Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أزقة طنجة القديمة تعج بأطياف شخصيات عالمية زارتها

في حديقة ماتيس أضواء والوان باهرة... وذكريات عن أفلام وروايات

منظر عام لمدينة طنجة املغربية (يوتيوب)

مصادفة، وحسب، دخلتُ المطعم مع الأصدقاء. أجلسُ، وقبل أن أنظر في قائمة الطعام تستوقفني صورةٌ بالأبيض والأسود: من؟ محمد شكري؟ آه، نعم، هذا أنت هنا؟ يامجنون الورد!

مرحباً، محمد شكري: يبتسم، يتلألأ، مستسلماً للحظته، مغمضاً عينيه، سيجارته في يده، أمامه كأسه، ألمحُ ذلك النادل الذي يظهر خلفه، لابد أنه كارلوس الذي حدثني عنه حسونة المصباحي قبل يومين فقط في طريقنا لحضور موسم أصيلة الثقافي.

 قضيتُ عدّة صباحات وأنا مستغرقة بالتجوال بين أزقة طنجة القديمة أو ما يسمّى بالقيساريات، يتناهى الى سمعي خليط من اللغات: اسبانية وفرنسية وأمازيغية. وأفكر بأهلها الذين قسّمهم قلم شكري إلى: ليليين، ونهاريين. بالأشقياء منهم والشطّار والمجانين وكل أولئك الهامشيين الذين برع بتدوين يومياتهم، بما يتخللها من مآزق وجودية، وحياتية. هو من أعلن ذات مرّة: "أعتقد أن لكلّ كاتب مدينة خاصة به، كازابلانكا لمحمد زفزاف، وطنجة لي أنا وحدي، معها أمضيت عقد زواج كاثوليكي". يعلق على هذه العبارة الكاتب المغربي عبد الكريم جويطي ابن مدينة بني ملّال الساحرة، ويقول: "الأمكنة ماكرة، تنتدب من يتكلم عنها، الأمكنة تخلق الكتّاب، نحتاج إلى مجانين المدن، كلّ مدينة يلزمها مجنون كبير يحملها إلى العالمية".

في الواقع إن "مجانين المدن"، الفاتنين، حظيت بهم أكثر من مدينة مغربية، ألم يفعل ذلك محمد بن عيسى وهو يرسّخ حضور مدينته الصغيرة البيضاء على شاطئ الأطلسي "أصيلة" من خلال افتتانه بها؟ ايضاً حاول عبد الكريم الجويطي نقل جنونه بمدينته من خلال التصاقه بها، ومحاولته الجادة استضافة مدينته بني ملال لمهرجان الشعر المتوسطي الذي توقف لظروف خاصة حالت دون استمراره، لكن الحلم لم يتوقف عند الجويطي صاحب رواية "المغاربة" التي نراها تتصدر واجهات معظم مكتبات مدينتي الرباط وطنجة.

على رغم شهرة طنجة بأطياف الأدباء والمشاهير الذين جذبتهم أمثال: جان جينيه، تينيسي ويليامز، ألبرتو مورافيا، بول بولز، همنغواي، ترومان كابوتي... و كثير من المشاهير الذين ساهمت خطواتهم المترنحة وهم يغادرون حاناتها في آخر الليل برسم لبّ القصّة، أيّة قصّة؟ لعلها رواية، أو سيناريو فيلم، أو مسلسل طويل لا ينتهي، أبطاله يمكنهم أن يكونوا مثيرين للاهتمام، دائماً، جديرين بالتدوين. إن طنجة مدينة تصغي إلى الجميع، قد يكونون على حق، وقد لا يكونون، لكنك أنت، محمد شكري، نعناع شايها، وفستقها. تأسرك هذه المدينة التي تعج بالشخصيات، والوجوه، ستكون كاتباً يهتف كلما مرّ أحد إلى جواره "هذه شخصيتي، أو "هذا بطلي".

نافذة في طنجة

لا أصدق! كم من الوقت كان ينبغي أن يمر لأعلم أنني أشرب الشاي في حديقة الفندق الذي منحت إطلالته كلّ ذلك الضوء المتوحش لأشهر خمس لوحات أنجزها الرسام الفرنسي هنري ماتيس، أحد أشهر التشكيليين في العالم، الذي فجّر في لوحاته ضوء طنجة الزاخر. أعلمُ أن ماتيس هو مؤسس النزعة الفنية التي اشتهرت في بداية القرن السالف، بإسم "الوحشية"، لكن بصراحة فاتني ذلك التفصيل الغني في حياته. حقيقة أنه كان من أوائل المغرمين بهذه المدينة. جاء ماتيس إلى طنجة لتجتاحه ألوانها، التي تنفذ عبر كلِّ المسام. كرنفال من الجمال، روّض "وحشية" تشكيل ماتيس، أشبعته طنجة بنورها، حررت ريشته من عنفها وتناقضها، وعثر على نفسه في مدارات سحرها، تلقف بريق ألوانها: في أزرقها، وأصفرها، وأحمرها، لعله كان هو من حرّك جمالها النائم وأطلق شهرتها في الأوساط الأدبية وهو يقتحم ضباب أوروبا بأضواء لوحته الشهيرة "نافذة في طنجة" في عام 1912. إذاً في فندق فيلا دو فرانس، تحديداً في الغرفة الرقم 35 رسم ماتيس أجمل أعماله ؟ يخبرني بذلك موظف الاستقبال وهو يضع أمامي دفتر الزوار لأكتب شيئاً. إحترت هل أكتب عن الفندق، أم عن الغرفة 35، أم عن تلك النافذة التي تطل على فضاءات المدينة المضاءة بكل الألوان، أم أكتب عن طنجة نفسها؟ كتبت، عدّة سطور، بقلم الافتتان والدهشة والحنين لعوالم "ألف ليلة وليلة" التي تنبثق فجأة وأنت تقطع قيساريات المدينة.أرافق الموظف الذي يحمل مفتاح غرفة ماتيس، ويسبقني بالدخول إلى الغرفة ويلتقط هاتفي النقال ويبدأ بالتقاط الصور لي مع أثاث الغرفة!، هل سيعتاد غير ذلك فيما يرافق الزوار المسلوبين بفكرة أن أقدامهم تطأ عتبة غرفة هنري ماتيس؟

رائع أن تتلمّس التاريخ! هنا كرسي وخزانة وسرير ومرآة... كلّها أشياء شهدت حضور ماتيس الفائق. تنظر عبر النافذة ذاتها وتلتقط المشهد الذي خلده ماتيس في "نافذة في طنجة" الموجودة الآن، في متحف بوشكين للفنون الجميلة في العاصمة الروسية.

أغادر الغرفة، أقطع حديقة الفندق نزولاُ صوب حارات المدينة القديمة وأسواقها ، أتوقف عند بائع الحلزون، وذلك الخباز الذي يخبز رقائقَ بيضاء شهية ويشرح لي عن أكلة "الباسطيلا". أصور فيديو، وألمح صورة كاريكاتورية معلقة على الحائط، أنت هنا محمد شكري مرّة أخرى؟ لا مفرّ منك! تتردد عباراتك الافتتاحية في كتابك "بول بولز وعزلة طنجة" وفيه تقول: "طنجة الأسطورة نعم، هذا الذي لا يُنكر، لكن لمن؟ طنجة - الفردوس المفقود نعم، لأنّ هناك الشاهدين على نعيمها، لكن لمن؟ طنجة - السحر الذي لايقهر، هذا أيضاً، نعم، لكن لمن؟".

أقصد فندق المنزه القريب، أعبر المدخل المزدان بلقطات فوتوغرافية نادرة لزواره أمثال: تشرشل، ريتا هيوارث، أوناسيس، ايف سان لوران، مالكوفيتش. أطلب الشاي الأخضر بالنعنع أو "الأتّاي" باللهجة المغربية، مع حلوى قرن الغزال، وتستوقف بصري لافتة تشير إلى تاريخ فندق المنزه "1930". كيفما تنقلت، عراقة وتاريخ وسحر، أفكر أني حالما أعود إلى غرفتي سأدوّن شيئاً، سأكتب عن طنجة، ولكن مرّة أخرى يقفز إلى ذهني شكري وأتذكر ما ذكره حول هذا الموضوع بالتحديد: "ما أكثر الذين تكلموا أو كتبوا عن طنجة فقط من خلال أهوائهم، وملذاتهم، أو نزواتهم أو استجمامهم أو حاولو نسيان شقائهم فيها. إن أكثرية ما يٌكتب عن طنجة، اليوم، هي كُتُب - بطاقات بريدية. قد يمكث في طنجة كاتب ما، أسابيع ويكتب عنها كتيباً متبجحاً بما يعرفه عن خفاياها، وجغرافيتها السرّية، وأمجادها الغابرة، والمشاهير الذين عاشوا فيها أو مرّوا بها".

"طيب ، طيب يا شكري لا بأس اسمح لي بالرضوخ لسحر الكتابة عن طنجة، سأغافلك، لا شأن لك، سأكتب".

أنتشل نفسي من استرخاء طنجة وأقصد مغارة هرقل قرب رأس اسبارطيل حيث يلتقي ماء أبيض المتوسط وأزرق الأطلسي، يدوخني سحر منطقة البوغاز، هممت بالدخول عبر تلك السراديب الصخرية الرهيبة المؤدية إلى مسكن هرقل الذي فصل القارة الافريقية عن الاوروبية بضربة بقبضة يده- كما تقول الميثولوجية العتيقة- أتوقف عند بائع التذكارات السياحية، وينبثق شكري مع ابتسامته الساخرة بين التذكارات، أبتسم، أعبر البوابة الاسطورية صوب الماضي الملغز والمحيّر، مما يدفعك لتسأل نفسك، ما كل هذا الجمال؟

وداعاً طنجة، واصل يا شكري حضورك، فأنت حقّاً تزوجت طنجة زواجاً كاثوليكياً، لن يتكبد أحد استعادتك من النسيان. حاضرٌ أنت كما كلّ جمالها وألوانها، وبحرها ومحيطها.

المزيد من منوعات