ملخص
نقاط القوة عند إيران تصبح جوانب ضعف في الصراع مع أفغانستان بسبب تشابه النظامين وتمسك "طالبان" بزمام ملفات إستراتيجية تكبل طهران
عندما تتباهى "طالبان" بأنها لا تخشى إيران أو تهدد بأنها ستقاتلها بحماسة أكبر من التي واجهت بها جنود البيت الأبيض لعقدين، فإن النظام في إيران يدرك أن جارته اللدودة لا تقول ذلك من باب الاستهلاك فقط.
يعود ذلك لقرب طهران من "طالبان" ومعظم المكونات الأفغانية خلال سنوات الصراع مع الأميركيين وقبلها، إذ كان الإيرانيون أحد مصادر الأسلحة الرئيسة التي عرف الحرس الثوري عن قرب كيف وظفها رجال الملا عمر في الإيقاع بخصومهم، من أي طيف كانوا بلا رحمة، إيرانيون كانوا أو أفغاناً أو أميركيين.
وتوثق "الغارديان" البريطانية في تقرير لها قبل 12 عاماً صنوف الدعم التي قدمها الحرس الثوري إلى حركة "طالبان"، بما في ذلك التدريب العسكري، في وقت كان التركيز منصرفاً عربياً إلى الدعم المقدم من جانبه لتنظيم "القاعدة" الذي لا تزال إيران تحتضن عناصر قيادية فيه، وأعلن البيت الأبيض مقتل زعيمها أيمن الظواهري داخل كابول في الـ 31 من يوليو (تموز) 2022.
المصالح والضغائن
وتشير الصحيفة إلى أن القوات الخاصة البريطانية في أفغانستان اكتشفت في مارس (آذار) 2011 أن إيران كانت تقدم أسلحة إلى حركة "طالبان"، بما في ذلك قذائف من عيار 122 مليمتراً، إضافة إلى التدريب والتمويل. كما قدم الحرس الثوري "تمويلاً كبيراً وصل في بعض الفترات إلى 190 مليون دولار أميركي سنوياً، وسمح للحركة باستخدام قاعدتين للتدريب في مدينتي زاهيدان وسيستان ليمكنها من تجنيد السنّة في إيران"، وفق مجلة "ذي مدلست جورنال".
ويرى الباحث الأوزبكي أكرم عمروف، الذي تطرق في بحث له إلى العلاقة بين النظامين الراديكاليين إيران و"طالبان"، أن "المستوى المتقدم لشراكة طهران مع ’طالبان‘ يدل على استعداد طهران لوضع أي ضغينة تاريخية جانباً من أجل مواجهة الغرب، بخاصة الولايات المتحدة، وقد أقام المسؤولون الإيرانيون علاقات مع كثير من قادة ’طالبان‘ ذوي النفوذ، بمن فيهم أولئك الذين يتربعون على قمة الحركة، من أجل استنزاف القوات الغربية عسكرياً في أفغانستان، ومنع السيطرة السياسية الضمنية على أفغانستان، بما في ذلك الحدود مع إيران، من قبل الأميركيين"، ولكن بعد الانسحاب الأميركي قد تشهد فرص التفاهم بين الطرفين تراجعاً يوازي تضاؤل حدة مخاوفهما.
وهكذا فإن مقابلة طهران عناد كابول بالصبر مرده في جزء كبير منه معرفتها بطبيعة الأفغان الذين يتقاسمون معهم العناد نفسه، ولا يتورعون في تعبئة "المجاهدين" ضد المجاميع التي ينعتونها بأبشع الألقاب المذهبية والقومية والسياسية، مهما كان الاختلال في موازين القوى بين الطرفين، ولذلك لا يخفي الإيرانيون قناعتهم بأن أي حرب تنشأ بين الطرفين "خسارة إستراتيجية" كبيرة لكليهما، مثلما أكد بصراحة مساعد وزير الخارجية الإيراني سيد موسوي وقت اندلاع الأزمة الحدودية بين الجانبين أواخر مايو (أيار) الماضي.
بيد أن الخسارة الأكبر ستكون لإيران، بوصف الأفغان ليس لديهم كثيراً مما يخسرون، كما أن قوى عدة لن تتوانى في دعمهم بما يمكنهم من المواجهة على نحو مما فعلت طهران نفسها، ليس محبة في "طالبان" ولكن إشغالاً للأميركيين المزعجين على حدودها، ولهذا اتهم قائد القوات الجوية في الحرس الثوري سردار أمير زاده أعداء إيران بالرغبة في تحويل التوتر على الحدود إلى "قضية كبيرة وصراع وحرب وهذا لن يحدث، إذ يجب ألا نؤجج هذه القضايا"، فيما كانت "طالبان" أقل اكتراثاً عندما اكتفى أحد المتحدثين فيها وهو عبدالنفيع تاكور بالقول إن "الإمارات الإسلامية لا تريد الحرب مع جيرانها".
هاجس التاريخ في مزار شريف
ومن اللافت أن إيران التي عرفت بمهارتها في إدارة الحروب بالوكالة وزرع الرعب في بلدان كثيرة، تجد نفسها ضعيفة أمام بلد لا يزال في طور التشكل وهو "أفغانستان"، فأساليب الدولة المارقة التي توظفها طهران يمكن أن تجدي في أي مكان إلا في أفغانستان التي لا يعترف بها المجتمع الدولي حتى الآن، وتبادله التجاهل نفسه في كثير من تصريحات زعمائها.
أما إن قررت طهران أن تستخدم الأقلية الشيعية في أفغانستان وأعداء "طالبان" من النظام السابق في كابول وبقايا جنود الشمال، فإن السيناريو جربه الإيرانيون من قبل، وهو سحق "طالبان" أولئك بتحويل ميادين المعارك إلى ساحات إعدام لهم، كما فعلت بالهزارة في أغسطس (آب) 1998 وبالدبلوماسيين الإيرانيين في مزار شريف أثناء حرب السيطرة على المدينة خلال حكمها الأول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحين يقرر الحرس الثوري الأخذ بنصيحة أحد المنظرين بدعم نحو 100 ألف من جنود النظام السابق الموجودين في إيران بالعتاد اللازم لإشعال حرب مضادة في أفغانستان، فإن "طالبان" عرفت كيف تواجه أولئك، وهي لم تستعد زمام الحكم في البلاد، فكيف بها الآن وهي تفرض هيمنتها حتى على مناطق لم تكن من قبل تحظى فيها بنفوذ في نواحي "بنجشير" على حدودها الشمالية.
وعندما يحاول الإيرانيون تجربة كفاءة طيرانهم المسير ذائع الصيت في جبال أفغانستان ضد مقاتلي "طالبان"، فإنهم على الأرجح سيتمكنون من تسجيل خسائر فادحة ضد الأفغان في المدن والقرى، إلا أن المقاتلين محترفي حرب العصابات سيكونون في مأمن منها، وإن قتل آلاف منهم فإنهم لا يكترثون وسيبقون على الصلابة نفسها، كما قدر الأميركيون أنه أحد عوامل يأسهم من أفغانستان، وهي صلابة اتسم بها الإيرانيون كذلك، فعرفوا أثمانها في حربهم مع العراق قبل أن يتجرع المرشد في ذلك الحين الخميني سم توقيع سلام هو بالنسبة إلى ثوري مثله أشبه باستسلام، لم يزل الانتقام منه حديث طبقة من الساسة الإيرانيين.
الاستثمار في الأزمة
ومع أجواء التهدئة التي طبعت المشهد الإقليمي إلا أن أعداء إيران في ازدياد، خصوصاً بعد انحيازها إلى روسيا في الحرب الأوكرانية، مما يجعل مساندة أي مجهود عسكري ضدها أمراً محتملاً، خصوصاً إذا صحت التقديرات بأن دولاً عدة مثل تركيا وباكستان وإسرائيل وبعض الجوار الأفغاني لا تزال ترى في إيران تهديداً إستراتيجياً ما لم تخلع عباءة الثورة وتصبح دولة طبيعية.
وترصد صحيفة "التايمز" البريطانية أن إسرائيل ماضية في محاصرة إيران من كل أطرافها، لا سيما على حدودها الممتدة على تخوم آسيا الوسطى حيث أذربيجان وتركمانستان بخاصة، التي رفعت تل أبيب مستوى العلاقة معها أخيراً من أجل إزعاج طهران التي تربطها بجارتها حدود شاسعة تمتد إلى 1200 كيلومتر.
وبالنسبة إلى موضوع اللاجئين، الورقة الأكثر إحراجاً لـ "طالبان" نظير وضع الداخل المتردي، فإن التقارير الصحافية تشير إلى الدفع بأعداد منهم نحو الحدود الأفغانية بعد المواجهات التي جرت بين الجارتين الشهر الماضي، لكن ذلك قد لا يحدث فرقاً كبيراً مع الحركة في كابول بقدر ما يزيد متاعب اللاجئين الضحايا، ويؤجج نقمة الداخل الأفغاني ضد الإيرانيين، ويقرب البلدين أكثر من مواجهة مهما تأجلت فإنها قادمة لا محالة، على رغم توازن الرعب بين النظامين المتطرفين لاعتبارات مؤسفة بين دولتين جارتين مسلمتين، يعيش شعباها ظروفاً مأسوية وإن بشكل متفاوت.
ورقة المياه
ولا يختلف البعد البيئي عن السياسي والأيديولوجي الذي يميل في الصراع لمصلحة أفغانستان، ففي هذا المنحى أيضاً تقف طهران مكتوفة اليد أمام أي تصرف تقوم به كابول نحو بناء السدود أو إعاقة تدفق نهر هلمند إلى أراضيها، إذ ظل توزيع مياهه إشكالاً لأكثر من 100 عام، فكل امتداد النهر الكبير يمر عبر أراض أفغانية، ولا يمنع الأخيرة من حبس مياهه بعضها أو كلها سوى غياب قدرات لوجستية أو مصالح مع الجارة الإيرانية، تجارية أو سياسية تجب مراعاتها.
أما الاتفاق المنظم لتقاسم مياه النهر، ففضلاً عن التشكيك في شرعيته بوصفه ولد ميتاً بالانقلاب على موقّعه وهو رئيس الوزراء الأفغاني الأسبق موسى شفيق عام 1973، فإنه لا يعطي الإيرانيين سوى حصة ضئيلة أقل من 10 في المئة من كمية مياه النهر المتدفق.
ويرجح في هذا الصدد الموقع المتخصص في المجاميع الأصولية "عين أوروبية على التطرف"، أن الموارد المائية الإيرانية والمصالح الأخرى في أفغانستان "تملي على إيران الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع الجماعة التي من المرجح أن تكون القوة المهيمنة أكثر خلال المرحلة المقبلة"، إلا أنه حذر من محددات عدة محتملة لما سماه الشراكة بين إيران و"طالبان"، وذكر من بينها أن "إيران بعيدة كل البعد من السيطرة على "طالبان" فمعظم قادتها لا يزالون مدينين لباكستان، ولدى إسلام أباد كل الحوافز لمحاولة سحب قادة "طالبان" بعيداً من فلك إيران".
ضعف "طالبان" نقاط قوة أمام إيران
ويعتبر من جوانب تكدر صفو التفاهم بين الطرفين أن صفقة "طالبان" مع واشنطن زادت غضب طهران التي ليس لديها مصلحة في نجاحها، وهو ما لا تخفيه إيران التي انتقدت مرات عدة هيمنة "طالبان" على المشهد وعدم توسيعها دائرة تمثيل حكومتها لتشمل أقليات البلاد كافة، وهي بذلك تعني الشيعة بخاصة.
ولكل ذلك يعتقد أن إيران ستظل تتعاطى مع خلافها ضد "طالبان" في أي من الملفات بحذر شديد أو استجابة محدودة لا تتجاوز رد الفعل الضروري، لأنها تعتبر الصراع معها عبثياً من دون طائل، وربما "فخاً كبيراً" قد لا تخرج منه إلا بجرح بالغ.
ويختلف النظامان في كل شيء ويتفقان أيضاً، فحين تقف "طالبان" على أقصى يمين الراديكالية السنيّة يتربع النظام الإيراني على قمة التطرف المذهبي الشيعي بانتهاج أيديولوجية "ولاية الفقيه"، لكنهما يتفقان على تهميش المرأة وقمع الحريات وهيمنة رجال الدين على الحكم، ناهيك عن النظر إلى الغرب بارتياب، كما يتسم النظامان بقدر لافت من البراغماتية التي تحير المراقبين أحياناً.
وكلا الجانبين تربطه علاقة وطيدة بتنظيم "القاعدة"، بينما يعلنان محاربة تنظيم "داعش"، وفي حين تعهدت "طالبان" في عهدها الجديد بأنها لن تسمح لأي فصيل بالانطلاق منها لمحاربة دول أخرى على غرار عمليات القاعدة الإرهابية قبل وبعد الـ 11 من سبتمبر (أيلول)، لا تزال إيران تدعم ميليشيات متطرفة في مناطق نفوذها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ولا يعتقد كثيرون أنها ستتخلى عنها بالكلية على رغم اتفاقها مع السعودية في بكين، القاضي بالتهدئة في كل ملفات الإقليم.
وقد يكون هذا ما دفع "رصانة" للدراسات الإيرانية إلى القطع بأن "المواجهة العسكرية بين إيران وحركة "طالبان" بمختلف خياراتها تحمل مخاطر كبيرة جداً على النظام الإيراني، وكل نقاط ضعف "طالبان" السياسية والعسكرية في المنظومة الدولية هي من زاوية ثانية نقاطُ قوة في حال دخولها في حرب مع إيران".