Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فولكر عرض لمرض

لعب دوراً لا تخطئه العين في العملية السياسية بالسودان من غير أن يصيب أياً من الأهداف المنوط بها

فولكر بيرتس رئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (أ ف ب)

ملخص

انتهى به الأمر ليكون أحد مسببات أول حرب داخلية شاملة في السودان يكون مسرحها الأول العاصمة القومية وأول حرب هجومية شاملة على الجيش الوطني وأول حملة عسكرية لانتهاك كل مبدأ وكل نص في القانون الدولي الإنساني.

أعتقد أن السيد الدكتور فولكر بيرتس المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة للسودان ورئيس بعثة (يونتامس) بعد أن استقر به المقام في البلاد، وبعد أن استقل للمرة الأولى في سيرته المهنية برئاسة إحدى بعثات الأمم المتحدة التي يطلق عليها اسم البعثات السياسية الخاصة، شعر أن الطريق ممهد أمامه ليس للمساعدة في عبور الفترة الانتقالية وإنما لهندسة مستقبل السودان السياسي على هدى من أجندة الاتحاد الأوروبي والأجندة البريطانية، وأخص بالذكر بريطانيا لكونها لم تعد عضواً في الاتحاد الأوروبي ولكونها في ذات الوقت شديدة الاهتمام بالوضع في السودان وشديدة الحرص على تقليم أظافر تطلعاته وخياراته والسعي إذا فشل في ذلك إلى فرض مزيد من الضغوط عليه.

السيد فولكر داخله شعور قوي بأن حالة الانقسام والتوهان ستعينه وقد تَدَعَّم ذلك الشعور بعد إبرام "الاتفاق الإطاري" وتأييد قائد قوات الدعم السريع له في خضم هذا الشعور الذي اعتراه نسي فولكر أو تناسى طبيعة البعثات السياسية القائمة على مبدئين جوهريين، وهما الحياد وإشراك الجميع تماماً. من جانبه وفي المقابل، والشيء بالشيء يذكر، أغفل رئيس وزراء الفترة الانتقالية الأولى حمدوك ونسي فسحة التحرك والتحكم التي تتيحها له هذه البعثة الأممية باعتبارها إحدى البعثات السياسية الخاصة في نظام عمليات السلام في الأمم المتحدة ولو أخذ بها لكان قد دعم القرار الوطني ودعم سلطته الوطنية في إرساء نظام انتقالي واضح المعالم يقوم بدوره في إرساء وضمان مستقبل مستقر للديمقراطية في السودان. وقد ضل الرجلان كل في اتجاهه، بدليل ما أسهما فيه مع غيرهما في ما وصلت إليه الأحوال اليوم في مشهد هذه الحرب المستعرة. والأمر الأكثر خطورة اليوم هو سعي فولكر لتوريط البلاد مع الأمم المتحدة ومن ورائها المجتمع الدولي وبأسهما شديد على المستضعفين.

قبل ثلاثة أعوام، وفي الثالث من يونيو (حزيران) 2020، أجاز مجلس الأمن قراره المرقوم 2425 بنشر بعثة سياسية خاصة في السودان يترأسها السيد فولكر بيرتس مبعوثاً خاصاً للأمين العام للأمم المتحدة للقيام بالمهام التالية خلال الفترة الانتقالية:

 1- المساعدة في عملية الانتقال السياسي وتقديم المساعدات التقنية لصياغة الدستور وتعداد السكان والتحضير للانتخابات.

 2- دعم عمليه السلام وتنفيذ اتفاقياته.

3- المساعدة في حماية المدنيين في دارفور.

4- تعبئة المساعدات الإنمائية والإنسانية.

لعب السيد فولكر دوراً لا تخطئه العين في العملية السياسية بالسودان من غير أن يصيب أياً من الأهداف المذكورة، متعدياً الدور المرسوم له في المساعدة والدعم وهما العامل المشترك في المهام والأهداف المذكورة، بل انتهى به الأمر ليكون أحد مسببات أول حرب داخلية شاملة في السودان يكون مسرحها الأول العاصمة القومية وأول حرب هجومية شاملة على الجيش الوطني وأول حملة عسكرية لانتهاك كل مبدأ وكل نص في القانون الدولي الإنساني في عملية منظمة قل نظيرها في تاريخ المدنية الحديث. كما أنه بفضل من أصروا على نشر هذه البعثة الأممية في السودان من غير داع وطني أو محلي حقيقي عاد الاقتتال والاحتراب إلى دارفور بعد أن انخفضت وتيرته منذ بداية عام 2014 إلى أن انتهى تماماً بحلول يونيو (حزيران) 2018 الذي أعلن فيه السيد جان بيير لاكروا، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لعمليات السلام أمام مجلس الأمن أن "الحرب في دارفور قد أصبحت في ذمة التاريخ".

تعمل القوات المسلحة السودانية بنجاح على إجهاض عملية عسكرية انقلابية من قوات ضخمة تمددت وتضخمت واستأسدت في كامل التراب الوطني السوداني وبتركيز أكثر من 60 في المئة من قواته في العاصمة الوطنية أكبر التحديات التي تواجه هذه العملية التي تقوم بها القوات المسلحة للدولة هو تحصين هذه العملية من صنوف التدخل الدولي، الذي يشكل رأس الرمح فيه السيد فولكر والذي يسعى لضمان دور للدعم السريع في الحياة السياسية للسودان في الفترة الانتقالية التي يتم تمديدها زمنياً كل مرة ولما بعد هذه الفترة، وذلك بإعادة تخليقه ونفخ الروح فيه وهو تحد كبير وخطر داهم. هذا السعي المغرض من فولكر ومسانديه في الخارج إذا أضفنا إليه السعي لتكريس الدعاية الجارية لتصوير القوات المسلحة للدولة بأنها مجرد "طرف" ينم عن هدف بعيد المدى لتفتيت السودان وتقسيمه من خلال إزكاء نار الحرب الأهلية واصطلام السودانيين بعضهم البعض.

القوات المسلحة لأية دولة تمثل أحد أركان شرعية هذه الدولة، بل أن منظمة الأمم المتحدة تملك بموجب ميثاقها جيشاً لوقف العدوان من أية دولة على أية دولة أخرى، والذي يشكل تهديداً للسلم والأمن الدولي، وينص الميثاق على قيام هيئة أركان حرب تتشكل من رؤساء أركان حرب الدول دائمة العضوية يكون على رأسها رئيس للهيئة. وإن كانت هيئة الأركان لم تر النور فإن هذه النصوص تأتي تأكيداً على المبدأ الطبيعي المستقر في حق قيام الدول بالدفاع عن نفسها عن طريق جيوشها الوطنية، بل إن أية دولة تتعرض للعدوان داخلياً أو خارجياً لها الحق في طلب العون والإمداد العسكري من أية دولة تراها، وذلك ما تفصله المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.

 إذاً لا يمكن بأية حال اعتبار القوات المسلحة لأية دولة مجرد طرف أو أحد تشكيلين عسكريين متصارعين بحسب الوصف غير المقبول من السيد فولكر للقوات المسلحة السودانية في الإيجاز الصحفي الذي عقده في مباني مجلس الأمن عقب جلسة المجلس في 22 مايو (أيار) المنصرم. تحدث السيد فولكر في إيجازه الصحافي عن الفظائع التي ارتكبت والانتهاكات التي طاولت المدنيين ومنها إخراجهم من بيوتهم في الخرطوم واغتصاب النساء واحتلال المستشفيات وحرق دار الوثائق القومية والاعتداء على متحف السودان القومي، الذي نعتبره بحق حفيظاً على أحد أهم شواهد تاريخ البشرية في أرض هي مولد الإنسانية، وغيرها مع الرفض الصريح كما جاء في إجابته لممثلة قناة "الجزيرة" عن تسمية الطرف المنتهك.

 كل ما تقدم وغيره مما أثاره كثيرون يجعلنا نرجح أمر هذه الهندسة السياسية لمستقبل ومصير السودان والذي يلعب فيه فولكر دوراً كان يلعبه غيره من قبل، لذلك فإن فولكر لا يمثل إلا مظهراً من مظاهر هذه الأجندة التي لم تتمكن هذه الثورة الشعبية الواسعة التي اندلعت في ديسمبر (كانون الأول) 2018 من وقفها أو الحد من غلوائها على رغم أن العالم كله قد استقبلها بالترحاب والانبهار، من ضمن مشمولات هذه الأجندة يأتي التركيز على غارات الطيران السوداني التي أحدثت خسائر فادحة في صفوف الدعم السريع بقصد إخراجها من العمليات العسكرية بمختلف الذرائع والدعاوى.

وعلى رغم أن التقرير المقدم من فولكر والسكرتارية في الأمم المتحدة باسم الأمين العام يأتي على ذكر الانتهاكات الفظيعة، إلا أنه سكت عن الإشارة لمرتكبيها. الحياد هو التبرير لهذا السكوت وهو نفسه أي الحياد الذي رمى به جانباً السيد فولكر عندما أتى على ذكر القوات المسلحة السودانية في إحاطته لمجلس الأمن مصداقاً لذلك يقول التقرير على لسان الأمين العام:

"لقد هالني استمرار القتال في الأماكن المكتظة بالسكان والهجمات على المدنيين والبنية التحتية المدنية بما في ذلك المنازل والمستشفيات والمدارس وأماكن العبادة والعاملين في المجال الإنساني والطبي وحوادث نهب موظفي الأمم المتحدة والبعثات الدبلوماسية والمنظمات الإنسانية الأخرى وهي غير مقبولة"!

في الثاني من يناير (كانون الثاني) 2019، أعلنت الحكومة الصومالية أن السيد نيكولاس هايسوم المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة "شخص غير مرغوب فيه" وطلبت منه مغادرة الصومال فغادر. أعلن الأمين العام للأمم المتحدة "صدمته من القرار الصومالي وعبر عن ثقته في مبعوثه".

دخلت السكرتارية في إدارة الأمم المتحدة في نيويورك في جدل قانوني بأن اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961 تنطبق على البعثات الدبلوماسية للدول ولا تنطبق على مسؤولي الأمم المتحدة ومبعوثيها. عاد السيد هايسوم وهو رجل هادئ إلى نيويورك واشتغل في مهام أخرى وبرز اسمه في قائمة المرشحين لرئاسة البعثة السياسية الخاصة بالسودان والتي تقدم بطلب نشرها معالي السيد رئيس الوزراء عبدالله حمدوك في 27 يناير 2020 بموجب رسالة فصيحة بالإنجليزية تحمل صبغة لغة الأمم المتحدة UN Jargon .

وعلى سبيل المقارنة بين القرارين الصومالي والسوداني، نلاحظ أن السودان راعى ابتداءً علاقاته وصلاته الوطيدة بالأمم المتحدة وأمينها العام، والذي يحتل السودان والسودانيون مكانةً في عقله وقلبه واتبع في ذلك الكياسة والحسنى بطلب قدمه إلى السيد الأمين العام حتى يصدر القرار عنه نزولاً كريماً عند رغبة دولة ذات سيادة عضو في الأمم المتحدة.

من المهم الإشارة هنا إلى أن السيد فولكر يترأس بعثة سياسية خاصة (يونتامس) تعود الملكية ( (ownership فيها إلى البلد المعني، وهو ما أشار إليه قرار إنشائها نفسه في فقرته الثانية بأن الأهداف التي أنشئت البعثة لتحقيقها يجب أن تتوافق مع مبدأ الملكية الوطنية هذا.

بناءً على كل ذلك، وبناءً على ما بادر به السودان من خطوة دبلوماسية محمودة، فليس أمامه إلا أن يمضي في تأكيد رغبته واتخاذ ذات الخطى التي أقدم عليها أكثر من مرة في تاريخه بعد أن يكون قد استنفذ خياره المتاح وأعذر.

إن الأمن هو الهدف ذو الأولوية في هذه المرحلة الفاصلة، والاستقرار هو الهدف الوطني الأسمى. إن الاستقرار يضمن على الدوام سلامة المواطنين وأمنهم ويضمن التعافي والنمو الاقتصادي والتضامن الاجتماعي، كما يضمن أن يعود السودان مرة أخرى ليؤدي دوره في السلام الإقليمي والدولي. إن القفز فوق هذه الحقائق وهذه الشروط المطلوبة وجوباً لا يعني غير تكريس العنف والاضطرابات واستمرار الفوضى. لن تعيننا هذه البعثة السياسية وعلى الأخص برئيسها هذا إلا على الجدل العقيم وانفراط العقد.

السفير عمر دهب مندوب السودان الدائم لدى الأمم المتحدة السابق

المزيد من آراء