Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أنطونيو غالا المفتون بالأندلس روى العلاقات الحضارية وتناقضاتها

"كما لو أن العرب الأندلسيين يهمسون في عروقي بصلوات غير مفهومة"

الروائي والشاعر الإسباني الأندلسي أنطونيو غالا (مؤسسة غالا)

ملخص

يُعد الكاتب الإسباني أنطونيو غالا، الذي رحل عن عالمنا قبل أيام في مدينة قرطبة، أحد أبرز الروائيين الإسبان المفتونين بالحضارة العربية في الأندلس

يُعد الكاتب الإسباني أنطونيو غالا، الذي رحل عن عالمنا قبل أيام في مدينة قرطبة، عن عمر يناهز 92 عاماً، أحد أبرز الروائيين الإسبان المفتونين بالحضارة العربية في الأندلس. وهذا الشغف تجلى في أعماله الروائية التي ظلت تجول في المنطقة الأندلسية ساعية للكشف عن المؤثرات الحضارية الدامغة للمكان والزمان الأندلسيين، ومتكئاً في كتابته على التوليف بين المتخيل والواقعي. مضت مخيلة غالا وراء طرحه لافتراضات وتساؤلات تتعلق بالماضي، يضفرها مع وقائع تاريخية وأحداث مثبتة؛ وظل يغويه التنقيب فيها وإعادة طرحها وفق رؤيته الذاتية، من دون التقيد بما قيل من قبل.  

هذا يتجلى مثلا في روايتيه "المخطوط القرمزي"، التي تدور على لسان أبي عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس، و"غرناطة بني نصر"، حيث ترك السرد لمدينة غرناطة، مفتتحًا نصه بالقول: "حين يصفني من يراني اليوم بالجميلة أبتسم. ربما ظنوا أن ابتسامتي ابتسامة خيلاء، على العكس إنها ابتسامة حزن، فقبل ستمئة أو سبعمئة عام كنتُ جميلة فعلاً. المدينة كالمرأة: شعورها بأنها محبوبة يجملها".

تجلت في إبداعات غالا السردية والشعرية، حالات العشق والوله المتفرد الذي يصل إلى حافة الجنون، وهذا النوع من العشق الأخاذ الذي يتحدث عنه، وليد تمازج حضاري، واختلاط ثقافات متنوعة أدت إلى تكوين شخصيات غير نمطية، قادرة على التفاعل بشغف محموم، تماماً مثل العلاقة بين الشرق والغرب التي مرت بتجاذبات متطرفة على مدار التاريخ. لكن  أنطونيو غالا ظل واقعاً في غواية إلغاء المسافات بين الغرب والشرق، نجده مثلا يُعبّر على لسان  بطلة رواية "الوله التركي"، بالقول: "كنت أشعر بشيء أخوي تماماً في تلك الرحلة، كما لو أن العرب الأندلسيين يهمسون في عروقي بصلوات غير مفهومة، لا شيء يموت كلياً، لا وجود للنسيان".

"الوله التركي"

تتناول رواية " الوله التركي" كما يبدو من العنوان، حكاية وله شديد، وعشق مرضي مخيف يصل إلى درجة الفناء السلبي في الآخر. تتكون الرواية من أربعة أقسام على شكل دفاتر تحوي مذكرات "ديسيديرا"، التي تروي من خلال مذكراتها حكاية عشقها العنيف للرجل للتركي "يمام".

تتمرد "ديسيديرا"،على زواج نمطي تقليدي بعد لقائها "يمام" في تركيا، خلال رحلة سياحية قامت بها برفقة زوجها وبعض الأصدقاء. يؤدي عشقها لـ"يمام" إلى الاستسلام الكامل له والإنزلاق في منعطفات مؤذية على المستوى الإنساني العام. فالرواية تسير في خط تصاعدي كي تصل البطلة في منتصف الأحداث إلى ذروة العشق والغرام، ثم يبدأ هذا الخط بالإنحدار، جاذبا معه المفاهيم الأساسية في حياة ديسيديرا.

وفي الوقت الذي يتوقع القارئ نهاية هذه العاطفة أو سقوطها في نمط من الروتين الممل وتحولها إلى مجرى آخر، تسير الأحداث في خط مغاير، يُشبه المسيرة الحلزونية، أي من انزلاق إلى آخر أشد خطورة. تبدو الرواية وكأنها تُشكل سهمين متعاكسين بين خط البداية العائلي الهادئ، ديسيديرا وزوجها روميرو، بينما السهم الثاني يطرح أزمات الخراب الداخلي، والتصدع الأخلاقي العنيف، وضياع الهوية الذاتية.

على المستوى النصي والفني يبدو فقدان البطلة هويتها الداخلية، العامل الأساس الذي قاد إلى كل هذا التدهور، مع غياب أي طموح خاص أو أحلام، أو رغبات. لا تفرّد داخلياً سوى في ذاك الوله المرضي المؤذي لذاتها قبل أي إيذاء للآخر. لا سلوكيات تميز شخصيتها، لا اعتراض، لا تمرد يوحي باستيائها مما يجري، حتى ثورتها لم تكتمل حين أحست أن "يمام" يقدمها بسهولة إلى رجل آخر.

الشكل الفني للرواية يقوم على السرد، والحوار الداخلي المحتدم والشائك على المستوى التعبيري واللغوي، وبدت الأحداث الأخيرة متوائمة مع السهم الإنحداري الذي سيطر على القسم الثاني من الرواية، فشكَّل حدث الإنتحار على سلبيته المطلقة، انتشالاً من حال الغرق الأخلاقي المزري الذي وصلت إليه البطلة، فقد حضر الموت كعامل منقذ للحياة العدمية التي أودت بها من انزلاق حتمي إلى آخر.

يمكن القول إن غالا وضع في "الوله التركي"، عصارة رؤيته لحالة الشغف الأعمى، التي تسيطر على الإنسان وتسحبه نحو القاع، وإن تخلل رسمه لشخصية البطلة ثغرات عدة ، في مقابل نسج دقيق لشخصية "يمام"، فقد بدا متطابقاً ومرسوماً بدقة من بداية الأحداث حتى نهايتها. هو مرشد سياحي لبق يوقع في حبائله نساء يعلم تماماً مدى الفائدة التي سيحققها من خلالهن في ما بعد.

"المخطوط القرمزي"

في كتابة أنطونيو غالا، ثمة نفس إيحائي عميق حول التفاعلات الحضارية وأثرها على الحضارة الإنسانية من جهة، وعلى الذات الإسبانية من جهة أخرى، كما في روايته الأولى "المخطوط القرمزي" التي عبقت بالحب والعشق الأندلسيين عبر شخصية أبي عبد الله الصغير. فقد عمد غالا إلى تقشير الطبقات السطحية عن هذه الشخصية المثيرة للجدل، مُنحيّاً السؤال الحائر : هل كان آخر سلاطين الأندلس خائناً أضاع الأندلس كما يروي التاريخ، أم غُراً ساذجاً لم يعرف كيف يمسك بمقاليد الحكم؟ يضعنا غالا وجهاً لوجه أمام بطلٍ يواجه مأزقه الوجودي الذي تصادف أن يجعله حاكماً، يقول: "لم أكن لألفت انتباه أحد لو لم أكن الإبن البكر لأبي الحسن، ملك غرناطة. وأول ما يتعلمه الأمير، ولي العرش هنا، هو: "لن أتنازل عن العرش".

حملت الرواية دمجاً للموسيقى والشعر العربيين مع الغناء الأندلسي، وفي هذا انعكاس واضح لسيرة الكاتب الشخصية مع بنائه الروائي والشعري. يقول على لسان أبي عبد الله الصغير: "إذا ما أصخت السمع اليوم فإنني أسمع موسيقى تأتي من بعيد جداً، من الماضي أيضاً، من ساعات وعلامات مختلفة عن اليوم وعن حيوات أخرى. ربما حياتنا، ونحن أنفسنا لسنا إلاهاً، ليست إلا تلك الموسيقى. لأننا كنا ذات مرة أفضل، أو أسعد وأكثر جدارة".

يمنح غالا أبا عبد الله الصغير رؤية حساسة للحياة، وللحب، وهي صورة مغايرة عن الأمير اللاهي الذي ضيع بلده. الأمير هنا يتمكن من جذب تعاطف القارئ بفلسفته الخاصة في تأويل كل ما يجري في مسار حياته العبثية، يتساءل بين رعشة الفرح ورعشة الإستنفار. هل التركي هو الإسلامي؟ ثم يُعبر عما يدور في داخله من أفكار، مُعترفاً بأن غبطة الأمويين والعباسيين في الأندلس قد انقضت إلى الأبد. يقول: "في ساحة باب الرملة أحرقوا الكتب... صلواتنا، قصائدنا، صوفيتنا، وموسيقانا. كلها اشتعلت. أرى ثقافتي تحترق، وأسمع نواقيس أعدائي تقرع مترادفات المجد".

"إبن الأندلس"

 إنتمى غالا بكليته إلى الأندلس، ولد في 2 أكتوبر (تشرين الأول) 1930، في "برازاتورتاس" بإسبانيا، لكنه عشق مدينة قرطبة بعد أن انتقل إليها برفقة أسرته وهو في التاسعة من عمره.  وهذا ما جعله يصف نفسه بجملة: "أنا ابن الأندلس". درس في جامعة إشبيلية، ونال ثلاث إجازات جامعية في القانون، الفلسفة، والعلوم السياسية والاقتصاد. برز طوال حياته كشخصية عالية الصوت، وقوية الحضور ، ودافع عن الأحزاب السياسية اليسارية، ودعم استقلال الأندلس في مؤتمر الثقافة الأندلسية في قرطبة عام 1978. وانتقد تصرفات النظام الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في مناسبات عديدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

برزت هويته الحقيقية ككاتب في شغفه بسرد أحداث تاريخية في قصٍ مغاير للسائد. خلال عمله في تدريس الفلسفة وتاريخ الفن في المدارس، كان يحكي الحقائق للتلاميذ كما يراها هو. مسيرته الأدبية بدأت في الخمسينيات من القرن الماضي عندما نشر مجموعته الشعرية الأولى "قصائد الحب". نالت أشعاره هذه بسبب نبرتها  الغنائية والمؤثرة، إشادة من النقاد ومهدت الطريق لنجاحه اللاحق. ثم امتدت موهبته إلى حقل آخر هو المسرح،  فحقق شهرة كبيرة ككاتب مسرحي، مع أكثر من عشرين مسرحية، بعضها شاع ونجح للغاية. من بين أشهر أعماله المسرحية: "حقول عدن الخضراء"، "خاتمان من أجل سيدة"، "سمرقند"، "كارمن". لم يجرب غالا حظه في عالم السرد حتى التسعينيات، حين أصدر رواية "المخطوط القرمزي"،التي نال عنها جائزة بلانيتا عام 1990، تلتها عدة أعمال روائية، منها : "النسر ذو الرأسين"، "غرناطة بني نصر"، "الوله التركي" و"خلف الحديقة" وقد تم تحويلهما إلى فيلمين سينمائيين.

تركت حياة أنطونيو غالا وإسهاماته الأدبية علامة لا تُمحى في آداب العالم؛ من خلال شعره ومسرحياته ورواياته، واستكشف تعقيدات التجربة الإنسانية بعمق وإحساس ملحوظين، وتميز بقدرة فريدة على إثارة المشاعر وتحدي الأعراف والتقاليد المحنطة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة