Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما ندرك أن ذواتنا الحرة من اختراع آخرين

ما كان ثورياً في ما مضى بات من جملة المعايير المسلّم بها حتى بتنا جميعاً الآن رومنطيقيين بطريقة ما

مثلما تعاون الشاعران الإنجليزيان ووردثورث وكوليردج، عمل غوته وشيلر عن كثب، فكان كل منهما يحرر عمل الآخر (أ ف ب)

ملخص

عند التفكير في الأسئلة التي تطرحها الكاتبة أندريا وولف ربما يرجع بعضنا إلى لحظة موغلة في البعد، وذلك ما يحكيه كتابها الجديد "ثوار رائعون: الرومنطيقيون الأوائل واختراع الذات"

متى أصبحنا أنانيين مثلما نحن اليوم؟ عند أي مرحلة صرنا نرى أن لنا حق تقرير حياتنا الخاصة؟ ومتى بدأنا نفكر أن من حقنا أن نحصل على ما نريد؟ ومتى طرحنا على أنفسنا سؤال الحرية: كيف يمكن أن نكون أحراراً؟

عند التفكير في هذه الأسئلة التي تطرحها الكاتبة أندريا وولف في كتابها الجديد، فربما يرجع بعضنا إلى لحظة موغلة في البعد، بل هي ربما أسبق من الزمن نفسه، فلعل أحد هذه الأسئلة أو كلها كان يدور في رأس أبينا آدم قبل أن تمتد يده إلى ثمرة الشجرة المحرمة، فإن لم تكن تلك هي اللحظة المعنية فلعلها غير بعيدة منها كثيراً، فمثل هذه الأسئلة مما يدور حول موقع الذات من الوجود لا بد قد شغلت الإنسان في كل زمان ومكان، لكن وولف لا تطرحها لتذهب بنا إلى جنة أبوينا الأقدمين، وإنما لتصل إلى زمرة من الشبان في أواخر القرن الـ18 وبدايات القرن الـ19، ففي تلك الأعوام ظهر إلى الوجود بحسب أندريا وولف اختراع جديد اسمه الـ "أنا"، أو ذلك ما يحكيه كتابها "ثوار رائعون: الرومنطيقيون الأوائل واختراع الذات" الصادر حديثاً عن دار نشر ألفريد آيه نوبف.

ذلك الركن المجنون

في استعراضه للكتاب ]"غارديان"- 11 سبتمبر 2022[ كتب آدم سيسمان أنه "لو رجع الزمن بطالب فلسفة فحضر حفلة موسيقية في قلب ألمانيا خلال ربيع عام 1797 لما صدق عينيه في ما تريان، ففي صف واحد أمام عينيه ثمة يوهان فولفغانغ غوته أعظم كتاب عصره، ويوهان غوتليب فيخته فيلسوف زمانه الذي كانت محاضراته الحاشدة تجتذب الطلبة من مختلف أرجاء أوروبا، وألكسندر فون همبولدت الذي كان آنذاك في مستهل مسيرة مهنية من شأنها أن تغير فهم عالم الطبيعة برمته، وأوغست فيلهلم شليغل الذي كان يؤسس اسمه كاتباً وناقداً ومترجماً، ألا ينبغي لمشهد فيه كل أولئك الأعلام أن يكون حدثاً استثنائياً؟".

يجيب سيسمان بقوله إن "المشهد لم يكن استثنائياً في مدينة جينا الجامعية الواقعة في قلب ألمانيا، مدينة تتألف من 800 بيت فقط و5 آلاف نسمة، ولوهلة عابرة في ما كان القرن الـ 18 يفسح المجال للقرن الـ 19، كانت جينا بمثابة العاصمة الثقافية لأوروبا كلها، وكان ألمع عقول ألمانيا مجتمعين فيها".

"لا يحدث كثيراً أن تجتمع مواهب استثنائية كثيرة في مكان واحد لفترة من الزمن فيكون بعضهم عضداً لبعض، لكن هكذا كانت بلدة جينا الألمانية في أواخر تسعينيات القرن الـ 18 وأوائل القرن الـ 19، وذلك ما تحكيه أندريا وولف في كتاب يبعث على البهجة ويضم قصة ما تطلق عليه "الجمع الجيناوي"، وهو عبارة عن مجموعة من الكتاب والشعراء الشبان الذين اجتمعوا "في ذلك الركن الصغير المجنون من العالم"، بحسب ما وصفه غوته".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كان في القلب من ذلك الجمع إل شليغل، أي أوغست فيلهلم، وزوجته كارولين اللذين كانا يعملان معاً على ترجمة مسرحيات شكسبير إلى الشعر الألماني، وفريدريتش شقيق أوغست فيلهلم الأصغر المشاكس، وكان هو الآخر كاتباً وناقداً ولولهة وقع في غرام كارولين، والشاعر فريدريتش هاردنبرغ (أو نوفاليس) وهو أقرب إلى تجسيد حي لفرتر الشاب الذي صوره غوته في عشقه الميلودرامي لفتاة يافعة مريضة، والفيلسوف الشاب الجاد فريدرتش شيلينغ الذي رأت فلسفته أن الذات واحدة هي وكل ما هو طبيعي وحي، ورأى في الفن تعبيراً عن هذه الوحدة.

يكتب سيسمان أن "تلك المجموعة كانت ترى نفسها دونما شطط كبير أو افتقار إلى المبررات الكافية، أمهر وأطرف وأشعر ممن عداها، وكانوا في نظر أنفسهم "المختارين"، وشأن شبان آخرين من أبناء جيلهم في أوروبا كانت الثورة الفرنسية واضطراباتها مصدر إلهام لهم بتحديها لكل سلطة أو فكرة مستقرة في كل مكان،

ومن جملة الأسباب التي جعلت مدينة جينا تجتذب كل أولئك المفكرين المستقلين سبب يتمثل في دستور الجامعة غير المعتاد، إذ كان يتيح للأساتذة حرية كبيرة بالمقارنة [مع جامعات أخرى]"، فجينا بحسب ما تقول بروك آلن في استعراضها بـ "هدسن رفيو" تقع "في دوقية ساكس فايمار التي كان يحكمها الدوق المثقف والليبرالي نسبياً كارل أوغست، وكان أحد الحكام المعروفين في تلك الفترة بالاستنارة، واشتهر بلاطه بتألقه الفكري.

وكانت ألمانيا في تلك الفترة لم تزل تتألف من نحو 1500 ولاية كلها خاضعة لمستويات مختلفة من الحكم الأوتوقراطي، فللأمراء والدوقات والملوك حقوق إقطاعية على رعاياهم، كأن لا يتزوج أحدهم دون ما تصريح، ولا يقيم في مكان معين إلا من يحصل على إذن الحاكم. ومن بين مجموعة الحكام الرجعيين في الغالب كان كارل أوغست معروفاً بتسامحه".

اختراع الأنا

يقول آدم سيسمان إن يوهان غوتليب فيخته كان من أبرز من انجذبوا إلى جينا بسبب ذلك المناخ، وقد كان "هو الذي أعلن أن مصدر الواقع كله هو الـ "إيش" [أي: الأنا Ich] وهي كلمة لا مكافئ لها في اللغة الإنجليزية، ومن خلال مفهومه عن الأنا وضع فيخته الذات في موقع المركز من كل شيء، فكانت تلك فكرة جاذبة للشباب المعتدين بأنفسهم".

تكتب بروك آلن أن "الطلبة في ذلك الوقت كانوا يدفعون للأساتذة مباشرة للحظوة بميزة حضور فصولهم، وكان الطلب على فيخته دائماً متجاوزاً لحدود استيعاب الفصول، وكان الطلبة يطلقون عليه لقب بونابرت الفلسفة.

كانت الـ "إيش" أو الذات تقع في المركز من نظامه في مقابل الـ "لا إيش" أي اللا أنا، أي كل ما يقع خارج الذات، وكان فيخته في الأساس من تلامذة إيمانويل كانط ثم خرج على الإيمان بفكرته عن الشيء في ذاته، وصار فيخته يقول لطلبته إن اليقين الوحيد هو العالم كما تختبره الذات، أي الـ "إيش"، وبات التركيز الجديد منصباً على الذات وعن وعي الذات بنفسها، أو ما نسميه الآن بالوعي الذاتي، وبفيخته في الأساس تغيرت الطريقة التي نفهم بها العالم تغيراً جذرياً".

"تواءم ذلك التركيز الجديد على الأنا مع اللحظة والمزاج التاريخيين تواؤماً تاماً، وقد اجترأ فيخته فقال إن "نظامي هو أول نظام للحرية، وكما أن الأمة الفرنسية تمزق أغلال الإنسان الخارجية فتحرره منها، يمزق نظامي أغلال الإنسان بالأشياء في ذاتها فيحرره منها، أي من أغلال التأثيرات الخارجية".

 

 

تكتب بروك آلن أن الدوق كارل أوغست، شأن كثير من معاصريه، كان قد وقع وهو مراهق في غرام "آلام فيرتر" لغوته، فدعاه عندما تولى الدوقية إلى الإقامة في الولاية، ولبى الشاعر الدعوة عام 1775. أما سيسمان فيقول إن "غوته انجذب إلى جينا فقدم من موطنه القريب وهو مدينة فيمار، وكان ما جذبه فيها هو وجود شيلر".

يكتب سيسمان، مؤلف كتاب "الصداقة: ووردثورث وكوليردج" أنه "في أثناء إقامة غوته في جينا كان يلتقي هو وشيلر كل يوم، إذ كان يقيم أحدهما على بعد مسيرة دقائق قليلة من الآخر، وكانا يشكلان ثنائياً غريباً. ومثلما تعاون الشاعران الإنجليزيان ووردثورث وكوليردج، عمل غوته وشيلر عن كثب، فكان كل منهما يحرر عمل الآخر ويقترح تحسينات وتغييرات، وبعد وفاة شيلر سيضنى غوته دون ما جدوى في إكمال أعماله الناقصة".

وكان من ضمن أنشطة الكاتبين العملاقين أنهما دأبا على حضور محاضرات فيخته، "فقد سر غوته بما كان يعنيه نظام فيخته الفلسفي في شأن ضرورة الإرادة الحرة، وكان مهتماً بآثارها على الذاتية الفردية، إذ ارتبطت بالعمل الذي كان يجريه في علم البصريات ونظرية الألوان، فبدأ على سبيل المزاح يخاطب من يراسلهم بقوله (عزيزي اللاأنا)، ولوهلة لا بأس بها شاركه شيلر ذلك الاهتمام ثم فقده في النهاية وانصرف عن نتائج فيخته متخوفاً من الاستغراق في الأنا واللاأنا، فقدت بدت له أشبه بدوامة تبتلع كل شيء، ولم يستطع أن يتقبل إيمان فيخته بأنه لا وجود للعالم الخارجي من دون الـ ’إيش‘".

يكتب آدم سيسمان أن "غوته وشيلر كانا بمثابة أبوين للمجموعة الشابة من أولئك الكتاب والمفكرين الذين انجذبوا إلى جينا، وستكون رسائل شيلر بعنوان (عن التعليم الجمالي للإنسان) وثيقة مؤسسة لذلك الجيل الجديد من المفكرين الذين أطلقوا على أنفسهم اسم الرومنطيقيين".

"كان غوته رجلاً منتمياً بحق إلى عصر النهضة باهتمامه بالعلم بقدر اهتمامه بالأدب، فكان مما جذبه أيضاً إلى جينا رفقة العالم الشاب ألكسندر فون همبولدت، وكوّن الاثنان ما أطلقا عليه (أكاديميتنا الصغيرة) وأجريا التشريح والتجارب، فمنها تجارب كهربائية على الحيوانات سمياها (الغلفنية) galvanism. وقد كانت الكهرباء تبدو بالنسبة إلى الرومنطيقيين وقود الحياة، فليس مصادفة أن وحش فرانكنشتين سيرتد إلى الحياة بفعل شحنة كهربائية هائلة، كما مثلت الكهرباء استعارة طازجة تكاد تستعصي على المقاومة".

تكتب جينيفر سالاي في استعراضها للكتاب ]"نيويورك تايمز" - 14 سبتمبر (أيلول) 2022[ أن جميع أفراد الجمع الجيناوي يحظون من وولف ببورتريهات حية، لكن اثنتين من الشخصيات تبرزان بروزاً خاصاً في الكتاب. "العبقرية الجذابة ذات الكاريزما كارولين ميكايليس التي كانت تستضيف ملتقيات الجمع الجيناوي في بيتها وتزوجت أوغست فيلهلم وتعاونت معه في كتابة مقالاته أو كتبتها من الباطن أحياناً قبل أن تتركه إلى الفيلسوف فريدريتش شيلينغ، والشخصية الأخرى هي غوته الذي استبق بروايته (آلام الشاب فيرتر) بما فيها من احتفاء بالتطرفات الوجدانية، حركة الرومنطيقيين بنحو عقدين.

ولو أن غوته نفسه كان رجل الدولة الكبير في ذلك الجمع، ولم يكن رومنطيقياً للغاية ولكنه أقرب إلى الواقعية، حتى إن شيلر قال في رسالة إلى صديق له إن غوته يستمد كثيراً من عالم الحواس، في حين أن شيلر يستمد من عالم الروح".

في سرير غوته

تفككت مجموعة جينا عام 1803، وتفرق أعضاؤها في أنحاء ألمانيا وخارجها في شتات عام، وينتهي "ثوار رائعون" بفصل دراماتيكي يرصد دخول القوات الفرنسية عام 1806، وما عمدت إليه من تخريب ونهب وإحراق للمباني، استباقاً للمعركة التي أسفرت عن هزيمة منكرة للجيش البروسي.

ولكن الإمبراطور المظفر نام في ليلة النصر تلك في سرير غوته، فقد كان نابليون بالنسبة إلى مجموعة جينا بطلاً لا عدواً، وكانوا معجبين به بوصفه قوة من قوى الطبيعة، حتى إن فيخته بدأ يتكلم عن "إيش" الأمة، وهو ما لا يمكن أن يكون إلا جمعاً عجيباً بين نقيضين.

هكذا نرى أن سرد وولف في هذا الكتاب لا يغطي إلا ما يزيد قليلاً على 10 سنوات، وخلالها جمع جينا من الشعراء والمفكرين من يعرفون بـ "الرومنطيقيين الشبان"، وكانوا يرون أنفسهم "ثواراً رائعين" بحسب ما تكتب جينيفر سالاي، ويرون أنهم ذوو "أرواح حرة جليلة مصرة على مركزية الذات وذاتيتها الجليلة، متخلصة من أغلال النظام الميكانيكي الفاسد".

 

 

لكن ما يعطي لكتاب وولف ثقله وإثارته، في نظر سالاي، هو كيفية تهافت تلك المثل الجليلة أمام طغيان العناد والتنافس والاعتداد بالذات.

لعل سيسمان يفسر ذلك الذي تلمح إليه سالاي بقوله إن المروق الذي اتسم به أفراد تلك المجموعة "كان حتماً أن يؤدي إلى خصومات، كان أولها بين أل شليغل المبتدئ والشاعر والمسرحي الكبير فريدريتش شيلر، ثم بين شيلنغ وفيخته، كما أن رفض كارولين الامتثال للعرف السائد أكسبها سخطاً عاماً بخاصة بين النساء، وفي النهاية ستحصل على الطلاق من أوغست فيلهلم وتتزوج شيلينغ الذي يصغرها بـ 12 عاماً، وعلى رغم هذا يبقى الثلاثة على وفاق".

في مقدمة الكتاب تحكي أندريا وولف أنها كانت طفلة مندفعة لأبوين تقدميين، وأنها قررت أن تترك الدراسة باكراً بدلاً من أن تلتحق بالجامعة، وأن تصبح أماً عزباء في سن باكرة، وأنها تعلمت في ثنايا ذلك كله كيف توازن بين الروحانية الحرة والمسؤولية، وتنكشف أهمية هذا الجانب السيري حين يتضح التطابق بين شخصية المؤلفة وشخصية كارولين شليغل التي يظهرها الكتاب وكأنها كانت مركز الجمع الجيناوي كله، وليس أفكار فيخته أو حضور غوته وشيلر.

غير أن ثمة تطابقاً آخر بين أندريا وولف والجمع الجيناوي كله، بخاصة في ما يتعلق بحديثها عن اكتسابها فضيلة الموازنة بين الحرية والمسؤولية، فهي تشير في مقدمتها إلى قصة أفراد الجمع الجيناوي في "سَيْرهم على أطراف أصابع أقدامهم بين قوة الإرادة الحرة وخطر الانغماس في الذات، وهي قصة مهمة على المستوى الإنساني العام".

غير أن الكتاب يمضي بوولف، بحسب استعراض سالاي، إلى أن "يبين أن أولئك الرومنطيقيين ما كانوا معنيين مطلقاً بالمشي على أطراف الأصابع، إذ كانوا يؤثرون الوطء والدهس مستلهمين الثورة الفرنسية ومبجلين نابليون وما رأوه فيه من عبقرية، بينما كانت جيوشه تجتاح أوروبا غزواً ونهباً.

يكتب آدم سيسمان أن أندريا وولف تتعقب في مختتم الكتاب تأثير مفكري الجمع الجيناوي على الأجيال التالية عبر الشعراء الرومنطيقيين الإنجليز، وبخاصة كوليردج، ومن خلاله إلى الـ "ترنسندنتاليين" الأميركيين من أمثال ثورو وإيمرسن وويتمن، وصولاً إلى أفكار سيغموند فرويد وجيمس جويس، وانتهاء بالحاضر.

وتذهب الكاتبة إلى أننا "استوعبنا الـ ’إيش‘/ الأنا" إلى حد أننا لم نعد نتوقف عند إدراكها، فما كان ثورياً فيها بات الآن من جملة المعايير المسلم بها، أي أننا الآن جميعاً رومنطيقيون، وما ذلك إلا بفضل ما بدأ في بلدة صغيرة بألمانيا قبل أكثر من 200 عام.

العنوان: MAGNIFICENT REBELS The First Romantics and the Invention of the Self

تأليف: Andrea Wulf

الناشر: Alfred A. Knopf

المزيد من كتب