Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من لم يمت بالقصف فبالفرار... حكاية جدة سودانية

لقيت حتفها حزناً في القطار المسافر إلى الشمال وآخرون دفنوا في بيوتهم بالخرطوم لتعذر الوصول إلى المقابر 

تحول صراع السلطة في الخرطوم إلى معارك دامية تهدد بجر البلاد إلى أتون حرب أهلية طويلة وأزمة إنسانية طاحنة (أ ف ب)

ملخص

لا تزال جثث الموتى ترقد في شوارع الخرطوم بعد تعثر الوصول إليها، وقد دفن بعضها داخل المنازل لصعوبة الوصول إلى مقابر المدينة، في حين مات آخرون بمضاعفات الحزن قبل نهاية رحلة النجاة، وتلك هي الحكاية

تعددت مظاهر الأسى وسيناريوهات الفواجع خلال حرب الخرطوم الأخيرة التي لم تترك في كثير من أحياء المدينة سوى مشاهد الدمار والحريق وأصوات الرصاص والجثث، حتى بات الموت على كل باب ممكناً في كل لحظة وبكل الأشكال.

ولا تزال جثث الموتى ترقد في الشوارع بعد تعثر الوصول إليها، وقد دفن بعضها داخل المؤسسات والمنازل لصعوبة الوصول إلى المقابر، في حين مات آخرون بمضاعفات الحزن قبل نهاية رحلة النجاة.

بيوتهم هي قبورهم

تتوالى حكايات من صارت بيوتهم قبورهم لصعوبة وصول الجثامين إلى المقابر بسبب خطورة الوضع الأمني جراء حدة المعارك واحتدام القتال الضاري بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.

ولم تكن حادثة دفن الطالب خالد الطقيع الذي ظل عالقاً لثلاثة أيام مع مجموعة من الأساتذة والطلاب بجامعة الخرطوم، وقتل برصاصة طائشة وتم دفنه داخل مباني كلية الهندسة، هي الوحيدة، فقد انتشرت نهاية الأسبوع الماضي على نحو صدم المجتمع السوداني صور ومقاطع عدة على مواقع التواصل الاجتماعي لمجموعة صغيرة من الأطباء وهم يدفنون زميلتهم ماجدولين يوسف غالي متخصصة التخدير وشقيقتها طبيبة الأسنان ماجدة في فناء حديقة منزلهما بالخرطوم لتعذر نقل الجثمانين للدفن في المقابر.

أما الموت كمداً فتجسده قصة الجدة (عواطف) التي عصف بها الهم حتى جفت عروق جسدها النحيل ليقابلها الموت الذي فرت منه مع أبنائها وبناتها وأحفادها، ويخطف الحزن روحها داخل القطار المصري عند مدينة الأقصر في صعيد مصر، لتدفن في مقابر المدينة ويودعها الأبناء عند قبرها ثم يواصلون رحلتهم من دونها إلى العاصمة المصرية القاهرة.

من الموت وإليه

يروي عبدالمجيد الزين حفيد الجدة المفجوع لـ"اندبندنت عربية"، تفاصيل رحلة الأحزان والترويع من حي أبوسعد بأم درمان إلى وادي حلفا على الحدود الشمالية مع مصر، حيث بدأت تفاصيل الرحلة الأصعب بالخروج من منطقة أم درمان إلى منزل الجد الكبير في أم مبدة، تمهيداً للانتقال عبر رحلة أخرى فرعية إلى منطقة سوق قندهار حيث موقف الباصات والحافلات المغادرة إلى وادي حلفا.

 

 

تحرك الزين بعربة صغيرة للوصول إلى منزل جدهم في منطقة أم مبدة، سلك خلالها طرقاً ترابية متعرجة لتفادي نقاط ارتكاز قوات الدعم السريع المنتشرة على الأرض هناك.

يصف الزين المشاهد طوال الطريق وبعد خروجه بأمتار معدودة من الحي الذي يقطنه بأنها كانت "فظيعة وتثير الفزع والجزع والغثيان أحياناً"، فقد مر الحفيد بأكثر من سيارة ملاكي محترقة بداخلها ثلاث جثث محترقة ومتعفنة، وقد قام بعض الأهالي بوضع بعض فروع الأشجار الشوكية حول العربة حتى لا تصل الكلاب إلى الجثث المهترئة.

مشاهد رحلة الفزع

وتوالت المشاهد المفزعة وتكرر المشهد نفسه على بعد أمتار أخرى من الفناء الخلفي لمحطة الإرسال الإذاعي والتلفزيوني بمنطقة الفتيحاب الشقلة، أو ما يعرف بمنطقة المثلث، حيث وقفت سيارة صغيرة أخرى وعلى خزانتها الخلفية المفتوحة بعض الجثث المنتفخة.

وعلى رغم الاضطراب الذي لازمه بسبب تلك المشاهد، فإنه واصل رحلته متجاوزاً تلك المناطق ومتخفياً داخل الشوارع الفرعية الضيقة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في طريقه من حي أبوسعد إلى وجهته في حارة أم مبدة شاهد الزين من بعيد مجموعات من قوات الدعم السريع توقف عربات المواطنين وتفتشهم، وتستولى على بعض ممتلكاتهم وأموالهم وأحياناً سياراتهم، وأي محاولة للاحتجاج تعرض صاحبها لرصاصة مباشرة في الرأس.

بعد رحلة التخفي المأسوية عبر الأزقة والشوارع الترابية وصل الزين إلى دار الأسرة الكبيرة، وخبأ عربته داخل فناء المنزل الطيني العتيق وبدأ ترتيبات الحصول على تذاكر السفر له ولأفراد أسرته بمن فيهم جدتهم.

مأساة الجدة عواطف

كانت الجدة في أتم صحتها لكنها باتت مسكونة بحزن كبير ألزمها الصمت والذهول وكأنها لا تصدق ما يجري حولها من استعدادات لمغادرة الديار، تهمهم بالدعوات أن يحفظ الله البلاد والعباد، ومن سوق قندهار انطلقت الرحلة الطويلة للفرار من الموت إلى وادي حلفا.

أثناء الرحلة ومع تحرك "الباص" لاحظ الزين أن جدته باتت شديدة التوتر والقلق لدرجة أنها لم تعد تتناول وجباتها كما يجب، لكنها كانت تؤكد لهم كلما سألوها أنها بخير، كما أن صحتها كانت تبدو متماسكة وتتمتع بحيوية جيدة.

أمضت الأسرة ليلتها الأولى في الطريق، والثانية في إحدى المدارس بمدينة حلفا، ثم واصلت رحلتها إلى معبر أبوسمبل حيث باتوا ليلتهم الثالثة هناك، وتوجهت صباحاً إلى مدينة أسوان الحدودية داخل مصر في اليوم الثالث.

 

 

استقلت الأسرة القطار متوجهة إلى القاهرة، لكن يبدو أن صحة الجدة المسنة بدأت في التداعي ولم تحتمل رحلة الأيام الثلاثة وهي في هذه الحال من الحزن المطبق وشبه الصيام.

كانت تتحدث بحسرة مفرطة عما آل إليه حال الخرطوم من خراب ودمار في آخر الزمان، ولا تكاد تستوعب أنها خرجت من دارها التي ولدت وترعرعت وعاشت فيها زهاء 80 عاماً.

عند مدخل مدينة الأقصر في صعيد مصر انهارت الحاجة عواطف على نحو مفاجئ، مما اضطر الأسرة إلى مغادرة القطار والنزول والتوجه بها إلى مستشفى المدينة.

قطار الفراق

فارقت الجدة عواطف الصامدة المصدومة الحياة، وانتهت حياتها قبل أن تبلغ نهاية رحلة الفرار من الموت في أتون جحيم الخرطوم. وأكد الأطباء أن سبب الوفاة هو تعرضها لجفاف شديد.

ألجمت فاجعة الموت كل الأسرة وشلت تفكيرها، لكنهم لم يجدوا مناصاً من دفنها في مقابر الأقصر بعد إتمام إجراءات الدفن بتعاون وتعاطف وموافقة سلطات المدينة، ثم لملمت الأسرة أحزانها واستقلت القطار التالي إلى القاهرة وسط الدموع ومشاعر الحزن والمرارة، وكأنها دفنت بعض أصولها وجذورها وتاريخها في الأقصر قبل أن تواصل الطريق.

تكن أسرة عواطف مشاعر عميقة من الامتنان لطاقم مستشفى الأقصر والمسؤولين بالمحافظة، لمساعدتهم بتعاطف كبير في مواراة جثمانها هناك.

وما عواطف إلا قطرة في بحر الضحايا الذين لا يزالون يملأون شوارع الخرطوم، حيث ارتفعت حصيلة قتلى الاشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل (نيسان) الماضي إلى 676 قتيلاً في الأقل و5576 جريحاً، بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في السودان (أوتشا) حتى 14 مايو (أيار) الحالي.

وقال المكتب في بيان له إن الاشتباكات والمعارك استمرت لـمدة 30 يوماً على التوالي من دون انقطاع، لا سيما في الخرطوم وحولها، مما أسفر أيضاً عن نزوح أكثر من 936 ألف شخص، بما في ذلك 736 ألف شخص نزحوا داخلياً منذ بدء المعارك، وعبر نحو 200 ألف الحدود إلى الدول المجاورة، وفق المنظمة الدولية للهجرة، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

انتهاكات خطرة

إلى ذلك أعربت المفوضية القومية لحقوق الإنسان، في بيان لها حول تطورات الأوضاع بالسودان في ظل النزاع المسلح الذي دخل شهره الثاني، عن بالغ أسفها للانتهاكات الخطرة والجسيمة لحقوق الإنسان التي وقعت في سياق هذا النزاع المسلح، مجددة مطالبتها طرفي النزاع بالوقف الفوري والشامل لجميع الأعمال العدائية، واحترام قواعد القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان وجميع التزاماتهما في هذا الصدد، بما في ذلك إعلان جدة الأخير الموقع بين الطرفين.

 

 

ودانت المفوضية استخدام سلاح الطيران والأسلحة الثقيلة في محيط سكنى المدنيين، وما ترتب عليه من وقوع ضحايا وجرحى في أوساطهم، كما دانت بشدة استهداف مستشفى شرق النيل وما ترتب عليه من سقوط ضحايا وجرحى وتدمير جزئي لبعض مرافقه، وكذلك قصف مدرسة سيد الشهداء بالمنطقة نفسها وغيرها من المنشآت المدنية.

وطالب البيان طرفي النزاع باحترام تعهداتهما في ما يتعلق بحماية المدنيين، بما في ذلك الوقف الفوري لاستخدام الأسلحة الثقيلة وسلاح الطيران داخل الأحياء والمرافق المدنية، مجددة مطالبتها بإخلاء جميع المرافق الصحية والمدنية من جميع المظاهر المسلحة، وعدم استخدامها للأغراض العسكرية أو التعامل معها كأهداف حربية تحت أي من الظروف.

العنف الجنسي

كذلك دانت المفوضية جميع أشكال العنف الجنسي، مطالبة قوات الدعم السريع بالتحقيق الفوري في الحالات الخمس المذكورة في تصريح وحدة مكافحة العنف ضد المرأة، وتقديم كل من يثبت تورطه فيها إلى المحاكمة، مشددة على ضرورة اتخاذ طرفي النزاع جميع التدابير لحماية النساء والفتيات من جميع أشكال العنف الجنسي.

كما لاحظت المفوضية الصعوبات التي يعانيها السكان في ما يتعلق بممارسة حقهم في حرية التنقل إلى خارج مناطق الاشتباكات، بما في ذلك تعرضهم لسوء المعاملة في بعض الحواجز داخل أحياء الخرطوم، وفق الشكاوى والمعلومات التي وردتها.

وتحول صراع السلطة في الخرطوم إلى حرب دامية بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع في 15 أبريل الماضي، مهدداً بجر البلاد إلى أتون حرب أهلية طويلة وأزمة إنسانية طاحنة، باتت تهدد العاصمة السودانية التي لم تهدأ فيها المعارك منذ نحو قرابة الشهر وحتى اليوم من دون أية بارقة أمل لوقفها.

المزيد من تحقيقات ومطولات