Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أن نرى حادثة الحدود بين مصر وإسرائيل في "مرآة محدبة"

اعتبرها أغلب المصريين من رواد مواقع التواصل "عملاً بطولياً" وإسرائيليون دليلاً على "الإرهاب المتأسلم"

قالت إسرائيل إنها ستحقق في مقتل ثلاثة جنود بالرصاص على حدودها مع مصر (أ ف ب)

ملخص

يظل العزاء الحقيقة الوحيدة التي اجتمع كل المصريين على المشاركة فيها إن لم يكن حضوراً فبطلب الرحمة والمغفرة بعيداً من حقيقة ما جرى عند الحدود

"جندي مصري" و"جثمان الجندي" الأكثر بحثاً، و"الحادثة الحدودية" الأعلى متابعة، وحي "عين شمس" الأكثر ظهوراً في المواقع، و"مو صلاح 2 فخر العرب" الأكثر تداولاً. وما جرى على الحدود بين مصر وإسرائيل السبت الماضي مثار شد وجذب، ورأي ورأي آخر، وتهليل ومطالبة بالتعقل على منصات الـ"سوشيال ميديا" مصرياً وعربياً.

هذه الأجواء الصاخبة عنكبوتياً تقف على طرف نقيض من الأجواء الرصينة الهادئة على أثير الإعلام التقليدي، إذ لا مجال لشطط الآراء ولا حيز لمغالاة الاتفاق والاختلاف والخلاف والصراخ، ناهيك بانعدام مساحة الأخذ بالقيل والقال في حادثة أقل ما يمكن أن توصف به "بالغة الحساسية".

حساسية الحادثة

حساسية الحادثة التي وقعت على الحدود بين مصر وإسرائيل جعلت المعلومات الرسمية المتاحة من كلا الطرفين قليلة، خصوصاً الجانب المصري، لحين التحقق مما جرى. ولأن عصر الـ"سوشيال ميديا" لا يعترف بالتحقق، أو يقر بقواعد انتظار ما ستسفر عنه التحقيقات، أو ينجم عنه من نتائج، وإذ إن الحادثة فيها من عوامل الإغراء الوطني والغموض السياسي وتشويش القيل والقال فإن المنصات والصفحات العنكبوتية تتفجر آراء وردود فعل وقصصاً متناقلة وأخرى يجري تداولها باعتبارها "حقيقة ما جرى"، لكنها في حقيقة الأمر "حقيقة ما يود البعض أن يكون قد جرى".

إنها طبيعة الـ"سوشيال ميديا" التي تزدهر وتنتعش وتثمر ثماراً عبارة عن مزيد من "حقيقة ما جرى" وهلم جرا، لكن الجاري حالياً بين جموع من المصريين والعرب جدير بالتأمل. التأمل في القصص الشعبية الأكثر تداولاً وتناولاً التي لا تدور على مقربة من البيانات الرسمية ومطاردة الجندي المصري من قوات الأمن المركزي مهرب مخدرات، بل في فلك الجندي البطل الذي اخترق حدود "العدو" وصفوفه، لا يعكس إلا قدراً غير قليل من التعطش من قبل البعض لقصص البطولة، لا سيما في ما يتعلق بإسرائيل.

التلميح سيد الموقف

طغت على التدوينات والتغريدات الكتابات ذات الطابع التلميحي التلويحي، حيث الغمز يفوق المباشرة، والإسقاط يتحدى الإيضاح. تتواتر التغريدات والتدوينات التي تحيي "الجندي البطل" أو "الجندي الشهيد" أو "ابننا الغالي الرافع رؤوسنا" وغيرها من التسميات التي جمعت فريقاً كبيراً من ألتراس "الجندي".

تواتر موجات التحية والإعجاب والتبجيل للجندي المصري محمد صلاح الذي تسلمت مصر جثمانه قبل قليل أعاد إلى الأذهان ردود الفعل الشعبية التي رآها البعض وطنية هادرة معبرة عن مشاعر العروبة المتفجرة والإيمان بالقضية الفلسطينية المزمنة، واعتبرها آخرون في حينها ضارة متسرعة ولا تعكس إلا قصر نظر وعجزاً عن تقييم ما سيسفر عنه الحدث.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

استحضرت القصص المتداولة عنكبوتياً، وكذلك على أثير الإعلام الإسرائيلي التي تعتبر الجندي "بطلاً" (وفي الأقوال الإسرائيلية إرهابياً) خطط ودبر ونفذ، قصة الشاب المصري أحمد الشحات الذي تسلق 22 طابقاً عبر شرفات العمارة من الخارج ليصل إلى مقر السفارة الإسرائيلية في حي الجيزة.

ففي منتصف أغسطس (آب) عام 2011، عام هبوب ما يسمى "رياح الربيع العربي" على مصر، وفي خضم إحدى حلقات الاحتجاج الشعبي في الشوارع، فوجئ المتظاهرون أمام مقر السفارة الإسرائيلية السابق القريب من حدائق حيوان الجيزة بالشاب وقد تسلق العمارة السكنية من الخارج، وما إن وصل إلى الطابق الأخير، مقر السفارة، حتى نزع العلم الإسرائيلي ومزقه، وألقى ببقاياه على المتظاهرين، وكان جزء كبير منهم من شباب جماعة الإخوان المسلمين الذين انخرطوا في صيحات تهليل وتكبير عارمة ليلتقطوا البقايا ويضرموا فيها النيران.

نيران الأثير

لكن النيران المضطرمة في أرجاء الأثير حالياً تختلف بعض الشيء. فالجميع يعلم حساسية الموقف، والغالبية على يقين بأن العقل والمنطق يحتمان "فرملة" (التحكم) مشاعر الغبطة لدى السعداء، وترشيد التدوينات والتغريدات إلى أن يتضح مزيد من المعلومات، لكن هذا لا يمنع أبداً من استعراض بعض المصريين مهاراتهم المعروفة في التلميح من دون توضيح، وتوصيل المراد قوله من دون التفوه بكلمة لا ينبغي قولها.

لكن ما لا ينبغي قوله أو توضيحه على منصات الإعلام التقليدي الخاضع للقواعد والمعايير يجد أرضاً خصبة وفضاءً بالغ الثراء عنكبوتياً. عنكبوتياً، السماء هي الحدود وما يدور على الأثير يصعب أحياناً التحقق منه من ألفه إلى يائه. فمن ألف هوية المستخدم إلى ياء أغراضه وأهدافه مروراً بمعلوماته الشخصية والعملية، من يكون؟ ولصالح من يعمل؟ وهل يكتب آراء شخصية أم معلومات محققة أم أكاذيب وإشاعات وقصصاً معاداً تدويرها يصعب وأحياناً يستحيل معرفة الحقيقة من الكذب من نصف الحقيقة.

مهمة الإثارة

والحقيقة هي أن شخصيات عديدة باتت مشهورة عنكبوتياً تحولت مهمتها إلى الإبقاء على الإثارة والمحافظة على أجواء القيل والقال والتأكد من إشعال الأثير كلما خفت أو هدأ، فما بالك لو كان الأثير أصلاً مشتعلاً.

أشعلت تغريدة كتبها إيدي كوهين، الذي يعرف نفسه بأنه صحافي إسرائيلي من يهود لبنان وباحث أكاديمي "تويتر" وانتقلت منه إلى غيره من منصات الـ"سوشيال ميديا" على وقع "تهليل" المصريين لما جرى على الحدود.

 

 

تقول التغريدة "لنتخيل فقط جندي إسرائيلي دخل الحدود المصرية وقتل ثلاثة جنود مصريين. تعليقاتكم ستكون: أين احترام الاتفاقات يا يهود؟ حسبي الله في اليهود خونة العهود، لكن طالما المنفذ مصري مسلم، فالكل يصفق له لأن عادي تقتل اليهودي حتى لو بينك وبينه عهد. هل هذا هو الإسلام؟".

كثيرون من المصريين والعرب تطوعوا بالرد، لكن أبرز الردود جاءت من علاء مبارك، نجل الرئيس المصري الأسبق الراحل محمد حسني مبارك. جاء رد مبارك شعبوياً قومياً عروبياً، وهو ما جعله يحصد آلاف القراءات والمشاركات والإعجابات فاقت التغريدة الأصلية بمراحل، لدرجة أن البعض ألمح إلى احتمال رغبة مبارك الابن في البقاء في صدارة الأضواء ربما لغرض سياسي أو عرض انتخابي.

كتب مبارك "طيب ما تيجي (تعالى) نتخيل فقط لما إسرائيل تدخل وتحتل الأراضي الفلسطينية بالقوة، تقوم إسرائيل بإنشاء وضم مستوطنات على أراضي فلسطينية. وتعالى نتخيل غالبية الدول الأعضاء بالأمم المتحدة تعترف وتقول إن هذه المستوطنات غير شرعية وتعد انتهاكاً للقانون الدولي! وتعالى نتخيل الأمم المتحدة تصدر قرارات عديدة لصالح فلسطين لم تحترمها إسرائيل! وعلشان مانطولش (حتى لا نطيل) عليك، تعالى نتخيل عدد الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل! أخيراً، خذ تعالى هنا بقى، وخلينا نتخيل ماذا يكون تعليقكم على هذه الجرائم؟!".

الجرائم والحدود

"الجرائم" و"الحدود" و"الجندي" و"الجيش" و"مصر" و"إسرائيل" ومعها البيانات والردود الرسمية على البيانات الرسمية مستمرة في تفجير أثير الـ"سوشيال ميديا" بشكل غطى على كل ما عداها من أحداث وحوادث، بدءاً بحرب روسيا في أوكرانيا وكارثة السودان، ومروراً بغلاء الأسعار وتوقعات المزيد منها، وانتهاء بمباراة الأهلي والوداد المغربي التي تعد حدثاً بالغ الأهمية في مصر.

هذا التفجير العنكبوتي ليس أحادي التوجه. صحيح أن أصوات المبتهجين ممن اختاروا أن يتعاملوا مع الحادثة باعتبارها "عملاً بطولياً" هي الأعلى، لكن آخرين يرون في الحادثة قدراً لا يستهان به من السطحية أو الاندفاع غير المحسوب أو الوقوع ضحية غسل دماغ ما أو كل ما سبق، هذا في حال كان عملاً "بطولياً" بالفعل.

نصيب عادل من الصخب

أصحاب هذا التوجه ينالون نصيبهم من الصخب الزاعق أيضاً، لكنه صخب يتهمهم إما بالانبطاح أو عدم الوطنية أو "بيع القضية" أو كل ما سبق. ولأنه في لحظات الأدرينالين الجماعي وحماس المجموعات يسهل نشر وتداول الاتهامات سابقة التجهيز فإن أصحاب الرأي الأخير يلتزمون قدراً أوفر من الصمت انتظاراً لخفوت وهج اللحظة ليتسنى شرح المقصود.

والمقصود بحسب ما كتبه أحدهم هو أن "غاية المنى هو التخلص من إسرائيل، لكن الأمور لا تدرك بالأمنيات، كما أن الدول لا تمحى بعملية قتل هنا أو هناك. مقاومة زمان راحت مع أيام زمان. يتم قتل فرد من المحتل، فيتحجج المحتل بأنه في خطر عظيم، ولا بد أن يؤمن نفسه. قد يؤمن نفسه باشتباكات صغيرة بغرض (التأمين) يقتل فيها عشرات، وقد يجدها فرصة للتنصل من اتفاقات أو معاهدات حتى لو كنت تعارضها أو تود لو لم تكن قد أبرمت. وقد يعتبرها فرصة سانحة ليشن حرباً. فهل هذا ما تريده الآن؟".

جدل مشوب بالابتهاج

وبينما يستمر الجدل الغالب عليه الابتهاج والفرح على أثير الـ"سوشيال ميديا" فإن حادثة كتلك تعد فرصة ذهبية وأرضاً خصبة لمنصات "إعلامية" تجاهد من أجل البقاء. أغلب القنوات التلفزيونية والمواقع الخبرية وصفحات التواصل الاجتماعي المرتبطة بها والتابعة لجماعة "الإخوان المسلمين" ومعها أتباعها والمتعاطفون يرون في الحادثة فرصة ذهبية لإحياء نشاطهم الذي يشهد خمولاً وفتوراً منذ أشهر.

تنقل هذه المنصات الروايات غير المؤكدة والقصص المتداولة المندرجة تحت بند "بيقولوا" أو "يقال" باعتبارها الحقيقة التي لا جدال فيها. وعلى رغم اختلاف الروايات والتفسيرات التي يعتنقها كل من هذه المنصات التي تبث من خارج مصر، فإن جميعها يستخدم الروايات المختلفة لانتقاد ومعارضة النظام المصري.

أنا وأخي على ابن عمي

الملاحظ أن جموع المصريين، حتى أولئك الغاضبين من الأوضاع الاقتصادية الصعبة الحالية أو المتشككين في البيانات الرسمية التي يجري بثها، يأخذون على عاتقهم الرد على ما يرد في قنوات الجماعة ومنصاتها رافعين راية "أنا وأخي على ابن عمي الإخواني" كما ذيل أحدهم تغريدته الساخرة من تفسير وتنديد للتعامل المصري مع الحادثة في مقطع متداول من إحدى قنوات الجماعة.

من جهة أخرى، تشهد منصات الـ"سوشيال ميديا" في خضم فورة ردود الفعل الصاخبة على حادثة الحدود نوعاً من المصالحة أو التقارب الذي ساده بعض الجفاء خلال فترات سابقة بين مصريين وفلسطينيين. تغريدات منسوبة إلى مستخدمين فلسطينيين تطالب كل فلسطيني بأن "يعزم" أي مصري يقابله على كنافة، في إشارة إلى "امتنان" لما جرى، يجري تشاركها بشكل كبير.

 

 

لكن تظل الأجواء السائدة على منصات الـ"سوشيال ميديا" حالياً ردود فعل شعبية تعتمد على قصص يجري تداولها عبر المنصات الافتراضية، وتكهنات بعضها يحتمل الصواب والبعض الآخر يحتمل الخطأ، تظل حكراً على أثير العنكبوت.

في الشارع الوضع يختلف بعض الشيء. بين الناس من هو مغموس تماماً في تفاصيل الحياة اليومية بعنائها وثقلها الاقتصادي الحالي، وبينهم من هو مواليد الثمانينيات أو التسعينيات أو الألفينات، أي إن أكبرهم خرج إلى الدنيا بعد آخر حرب خاضتها مصر ضد إسرائيل بعقدين كاملين.

صحيح أن الجميع يعرف أن إسرائيل "عدو"، وأنها تقع عند الحدود الشمالية الشرقية لمصر، لكن ماهية الشعور بالعداء تجاهها تختلف في حدتها ومرارتها عن أجيال عاشت وعايشت أن يكون في بيتك شهيد راح في حرب ضد إسرائيل، لا سيما إن كانت الحرب هي نكسة يونيو (حزيران) 1967 التي تركت مرارة لا تفتر في قلوب وعقول ملايين المصريين التي تصادف ذكراها الـ56 هذه الأيام.

من إسرائيل إلى عين شمس

ومن إسرائيل إلى حي عين شمس الشعبي (شرق القاهرة) أحد أكثر أحياء القاهرة اكتظاظاً بالسكان، الذي قفز إلى قائمة "الترند" في محاولة البعض، بحسن نية أو بتخطيط لغرض ما، مناشدة الناس المشاركة في عزاء "جندي مصر" حيث تقطن أسرته.

يظل العزاء الحقيقة الوحيدة التي اجتمع كل المصريين على المشاركة فيها، إن لم يكن حضوراً في "عين شمس"، فبطلب الرحمة والمغفرة بعيداً من حقيقة ما جرى عند الحدود. ويكفي وضع كلمات "جندي" و"سيناء" و"إسرائيل" و"مات" في جملة مفيدة لتجد تلاحماً مصرياً عفوياً لا يخلو من اختلافات وخلافات داخلية تبتعد عن الصدارة وقت العزاء.

إنها الطبيعة المصرية الشعبية التي تقف على الطرف الآخر من طبيعة الأثير، إذ تتشابك الأصوات وتتداخل القصص وتتضاءل مساحات الحقيقة، وتمزج بين المعلومة والخيال والمأمول والمصنوع لتخلق واقعاً هو بالفعل افتراضي.

أما ما هو غير افتراضي فهو هذا الهجوم الكاسح من مصريين عاديين من سكان منصات التواصل الاجتماعي، اجتهدوا وبحثوا ونقبوا إلى أن وصلوا إلى صفحة الجندي محمد صلاح، فلم يتركوا تدوينة أو صورة له إلا وطلبوا له الرحمة والمغفرة ورسموا له قلوباً كثيرة بعضها حمراء وبعضها بيضاء.

المزيد من تحقيقات ومطولات