ملخص
أعلنت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين وقوف بلادها في صفوف المدنيين بمواجهة من يرتكبون أعمال العنف ضد الشعب السوداني
تختلف العقوبات الأميركية التي فرضت بموجب أمر تنفيذي وقعه الرئيس الأميركي جو بايدن في مايو (أيار) على أربع شركات، اثنتان منها تابعتان للجيش السوداني وأخريان لقوات الدعم السريع، بأنها تقع على كيانين عسكريين في السودان بدلاً من الدولة ذاتها، مثلما حدث في السابق، لذلك تتضارب التوقعات عن مدى فعاليتها في هذه الحالة.
وأعلنت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين وقوف بلادها في صفوف المدنيين بمواجهة من يرتكبون أعمال العنف ضد الشعب السوداني "نحن نقطع تدفقات مالية رئيسة عن كل من قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية من خلال العقوبات، مما يحرمها من الموارد التي تحتاج إليها لسداد مدفوعات الجنود وإعادة التسلح وإعادة الإمداد وشن الحرب في السودان".
ووصف مكتب مراقبة الأصول الأجنبية "أوفاك" التابع لوزارة الخزانة الأميركية "منظومة الصناعات الدفاعية" باعتبارها "أكبر شركة دفاعية في السودان وتدر ما يقدر بملياري دولار من الإيرادات من خلال مئات الشركات التابعة عبر مختلف قطاعات الاقتصاد السوداني"، و"شركة ماستر تكنولوجي السودان" "جياد" وهي "شركة أسلحة ومساهمة في شركات عدة تابعة لمنظومة الصناعات الدفاعية".
كما وصف الكيانين المرتبطين بقوات الدعم السريع "شركة الجنيد للأنشطة المتعددة محدودة المسؤولية" بأنها "نشطة في صناعة مناجم الذهب وتصديره إذ أصبح مصدراً حيوياً للإيرادات لعائلة دقلو وقوات الدعم السريع منذ مصادرة قائد الدعم محمد حمدان دقلو (حميدتي) منجم الذهب في جبل عامر عام 2017"، أما "شركة تراديف للتجارة العامة المحدودة المسؤولية"، فقد تم تعريفها بأنها "شركة توريد سبق لها أن قامت بشراء سيارات لقوات الدعم السريع في الماضي، وقد يكون قد تم تعديل بعض من هذه السيارات وتزويدها برشاشات تستخدمها قوات الدعم السريع في خلال دورياتها في شوارع الخرطوم وغيرها من مناطق السودان".
وأكد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن "فرض قيود على تأشيرات لشخصيات منها مسؤولون في الجيش السوداني والدعم السريع وقادة من نظام عمر البشير"، وبينما يحاول البعض التخفيف من وقع فرض هذه العقوبات بأنها غير اقتصادية، وليست عامة على الدولة السودانية وإنما تجاه طرفي النزاع، يرى آخرون أنها تسير في اتجاه يمكن أن يؤدي إلى مزيد من العنف والانتهاكات، وزيادة تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي باعتبار أن ليس لدى الطرفين ما يخسرانه بعد الآن.
تسلسل العقوبات
وانقسمت العقوبات الأميركية المفروضة على السودان في ظل النظام السابق كإحدى أطول فترات العقوبات الدولية إلى نوعين، الأول، صادر بقرارات رئاسية تنفيذية، والثاني، بموجب تشريعات سنها الكونغرس، وعلى رغم تعدد أسبابها فإن غرضها الأخير جاء بعد الإجراءات التي فرضها الفريق عبدالفتاح البرهان عام 2021، من أجل عملية التحول الديمقراطي.
وفي 12 أغسطس (آب) 1993 أدرجت وزارة الخارجية الأميركية السودان ضمن قائمتها للدول الراعية للإرهاب، بسبب إيواء زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن في الفترة من 1992 إلى 1996، إضافة إلى ما ظلت تتناوله الصحافة الغربية بوصف الحرب الأهلية في جنوب السودان بأنها حرب دينية شنها الشمال العربي المسلم على الجنوب الأفريقي المسيحي.
وبعد أن أوقفت الولايات المتحدة عمل سفارتها في الخرطوم عام 1996، أصدر في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) 1997 الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون قراراً تنفيذياً بفرض عقوبات مالية وتجارية على السودان، تم بموجبها تجميد الأصول المالية السودانية، ومنع تصدير التكنولوجيا الأميركية له، وكانت تلك بداية العقوبات الاقتصادية والتجارية التي فرضتها الإدارات الأميركية المتعاقبة على السودان، مما ألحق خسائر فادحة بالاقتصاد السوداني وقطاعي النمو الزراعي والصناعي وتعطيل الاستثمار، وجاء في القرار أن "السودان يمثل مصدر تهديد لأمن الولايات المتحدة القومي وسياستها الخارجية".
ولم يمر سوى عام واحد حتى كانت الجماعة الإرهابية المنتمية إلى تنظيم "القاعدة" تخطط لهجوم دام في دار السلام بتنزانيا ونيروبي بكينيا، حيث نفذت تفجير سفارتي الولايات المتحدة في كل من المدينتين في وقت واحد في السابع من أغسطس 1998، أسفرا عن سقوط 224 قتيلاً منهم 12 أميركياً، وجرح خمسة آلاف آخرين، وفي رد انتقامي نفذت الولايات المتحدة هجوماً في 20 أغسطس 1998، وقصفت البارجة الأميركية من البحر الأحمر مصنع الشفاء للأدوية في الخرطوم بحري بصاروخين دمرتاه بعد اتهام السودان بإنتاج مواد في المصنع تدخل في صناعة أسلحة كيماوية، واتهام أسامة بن لادن الذي تأويه الخرطوم بالضلوع في تفجير السفارتين، وأن المصنع يتبع له، وتزامنت هذه العملية مع قصف صواريخ كروز قواعد جماعات مسلحة في أفغانستان وأطلقت واشنطن عليها "عملية الوصول اللانهائي"، وفي 12 أكتوبر (تشرين الأول) 2000 كان تنظيم "القاعدة" قد أعد مفاجأة أخرى هي تفجير المدمرة الأميركية "يو أس أس كول" بينما كانت ترسو على ميناء عدن اليمني، وأسفر الهجوم عن مقتل 17 بحاراً أميركياً.
انفراجة جزئية
ومرت بضعة أعوام لاح فيها انفراج في العلاقات بين البلدين، فتم برعاية أميركية توقيع الحكومة السودانية اتفاقية أبوجا لسلام دارفور، في الخامس من مايو 2006، وتطلب الاتفاق من الحكومة استكمال نزع سلاح وتسريح ميليشيات "الجنجويد" بحلول منتصف أكتوبر 2006، بإشراف الاتحاد الأفريقي، كما وضعت قيوداً على تحركات "قوات الدفاع الشعبي" وتقليصها، ومر الوقت المحدد من دون أن يتم حل "الجنجويد"، وفي الأول من نوفمبر من العام ذاته، جدد الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش العقوبات المفروضة على السودان لمدة سنة إضافية، كما أصدر قراراً بالحجز على أموال 133 شركة وشخصية سودانية.
وشهدت الفترة منذ فرض العقوبات وحتى سقوط نظام عمر البشير تذبذباً، بين تجديدها الروتيني ومضاعفتها لأسباب رأت واشنطن أن الخرطوم لم تحرز فيها تقدماً ملموساً، وتخفيفها أو رفعها جزئياً لتحقيق بعض الخطوات المتقدمة في ملفات السلام سواء الحرب في جنوب السودان أو دارفور، وعلى رغم أن العقوبات فرضت على السودان بسبب واضح هو رعاية الإرهاب، فإنها في ما بعد علقت بقضايا الحرب والسعي إلى تحقيق السلام.
وفي عام 2002 أصدر الكونغرس "قانون سلام السودان" الذي ربط العقوبات الأميركية على السودان بالتقدم الذي يتم إحرازه في المفاوضات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، ورهن رفع العقوبات بتقدم المفاوضات بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان على أثر توقيع بروتوكول "مشاكوس" في 20 يوليو (تموز) 2002، لتنعقد المحادثات بعد ذلك في مشاكوس ونيروبي بكينيا تحت رعاية الهيئة الأفريقية الحكومية للتنمية "إيغاد"، واتفق الطرفان على رعاية تحقيق الوحدة إلى أن يقرر أهل جنوب السودان شؤون إقليمهم بالمشاركة في الحكومة القومية.
سلاح حاضر
وظل سلاح العقوبات حاضراً، إذ نثرت واشنطن الوعود لنظام البشير بتخفيفها، حتى تم توقيع اتفاقية السلام الشامل "نيفاشا" بكينيا في التاسع من يناير (كانون الثاني) 2005، بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، وانتهت بقيام الاستفتاء على حق تقرير المصير، أحد أهم بنود الاتفاقية، ومهدت لانفصال الجنوب عن الشمال، ولكن بعد أشهر فقط أي في 13 أكتوبر 2006 تحول هذا السلاح إلى صدر السودان، بأن أصدرت واشنطن "قانون سلام ومحاسبة دارفور" الذي استند إلى أن سياسات نظام حكومة السودان تهدد أمن وسلام وسياسة الولايات المتحدة، ثم فرضت عقوبات أخرى على قطاع الاستثمار عام 2007، تبعتها عقوبات ضد أفراد عدتهم مسؤولين عن الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في دارفور.
وبعد انفصال جنوب السودان في التاسع من يوليو 2011 أعلن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما في الأول من نوفمبر 2012 قراراً بتجديد العقوبات الأحادية الأميركية المفروضة على السودان لعام آخر. وقال في رسالته التي بعث بها إلى الكونغرس ومجلس الشيوخ إن "الظروف التي أدت إلى فرض العقوبات على حكومة السودان في الثالث من نوفمبر 1997 لا تزال قائمة، وإن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة السودانية لا تزال تمثل سياسة معادية لمصالح الولايات المتحدة، وتشكل تهديداً غير عادي واستثنائي للأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقبل انتهاء مدته الرئاسية الأخيرة أصدر أوباما أمراً تنفيذياً في 12 يوليو 2017 رفع بموجبه العقوبات المفروضة على السودان جزئياً على أن يتم البت فيها بعد ستة أشهر، ويتوقف ذلك على التزام السودان تعهدات، وفقاً إلى "خطة المسارات الخمسة" التي تضمنت التعاون في مكافحة الإرهاب وعدم دعم المعارضة في جنوب السودان والسماح بتوصيل المساعدات الإنسانية ووقف الحرب جنوب السودان وحقوق الإنسان، ولكن أجلت الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة الرئيس السابق دونالد ترمب اتخاذ القرار في شأنها بحجة إفراد وقت إضافي لدراسة الملف.
تنازلات عديدة
وكانت الحكومة السودانية ترى أنها قدمت تنازلات عديدة من أجل رفع العقوبات، ولكن واشنطن لم تكن تفي بوعودها، ولذلك عندما رفعت العقوبات جزئياً بالغت في الاحتفاء بها لدرجة صورت الحدث بأنه سيحل كل مشكلات السودان، وفعل هذا كمؤثر موقت في تسكين الاحتجاجات التي بدأت تهب بين وقت وآخر وكان يتم إخمادها.
وبعد سقوط نظام البشير على أثر ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 استجابت حكومة الفترة الانتقالية لقرار نص على دفع السودان 335 مليون دولار تعويضات لعائلات ضحايا الهجمات التي ارتكبها تنظيم "القاعدة" بتفجير السفارتين والمدمرة كول. وفي 14 ديسمبر 2020 رفعت الولايات المتحدة اسم السودان رسمياً من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وكان ذلك حدثاً بارزاً في تاريخ السودان. وما إن بدأت الحياة تدب في الاقتصاد السوداني ومشاريع التنمية والتعاملات المصرفية العالمية حتى فرض الفريق البرهان إجراءاته التي قوضت الوثيقة الدستورية وعرقلت المساعدات الدولية وأطفأت أمل تسوية الديون وأعادت البلاد في نظر المجتمع الدولي إلى ما قبل الثورة.
فعالية العقوبات
وعلى رغم أنه بإمكان الولايات المتحدة تحقيق التأثير في إيقاف الحرب في السودان وتعول كثيراً على استعمال العقوبات، فإن التجربة السابقة أثبتت أنها تعزل السودان سياسياً وتحاصره اقتصادياً، فقد وجد النظام السابق منفذ الصين، ومع أنها كانت الخيار الأوحد فإنه حقق من ذلك ثروة من عائدات النفط لكنها تبددت بسبب الفساد، كما أنها بعد ما يقارب ثلاثة عقود من تطبيقها لم تؤد العقوبات إلى نهاية الحرب في دارفور، ومع أنها أوقفت حرب الجنوب لكنها لم تنهها داخل الدولتين، وتحول إرثها إلى حرب قبلية في دولة جنوب السودان، وظلت الحرب في الجنوب الجديد الذي تمثله المنطقتان (جبال النوبة وإقليم النيل الأزرق) التي هدأت بتوقيع الحركة الشعبية لتحرير السودان - شمال بقيادة مالك عقار على اتفاق جوبا للسلام في الثالث من أكتوبر 2020، ولكنها مهيأة للاشتعال في أي وقت بسبب أن فصيل الحركة بقيادة عبدالعزيز الحلو لم يوقع على الاتفاقية.
وقد يرى البعض أن إضافة مزيد من العقوبات على طرفي النزاع مثلما تهدد بذلك الإدارة الأميركية قد تدفعهما باتجاه توقيع الهدن كما حدث من قبل، لكنها لن تعالج أسباب وجذور النزاع التي تتطلب تفعيل آلية الحوار، وصولاً إلى وقف شامل لإطلاق النار ثم توقيع اتفاقية سلام. وقد لا تسهم العقوبات بالضغط على الجنرالين بالشكل المطلوب لإنهاء الصراع، إذ بإمكانهما إيجاد منفذ ما يلتفان به حول العقوبات، وعلى رغم أن طرفي الصراع غير مكترثين بالعقوبات الحالية، فإن الحوار وفق خريطة طريق متكاملة يمكن أن يجدي، خصوصاً إذا فرض على الجيش عدم الاعتماد على التجارب القديمة للنظام السابق بتحدي القوى الدولية وعدم احترام المواثيق والمعاهدات بما فيها اتفاقيات السلام، كما يفرض على "الدعم السريع" وقف الاعتماد على الخارج بالاستقطاب السياسي واستجلاب الدعم العسكري ومحاولة الانتقاص من سيادة البلد.