Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البريطاني مارتن أميس شغلته عبثية ما بعد الحداثة وشيخوخة أوروبا

الروائي الراحل عن 73 سنة نافس أباه إبداعياً وأعلن ندمه عن انحرافاته

الروائي البريطاني مارتن أميس (غيتي)

ملخص

الروائي طاني مارتن أميس الراحل عن 73 سنة نافس أباه إبداعياً وأعلن ندمه عن انحرافاته

تزامن رحيل الكاتب البريطاني الشهير مارتن أميس في منزله في فلوريدا قبل أيام مع عرض الفيلم المستوحى من روايته الرابعة عشرة "منطقة الاهتمام" في مهرجان كان السينمائي الجاري، بالتالي لم يتسن لكاتبها الذي توفي بسبب سرطان المريء عن عمر يناهز 73 سنة أن يشهد ما حظي به الفيلم من نجاح وجدل واسع.

بدأ أميس مسيرته الإبداعية عام 1973 بروايته الأولى "أوراق راشيل"، السيرة الجريئة عن فترة مراهقته وعلاقته بزميلته راشيل، وشاءت الصدفة أن تختتم بالسيرة الذاتية المروعة "داخل قصة" عام 2020 التي تضمنت نصائح مهمة في الكتابة وأدرجت في القائمة القصيرة لجائزة دائرة نقاد الكتاب الوطنية للخيال. وما بين سيرتين تدفقت تجربته الحافلة بالصراع والردود اللاذعة والآراء الحادة والخطأ والندم والاعتذار، شأن كل من ينخرط بكامله في قضايا العالم والأحداث الجارية على مدى نصف قرن تقريباً، وقد نشر خلالها 15 رواية وعدداً من الكتب غير السردية ومجموعات من المقالات والقصص القصيرة، استطاعت في مجملها أن تحدد بدقة المشهد الأدبي البريطاني في فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، ضمن أعمال لمجموعة من الروائيين المشهورين منهم إيان ماك إيوان وجوليان بارنز.

في مديح زوجة الأب

ولد مارتن، الابن الثاني للكاتب المعروف كينغسلي أميس في أكسفورد 1949. وتضافرت العوامل وظروف النشأة لزعزعة استقراره سواء على مستوى البيت أو الوطن، فما إن بلغ الثانية عشرة حتى انفصل أبواه، واضطر إزاء أسفار والده الكثيرة إلى التنقل بين أكثر من اثنتي عشرة مدرسة في دول مختلفة، وجاء تدني مستوى تحصيله الدراسي في اللغة الإنجليزية ليضيق من دائرة اختياراته. كان الصبي المراهق آنذاك لا يملك فكاكاً من سطوة هرموناته، ولا يعرف من الأدب إلا الخيال العلمي والكتب المصورة، لولا أن أشعلت فيه زوجة أبيه الروائية إليزابيث جين هوارد جذوة الإبداع "أعطتني قائمة من الكتب لأقرأها وبعد ساعة ذهبت وطرقت باب مكتبها وسألتها بلهفة "ينبغي أن أعرف: هل ستتزوج إليزابيث دارسي"؟".

ينسب أميس إلى هوارد يقظته الأدبية التي أسهمت أيضاً في زحزحته من خانة الطالب "غير الواعد" بحسب ما رأى ناظر مدرسته، فتخرج في كلية إكستر في أكسفورد، مع مرتبة الشرف في الإنجليزية تحديداً. عقب تخرجه شغل مارتن عدداً من الوظائف التحريرية في الصحف الأدبية المرموقة في لندن بدءاً من الملحق الأدبي لصحيفة "التايمز"، وفي غضون ذلك راح يستثمر ساعات الليل وأيام الإجازات لإنجاز روايته الأولى "أوراق راشيل". كان قد أمهل نفسه سنة لإكمالها وإذا لم يحالفه الحظ فما عليه سوى الاتجاه إلى الأوساط الأكاديمية. نالت الرواية استحسان النقاد وفازت بجائزة سومرست موم، وهي الجائزة التي حصل عليها والده أيضاً، مما جعل المقارنة بين الأب وابنه تفرض نفسها على المشهد الأدبي.

 لطالما تمنى أميس لو كان والده موظفاً أو معلماً ليتجنب مثل هذا النوع من المعاناة "لقد نزعت شرعيتي بسبب الوراثة". وقد تأكد له أن شهرة أبيه الواسعة كانت ذات حدين كالسلاح، فبقدر ما سهلت طريقه في عالم الكتابة والنشر في سن مبكرة جلبت عليه الحسد والاستياء والنقمة. غير أن الأمور لم تكن لتقف في تلك الدراما العائلية عند هذا الحد، بل تصاعدت وتيرتها مع تباين الآراء والميول والقناعات بين جيلين على نحو طبيعي لم يدركه الابن أو أبوه. ففي حين انجرف كينغسلي إلى اليمين مع صعود مارغريت تاتشر، مال مارتن إلى الآراء اليسارية التي وصفها الأب علناً بأنها "عويل فارغ"، كما سبق أن وصف كتابته بأنها خرق للقواعد وتلاعب بالقارئ. ولفت الانتباه إلى نفسه على نحو مستمر. وعندما دعا معرض الصور الوطني الأب والابن للوقوف معاً وتسجيل اللحظة التاريخية، احتل رفض كينغسلي الرقيق الصفحة الأولى لصحيفة "صنداي تلغراف"!

كل هذا لم يحل دون تسلسل نبرة كينغسلي الطريفة وروحه المرحة في تكوين أميس وكتابته على وجه الخصوص، شاء أم أبى، كما برز تأثره المبكر بجاين أوستن وغيرها أمثال سول بيلو وفلاديمير نابوكوف وجيمس جويس، واختياره العبثية المستشرية في عصر ما بعد الحداثة وتغول الرأسمالية موضوعاً مناسباً لهزله وغضبه واستيائه.

المنفرد بذاته

في روايته الثانية "أطفال موتى" (1976) التي تدور حول تعاطي المخدرات والجنس بين مجموعة من الشباب في منزل ريفي خلال عطلة نهاية الأسبوع، بدأت شخصية أميس في الظهور واتضح هوسه بالتدخل في مجريات الأحداث، ولكن جاءت روايته الثالثة "النجاح" عام 1978 لتضمن له جمهوراً واسعاً في بريطانيا قبل أن تجد ناشراً في أميركا التي لم تسمع باسمه إلا بعد اتهامه جاكوب إبستين، نجل باربرا إبستين، بسرقة مقاطع متعددة من "أوراق راشيل" في روايته الأولى "وايلد أوتس"، فلم يجد إبستين بداً من الاعتراف والاعتذار علناً.

كتب أميس أيضاً سيناريو فيلم "ساتورن 3"، مستمداً من تلك التجربة روايته الخامسة "المال" التي أدرجت في قائمة "أفضل 100 رواية باللغة الإنجليزية من عام 1923 حتى الوقت الحاضر"، ورحب النقاد باستخدامها الأسلوب والصوت، وعدت نقلة نوعية في كتابته بمحاولتها الجمع بين الأسلوب الراقي والأشياء التافهة والوضيعة. يقول في حوار لصحيفة "التايمز" عام 1985 "غالباً ما أتهم بالتركيز على الجانب اللاذع من الحياة في كتبي، لكنني أشعر أنني حساس جداً حيال ذلك. من يقرأ الصحف الشعبية يواجه رعباً أكبر بكثير مما أصفه".

كان هذا العقد تحديداً من أهم الفترات في حياة أميس، أصدر فيه "ثلاثية لندن" المؤلفة من "المال" و"حقول لندن" و"المعلومات". كتب ميتشيكو كاكوتاني في صحيفة "التايمز" في مراجعة "المعلومات"، "كل الموضوعات والتجارب الأسلوبية في روايات السيد أميس السابقة تتجمع معاً في كل سيمفوني". وفي "واشنطن بوست" وصفه جوناثان ياردلي بأنه "قوة في حد ذاته بين أبناء جيله الذين يكتبون الروايات باللغة الإنجليزية الآن"، مضيفاً "ببساطة لا يوجد أي شخص آخر مثله". مع هذا لم يفز أي من أعماله بجائزة البوكر الأكثر شهرة في إنجلترا، على رغم أن معظم أصدقائه فازوا بها، ماك إيوان وسلمان رشدي وبارنز، والأهم من ذلك كله أن كينغسلي الأب فاز بالبوكر عام 1986 عن روايته "الشياطين القدامى"، ليظل أميس الابن في دائرة الترشيح، مرة في القائمة القصيرة عام 1991 عن روايته "السهم الزمني"، وهي صورة لمجرم حرب نازي يتم سردها على عكس اتجاه عقارب الساعة، ومرة في القائمة الطويلة للبوكر عام 2003 عن روايته "الكلب الأصفر".

متاعب الرجل

بدأت المتاعب في شأن أميس تظهر في عقده الخامس، حين انفصل عن زوجته الأولى أنطونيا فيليبس مدرسة الفلسفة عام 1994، ليتزوج من الكاتبة الأميركية الأصغر سناً إيزابيل فونسيكا، التي كانت موضع ملاحقة من مجايليه، ومن بينهم سلمان رشدي كما صرح صديقه كريستوفر هيتشنز في حوار معه. في العام نفسه انخرط في نزاع أدبي لتخليه عن ناشرته بات كافانا زوجة صديقه بارنز، بعد أن رفضت دفع مبلغ 500 ألف جنيه استرليني مقدماً مقابل روايته "المعلومات"، وهو ما اعتبرته الصحافة مبلغاً غير لائق ومبالغاً فيه. وكرد سريع على الضجة قال دون تروٍّ "الحسد لا يأتي أبداً في زي الحسد، بل يرتدي معايير أخلاقية رفيعة أو يدعي كرهاً للمادية". هنا أسدل الستار على صداقته مع بارنز تماماً، مما جلب عليه الندم لاحقاً، مثلما ندم على مواقف كثيرة وأعلن تراجعه في السنوات الأخيرة من حياته في لحظات المراجعة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كان أميس قد اقترح بحسه الفكاهي والقاسي في الآن ذاته إنشاء أكشاك للموت الرحيم في زوايا شوارع لندن لإنقاذ شيخوخة أوروبا، كما اقترح بعد إحباط محاولة لتفجير طائرة انطلقت عبر المحيط الأطلسي من مطار هيثرو، أن الجالية المسلمة في إنجلترا "قد تعاني حتى يتم ترتيب منزلها"، داعياً إلى تقليص الحريات أو بمعنى أصح تقليم الأظافر. مثل هذه التعليقات قوبلت بإدانة واسعة، وصفها الناقد تيري إيغلتون بأنها تشبه تصريحات "سفاح من الحزب الوطني البريطاني"، ووجهت له صحيفة "اندبندنت" البريطانية هذا السؤال"، "هل أنت من المصابين برهاب الإسلام؟"، "بالطبع لا"، أجاب مفنداً رده "ما أنا عليه هو الإسلاموفوبيا. أو من الأفضل القول إني مناوئ للمتطرفين الإسلاميين، لأن الرهاب خوف غير عقلاني، ولا يوجد شيء غير منطقي في الخوف من الأشخاص الذين يقولون إنهم يرغبون في قتلك". غير أنه في حديث نشرته "الغارديان" البريطانية قبل رحيله بأعوام قليلة، أعلن اعتذاره عن كل ما سبق "أنا نادم بالتأكيد على ما قلته، بالفعل بحلول منتصف بعد ظهر ذلك اليوم الذي لم أعد أؤمن به".

في مذكراته "التجربة" تطرق أميس إلى علاقته بوالده وانفصاله عن والدته ومدى تأثره بهذا الحدث، وندمه على إثارة ضجة حول علاقته بوالده. كان قد اكتشف أن له ابنة تبلغ من العمر 17 سنة، من علاقة عابرة مع الفنانة لامورنا سيل التي أنجبت بعد سنوات قليلة ابناً، وهو ما جعل أميس يعلق بحيادية "أن تصبح جداً يشبه الحصول على برقية من المشرحة". ومع تقدمه في العمر توقف أميس عن لعبته المفضلة التنس، كما توقف عن النقد أيضاً وإثارة الجدل. وقال في آخر حوار معه "إن إهانة الناس في الصحف نقيصة الشباب، وفي منتصف عمرك أمر مهين، وتبدو ضرباً من الجنون أكثر فأكثر وأنت في طريقك إلى الشفق".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة