة إدوارد سعيد، المبهرة سرداً وصياغة، قد تم صبغها وإيضاحها من خلال السيرة الغيرية التي كتبت عنه، وكأن سعيد لم يستطع الإلمام بذاته المحتشدة بالفكر والفعل، بالتالي فإن ما فعله تيموثي كتلميذ لإدوارد سعيد أن يلم بما لم يلم به أستاذه، وقد كان يمتلك المؤهلات لذلك، ويروم ما لم يرم به أستاذه.

هذه السيرة سفر لعوالم هذا المفكر، من ظل يدرك أهمية الدور الثقافي في النشاط العملي، ولن تضيء هذه السيرة، جوانب في شخصية إدوارد سعيد، ذكر المقربون منه أنهم لم يعرفوها قبل، بل إن بنية السيرة إضاءة لفكر إدوارد سعيد ونهجه من تلميذ مجد، فكأنما السيرة في هذا أيضاً سيرة التلميذ، ونهج الأستاذ معاً، بالتالي يتسنى لنا من خلالها، درس في العلاقة بين إدوارد سعيد وتلاميذه وبخاصة تيموثي برنن، من يفصح من خلال هذا الكتاب، عن مفكر سبر أغوار أطروحات إدوارد سعيد، ويقف وقفة الناقد لها وتعليل ذلك.

والسيرة التي يحتويها الكتاب المترجم، ما تربو على 400 صفحة، هي كما مختبر للمقارنة بين السيرة الذاتية والسيرة الغيرية، خصوصاً أنهما أثارا الصدى وحصلا على اهتمام بين، وأكثر من قراءة. وتبقى ملاحظة هامشية، في مسألة الترجمة العربية الأسلوب السلس، إذ إن محمد عصفور، أثقلها ببعض الاجتهادات غير الضرورية، ككتابة اسم إدْوَرْد هكذا، وليس كما هو معتاد: إدوارد، وما شابه ذلك، في حين أن القاعدة العربية تقول: خطأ معروف ولا صواب مهجور.

المزيد من آراء