Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

توماس جيفرسون... رئيس أميركا الثالث والمنتظر

لهذه الأسباب يتذكره الأميركيون اليوم في أوقاتهم المظلمة اجتماعياً والمضطربة بالانقسامات السياسية

أعضاء اللجنة التي صاغت الدستور الأميركي (1776): من اليسار توماس جيفلاسون، وروجر شيرمان، وبنجامين فرانكلين، وروبرت آر ليفينجستون، وجون آدامز (غيتي)

ملخص

لهذه الأسباب يتذكر الأميركيون رئيسهم الثالث توماس جيفرسون في أوقاتهم المظلمة اجتماعياً والمضطربة بالانقسامات السياسية

في مؤلفه الموسوعي "تاريخ الولايات المتحدة"، والذي هو تأريخ لسيرة الرئيس الأميركي الثالث توماس جيفرسون (1801-1809)، يحدثنا المؤرخ الأميركي الشهير هنري أدامز (1838-1918) بالقول "يمكن لبضع ضربات فرشاة غليظة أن ترسم صورة جميع الرؤساء الأوائل، لكن مع استثناء وحيد هو جيفرسون، الذي لا يمكن رسم صورته إلا بلمسة بعد أخرى، من قلم رصاص مرهف، ويتوقف إتقان شبه الصورة بالأصل على الاختلاج المتغير والمتردد للظلال شبه الشفيفة".

أما الرئيس الأميركي الخامس والثلاثون جون فيتزجيرالد كيندي (1961-1963) فتحدث ذات مساء من عام 1962، في حفل جرى في البيت الأبيض، ضم جميع من حازوا على جائزة نوبل وكانوا على قيد الحياة بالقول "أعتقد أن هذا الجمع نادر المثال من أصحاب الموهبة الإنسانية، لم يسبق أن ضمه أي حفل عشاء في البيت الأبيض، ربما باستثناء شخص واحد يعادلهم جميعاً، هو جيفرسون، حينما كان يتناول عشاءه منفرداً بنفسه".

من هو الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأميركية توماس جيفرسون؟ ولماذا يتذكره الأميركيون في هذه الأوقات المضطربة التي تمر بها الدولة العظمى بكثير من الأعين الدامعة؟

 في غالب الأمر يصدق قول العرب في الليلة المظلمة يفتقد البدر، وقد كان جيفرسون قولاً وفعلاً بدراً في سماوات الولايات المتحدة الأميركية، فيلسوفاً وعالماً وسياسياً ومفكراً رفيع القدر.

في مؤلفه الحائز على جائزة بوليتزر "توماس جيفرسون/ فن السلطة" يحدثنا الكاتب والصحافي والمعلق السياسي الأميركي جون ميشام، عن هذا الرجل المتميز جداً، بل الذي لا يضاهى في تاريخ أميركا بالقول "كان جيفرسون إنساناً مليئاً بالتعقيدات، ومهتماً على الدوام بالصراعات التي تحدث من حوله، وكان يكره المواجهات ويتعلم من أخطائه، وينتصر في النهاية، وفهمه للسلطة وللطبيعة الإنسانية مكنه من قيادة الرجال وتوحيد الأفكار".

والشاهد أنه لا يمكننا بحال من الأحوال الإحاطة بسيرة هذا العظيم في التاريخ الأميركي في قراءة عابرة، وهو الذي سال في ذكره كثير من الحبر على الورق، غير أن ما لا يؤخذ كله لا يترك جله، ولهذا ليس من شأننا تفاصيل الميلاد والأسرة، بل التركيز على شخصية ومحورية رجل تحتاج إليه أميركا في حاضرات أيامنا، وربما العالم برمته من ورائها.

جيفرسون الفيلسوف أكثر منه السياسي

هل كان توماس جيفرسون المولود في فيرجينيا في 13 أبريل (نيسان) 1743 سياسياً أميركياً اعتيادياً، أم أنه فيلسوف مارس أعمال السياسة بعقلية المفكر والمتدبر لما هو أبعد من مجرد السيطرة على مقاليد الحكم في الدولة الفتية الناشئة وراء المحيط؟

في سعيه إلى تحقيق أهدافه سعى جيفرسون إلى السلطة ونالها وسيطر عليها. كان لجيفرسون رؤية محددة بوجوب سيادة إرادة الغالبية المستنيرة والمتعلمة، ولأن إيمان خصومه بالناس كان أضعف فقد كان قلقاً من أن الغالبية العظمى من المجتمع الأميركي الواسع قد تكون غير مؤهلة للحكم الذاتي، ولكنه كان يعتقد أيضاً أن هذا الجمهور نفسه يجسد الخلاص الذي تعد به الحرية، ويمثل الروح للأمة والأمل للجمهورية. هل كان جيفرسون نموذجاً حياً لما تشكله أميركا وتاريخها الوطني؟

نقرأ للمؤرخ الأميركي الكبير هوارد زين، صاحب "التاريخ الشعبي لأميركا" أنه "لطالما كانت أميركا ممزقة بين المثالية والواقعية، وبين الأهداف النبيلة والتنازلات الحتمية، وهكذا كان جيفرسون، ففي عقله وفي قلبه، شأنه شأن أمته، تواصل صراع ما بين المثالي والجيد، بين ما هو فكري وعقلي، وما هو جواني عميق. كان الصراع في داخله مثلما كان الصراع في داخل أميركا حرباً بلا نهاية".

تبرز قصة جيفرسون لأنه يجسد دراما أبدية، يجسد نضال قيادة الأمة للوصول إلى العظمة وسط عالم قاس ومضطرب.

ما الذي اعتقد فيه وآمن به جيفرسون أكثر من أي رئيس أميركي آخر وما ميزه عن غيره؟

الثابت أن جيفرسون آمن بالإمكانات الموجودة لدى الإنسانية أكثر من كل الرؤساء السابقين عليه، أكثر من جورج واشنطن أول رئيس، ومن ثاني رئيس للولايات المتحدة. كانت أحلامه كبرى، ولكنه كان يعي أن الأحلام تتحقق في الواقع فقط عندما يملك صناعها ما يكفي من القوة والدهاء لإخضاع التاريخ لأهدافهم. وكما يقال بنبرة تعميم إن الفلاسفة يفكرون والسياسيون يناورون. تمثلت عبقرية جيفرسون في أن يكون الاثنين معاً، وأن يفعل كليهما، وتزامناً غالباً، وهذا هو فن السلطة.

جيفرسون رئيس ظمآن للمعرفة

ولعل الذين تابعوا عدداً من الرؤساء الأميركيين في العقود الثلاثة الأخيرة راعهم قدر الإخفاق المعرفي، الذي لازم كثيراً من ساكني البيت الأبيض.

العكس تماماً كانه جيفرسون، وهو ما يوضحه بجلاء الوكيل السابق لكلية الآداب جامعة المنصورة المصرية فاروق عبدالمعطي، في مؤلفه الشائق "توماس جيفرسون/ الفيلسوف العالم".

يحدثنا البروفيسور المصري عن أنه ما من شك في أن جيفرسون فاق كل معاصريه من الأميركيين، وربما من الأوروبيين أيضاً في نزعته العالمية كإنسان وذلك من دون أن نتساءل عن مدى الصدق في أفكارهم السياسية.

كان ظمأه إلى المعرفة لا يمكن أن يطفأ، فاهتمامه بكل اختراع جديد نافع كان يوازي اهتمام المخترع والمفكر الأميركي الشهير بنجامين فرانكلين إن لم يزد.

وكلما أمعن المرء في قراءة خطاباته وما خلف من سجلات ازداد عجبه من أن شخصاً فرداً استطاع أن يجد الوقت والنشاط اللذين يزاول فيهما كل نواحي اهتماماته المنوعة.

أظهر جيفرسون اهتماماً خاصاً بالحرية، وتوقف كثيراً عند عبارة "الحرية هي الابنة الكبرى للعلم".

كان جيفرسون من أبناء رواد الحدود والمتنورين في القرن الثامن عشر، ذلك القرن الذي كان يعتبره هو وجون أدامز بداية حقبة جديدة في النظر إلى الشؤون الإنسانية.

وعلى رغم علاقات جيفرسون الشخصية الوثيقة بكبار المفكرين في أوروبا عامة، وفي فرنسا بنوع خاص، والتي أفاءت عليه متعة عظيمة، فإنه كان يعطف عطفاً شديداً على سواد الناس الذين زار أكواخهم وشاركهم طعامهم. كان حبه للشعب الذي ما قامت التنظيمات الاجتماعية إلا لتحقيق رفاهيته، وإيمانه بأن الإرادة الشعبية هي الأساس لكل عمل سياسي مشروع، يدفعانه إلى الشك في كل تقدم يحرز في ميادين المعرفة والفنون، ويخلف عامة الشعب يرزحون تحت وطأة البؤس والانحطاط.

لقد عبر جونسون في مشروعه عن أفضل وأصدق تعبير، لجهة العلاقة المتزنة بين رخاء الشعب من ناحية وممارسة الفنون والعلوم بدرجة عالية من ناحية أخرى، وهو المشروع الذي تكاد تفتقده الحياة التعليمية في أميركا اليوم.

جيفرسون والقفز فوق التعصب والتحزب

في مؤلفه الشهير "الرئاسة تشريف أم تكليف؟" يتحدث الباحث وعالم السياسة البارز توماس كرونين عن أحد أهم الشروط الواجب توافرها في الرئيس، أي رئيس للولايات المتحدة الأميركية، وهو "القدرة على رفع المعنويات وتوحيد الصفوف".

ليست الرئاسة الأميركية إذاً مجرد وظيفة سياسية أو إدارية، بل إنها تمثل مؤسسة ومنصباً يلمس حياة الأميركيين في السراء والضراء، وفي الأزمات ومراحل التحول. ويجب أن يعمل الرؤساء جاهدين على توحيد قوى الشعب الأميركي، لا سيما في أزمنة النكبات وأوقات النكسات.

هل كان جيفرسون من تلك النوعية من الرؤساء التي يتحدث عنها كرونين؟

المؤكد أنه لا تزال قصة حياة جيفرسون مبهرة جزئياً، لأنه استطاع أن يجد وسائل للاستمرار، وفي أحيان كثيرة استطاع أن ينتصر في مواجهة التحزب والتطرف وعدم الاستقرار الاقتصادي والتهديدات الخارجية.

من هنا يدرك الأميركيون اليوم أن الزعامة السياسية لتوماس جيفرسون تقدر أن تقدم مثالاً للرئيس الذي يستطيع العمل على مستويين، مستوى يزرع الأمل في مستقبل مشرق بينما يحافظ على مستوى آخر على المرونة والمهارة السياسية من أجل رأب الفجوة ما بين المثل الأعلى والواقع بقدر ما أمكن.

تعتبر الإنتلجنسيا الأميركية أن توماس جيفرسون هو الشخص الذي صاغ وصمم أميركا، بل إنه الرئيس الذي شكلت شخصيته الرؤية المتعلقة بما يمكن أن تكون عليه البلاد.

لم يكن جيفرسون يرتاح بعد أن ينتهي من كتابة كلماته أو صياغة أفكاره، فقد كان بناءً ومحارباً. قال أثناء فترة رئاسته الأولى إن "ما هو عملي يجب أن يتحكم في النظري المجرد"، وإضافة إلى ذلك "إن عادات المحكومين تحدد بدرجة كبيرة ما يعتبر التصرف العملي".

لقد وجد الأميركيون في جيفرسون رجلاً ساحراً ورائعاً وكريماً، يعيش سعياً متواصلاً إلى الفوز بمودة كل من يصادف وجوده أمامه في لحظة معينة.

قال جيفرسون ذات مرة لأحفاده "إنه أمر ساحر أن يكون المرء محبوباً من قبل الجميع، والطريقة التي يمكنك بها تحقيق ذلك هو ألا تتشاجر مع أي أحد تغضب منه".

عرف عنه كرهه للجدال وجهاً لوجه، مفضلاً تخفيف زوائد الحديث الخشنة، هذا الأمر الذي دفع بعض الناس إلى الاعتقاد أن جيفرسون متفق معهم، بينما كان يسعى في الواقع إلى تجنب الصراع. لقد دفع ثمناً لهذا الهوس باللطف بين أولئك الذين أساؤوا الظن بتحفظه واعتبروه ازدواجية ونفاقاً.

جيفرسون مثالية أخلاقية لا يوتوبية

هل كان توماس جيفرسون رئيساً يوتوبياً، يعيش أحلام الفلاسفة من عند المدينة الفاضلة لدانتي وصولاً إلى الفارابي؟

أحد الذين توقفوا بالبحث والدرس عن جواب لعلامة الاستفهام المتقدمة، رئيس جمعية العلوم السياسية الأميركية، الأكاديمي والمفكر اللامع، البروفيسور الأميركي تشارلز جونسون، ونجد استفاضة في الشرح والطرح عبر مؤلفه "مقدمة قصيرة عن الرئاسة الأميركية".

يرى جونسون أن مثالية جيفرسون هي مثالية أخلاقية، وليست يوتوبية حالمة. كان يشعر بأن الآراء المستقاة من تاريخ البشر البعيد لا تحقق النجاح لتجربة تمارس في أرض أميركية. كان جد واثقاً من أن بلدان أميركا اللاتينية يمكنها أن تفلح في التخلص من نير الاستعمار الإسباني والبرتغالي، ولكنه كان يشك من دون جدال في مقدرتها على الحكم الذاتي، كما كان يخشى أن يكون مستقبلها تتابع فيه قوى الاستبداد العسكري لفترة طويلة.

كان يدرك أن الفرص التي تحقق قدراً أكبر من النجاح في التجربة بالولايات المتحدة تعتمد على الحوادث التي يمكن أن يعتبرها حادثات ساقها الحظ الحسن أو نعماً تسبغها العناية الإلهية، مثل المحيط العريض الذي يحمي البلد من الحكومات المعادية في أوروبا و"التقاليد الأنغلوساكسونية" المتعلقة بالحريات وعصبيات الطوائف الدينية التي حالت دون الاكتفاء بمذهب ديني واحد محققة بهذا الحرية الدينية، وهذا المقدار الضخم من الأراضي الحرة والمصادر الطبيعية الميسرة مع ما يتبعهما من حرية دائمة في الحركة والاستقلال والحيوية اللذين نشآ عن الحدود.

ومع هذا فقد كان جيفرسون يتوجس خيفة من المستقبل عندما يصبح على البلد أن يتحضر ويتصنع. على رغم أنه كان يقول إنه بوجه عام يميل بطبيعته إلى التعلق بأهداب الآمال وعدم الركون إلى مخاوفه.

جيفرسون ومراجعة الدستور الأميركي

هل طرح جيفرسون قبل قرنين من الزمن بعض الأفكار التي لو تم الأخذ بها لتجنب الأميركيون اليوم كثيراً من العقبات الحياتية، والتي بات من الصعب التخلص منها؟

خذ إليك على سبيل المثال لا الحصر أزمة شيوع وذيوع الأسلحة بين أيدي الأميركيين، والجميع يتعلل بالتعديل الثاني من الدستور الأميركي الخاص في حق الأفراد في حمل السلاح، وتكوين الميليشيات.

وقت كتابة الدستور كانت مخاوف الآباء المؤسسين مردها أن الجمهورية الأميركية الوليدة لم تكن قد نضجت سياسياً، وكان القلق من أن تسيطر الحكومة الاتحادية على حقوق الأفراد، ولهذا كان هذا النص على توفير الحماية الشخصية على هذا النحو في الدستور.

رأى جيفرسون أن هناك ضرورة لمراجعة الدستور مرة كل عشرين عاماً، وأن التأخير في ذلك سيجعل عملية الإصلاح لاحقاً بالغة الصعوبة.

كان جيفرسون يؤمن بحق الشعب في أن يحكم نفسه بنفسه وكما يحلو له، ويؤمن بمقدرة أبناء الشعب على ممارسة هذا الحق ممارسة حكيمة، على شريطة أن يكونوا قد نالوا قسطاً وافراً من التنوير عن طريق التعليم والمناقشة الحرة، وكان إيمانه هذا أقوى من أي إيمان آخر في شرعته السياسية، كما كانت معتقداته السياسية حول صور الحكومة الصحيحة قوية وراسخة كما كافح بمقدرة بالغة لتحقيقها.

غير أن نزعته إلى الوفاق والمواءمة ربما عطلت هذا الإجراء، ولهذا طالما انتقده الدارسون والمؤرخون لأنه لم يقم بمزيد من المحاولات الجادة لينفذ بعد ثورة 1800 الإصلاحات التي نادى بها من قبل.

هل كان جيفرسون من الذين لا يؤمنون بقدسية الدستور الأميركي إذاً؟

مؤكد أنه كذلك، وقد حافظ على تمسكه بالرأي الذي عبر عنه في إعلان الاستقلال والذي يقول إن أبناء الشعب يميلون إلى احتمال الشرور منهم إلى العمل على إصلاحها، وذلك بإلغاء النظم التي اعتادوا عليها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جيفرسون وتحذيرات من ديمقراطية للقلة

يكاد من يقرأ ما كتبه الأكاديمي الأميركي مايكل بارنتي، في مؤلفه الشهير "ديمقراطية للقلة"، أن يقطع بأن جيفرسون كان أول من نبه إلى إشكالية المواءمة بين النصوص القانونية من جهة، والأحداث ومجرياتها ونوازلها من جهة ثانية.

أعلن جيفرسون غير مرة أن "القوانين والمبادئ يجب أن تسير جنباً إلى جنب مع العقل البشري في تقدمه". وأن "النصوص يجب أن تتغير بتغير الظروف التي تخلقها المكتشفات والحقائق الجديدة، عطفاً على تغير الآراء والعادات".

يرى البعض أن جيفرسون لو كان حياً اليوم لثار على الجمود الذي لازم الدستور الأميركي حتى الساعة باعتباره "تابوت العهد الأميركي الذي لا يجب أن يلمس".

كان جيفرسون من المؤمنين بأن ترميم القانون الطبيعي بين حين وآخر هو البديل الوحيد لتغييره بالقوة، وإعادة الدورة التاريخية القديمة "ظلم... ثورات... إصلاحات... هدوء نسبي... توتر... قلاقل... ظلم..." وهكذا دواليك.

كان الأمر الوحيد الذي يرى أنه لا يمكن تغييره هو "حقوق الإنسان الفطرية" التي لا يمكن التصرف فيها أو التلاعب بها.

ولعل الذين قدر أو سيقدر لهم الغوص العميق في كتابات جيفرسون سيكتشفون عند لحظة بعينها أن الرجل كانت لديه مخاوف حقيقية من تجبر وتكبر الحكومة المركزية في واشنطن.

هل كان جيفرسون يمتلك قولاً وفعلاً عين اليمامة التي من خلالها استشرف قادم النظام الأميركي، والذي باتت جماعات الضغوط تتحكم بل تتلاعب به؟

ربما يمكننا اعتبار الرئيس أيزنهاور، الخليفة المباشر لجيفرسون، الذي صارح الشعب الأميركي في خطاب الوداع في 17 يناير (كانون الثاني) 1961، بالمخاوف الخاصة نفسها بالتحكم في الدولة المركزية والحكومة الاتحادية، من قبل عصبة بعينها، ترفض الاقتراب من الدستور الأميركي بأي تغيرات، لتحقيق مصالحها الخاصة.

كانت كلمات جيفرسون وخطاب إيزنهاور الخطوط التي لم يتنبه لها جون كيندي، ليلقى حتفه في قضية غامضة، وإن كان الجاني معروفاً للأميركيين من وقتها.

جيفرسون ملهم الرؤساء الأميركيين

لم تكن إلهامات جيفرسون لتغيب عن أعين الرؤساء الأميركيين وأفكارهم، فعلى سبيل المثال وفي عام 1948 تحدث الرئيس هاري ترومان في حشد من مواطنيه بولاية تكساس مستعيناً بكلمات جيفرسون قائلاً "لديَّ إيمان عميق بشعب هذا البلد. أؤمن بحبهم السليم. إنهم يحبون الحرية، وحبهم للحرية والعدل لم يمت. يؤمن شعبنا الآن كما آمن جيفرسون أن الناس لم يولدوا وعلى ظهورهم سروج ليمتطيها قلة من المحظوظين".

ويومها أضاف ترومان "نحن نؤمن كما آمن جيفرسون أن الله وهب لنا الحرية، نحن نحمي حريتنا ضد هؤلاء الذين يهددونها في الوطن. لن نسلم ديمقراطيتنا إلى ديكتاتورية اليسار، ولن نسلمها إلى طغيان أصحاب الامتيازات الخاصة".

وفي الأيام الأخيرة من رئاسته وبالتحديد في ديسمبر (كانون الأول) من عام 1988 سافر الرئيس رونالد ريغان إلى جامعة السيد جيفرسون في فرجينيا ليتحدث أمام الطلاب.

بعد أن أثنى على "عبقرية التغيير" عند جيفرسون، قال ريغان "إن السعي نحو العلوم ودراسة الأعمال العظيمة وتقدير قيمة البحث هي باختصار فكرة عيش حياة العقل - نعم، تلك المبادئ التكوينية والملزمة للتعليم العالي في أميركا وجدت فيه المدافع الأول والأقوى، وهو الذي جسدها، هذا الرجل الطويل والأشقر والودود الذي أشرف على بناء هذه الجامعة من على الجبل الذي كان يعيش فيه، الجامعة التي قال عن بنائها إنه تتويج لحياة طويلة عاشها بإخلاص".

المؤكد أنه من روزفلت إلى ريغان ألهم جيفرسون الرؤساء فهماً مختلفاً للحكومة وللثقافة، ولكن جيفرسون لم يتغير، إنما وطنه هو الذي تغير، سار في هذا الاتجاه أو ذاك. لقد كان جيفرسون هو القدوة من جيل إلى جيل، ومن سياسة إلى سياسة، ومن رؤية إلى رؤية، يتم الحديث عن براعته الأدبية مثلما يتم الحديث عما فعله عندما أمسك بدفة القيادة ووجه أميركا وسط العواصف.

كان هناك شيء واحد ثابت في فهم خلفاء جيفرسون له، لقد اعتقدوا في قوة الكلمات في الحياة العامة، وفي تشكيل الرأي العام، وآمنوا بمركزية السلطة الرئاسية في الحفاظ على الوطن آمناً وقوياً في أشد الأوقات صعوبة.

عاش جيفرسون في النور، ورحل عاشقاً للضياء دائماً وأبداً.

المزيد من تقارير