Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السودان ومشكلة الجنوب... وحدة مريرة وانفصال أمر

محللون: ربما تأتي في المستقبل ظروف تعيد اللحمة بين البلدين من خلال تفاهم أو نوع من العلاقة السياسية

كانت قضية الجنوب أحد العوامل الرئيسة في تدخل الجيش وانقضاضه على الحكم الديمقراطي في السودان (أ ف ب)

ملخص

قضية الجنوب ظلت عصية على الحلول منذ استقلال السودان بسبب عدم استجابة الحكم الوطني لمطالب الجنوبيين، فإلى أين وصلت؟

على رغم مرور قرابة السبعة عقود على استقلال السودان، الذي تعاقبت على حكمه ثلاثة حقب عسكرية لمدة 52 عاماً مقابل 15 عاماً من الحقب الديمقراطية والانتقالية، فإن التحديات التي واجهته منذ تحرره من المستعمر في 1956، وتشمل الدستور ومشكلة الجنوب ومعضلة التنمية، لم تراوح مكانها قيد أنملة، بل فقدت البلاد ثلث مساحتها بانفصال جنوب السودان، فضلاً عن فقدها تسعة ملايين نسمة من عدد سكانها المقدر بنحو 40 مليوناً، بجانب افتقادها ما بين 60 و80 في المئة من ثروتها النفطية التي كانت تشكل أكثر من 70 في المئة من إجمالي الدخل القومي، نتيجة فشل جميع الحكومات المتعاقبة.

ثلاثة خيارات

والمتتبع لمسيرة الحكم في السودان منذ استقلاله وحتى اللحظة سيجد أنها اتسمت بالصراعات الأيديولوجية بين أحزاب اليمين واليسار، حيث أخفقت الأحزاب بتياراتها المختلفة في الاتفاق على صيغة توافقية بينها حول مختلف القضايا، وهو ما انعكس على مشكلة الجنوب التي ظلت عصية عن الحلول طوال العهود الشمولية والديمقراطية بسبب عدم استجابة الحكم الوطني بعد الاستقلال لمطالب الجنوبيين المتمثلة في منحهم نظام الفيدرالية خوفاً من أن يؤدي إلى الانفصال، بيد أن مخطط الاستعمار لجنوب السودان كان مبنياً على ثلاثة خيارات، الأول فصله عن الشمال وضمه إلى أوغندا، الثاني إنشاء إدارة فيدرالية للجنوب وضمه للشمال، والثالث ضم الجنوب للشمال ليصبح أحد أقاليمه المختلفة.

هذه المشكلة (قضية الجنوب) كانت أحد العوامل الرئيسة في تدخل الجيش وانقضاضه على الحكم الديمقراطي، لأنها تسببت في تأزم الأوضاع الداخلية بالبلاد واتساع غضب الشعب مما يجري في المشهد السياسي، لكن في المقابل فإن الحقب العسكرية اتبعت سياسة الأرض المحروقة في التعامل مع مشكلة الجنوب، فالفريق إبراهيم عبود الذي تسلم السلطة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1958 تبنى الحل العسكري لإنهاء هذه المشكلة، إذ أصدر قانون تنظيم الهيئات التبشيرية، وطرد جميع موظفيها من الجنوب عام 1963، وألغى عطلة الأحد الرسمية واستبدلها بيوم الجمعة. كما انتهج سياسة الأسلمة والتعريب من منطلق أنها ستكون حلاً لهذه المشكلة.

على أثر ذلك تنامى شعور الجنوبيين بالغبن فاتجهوا خلال هجراتهم الجماعية إلى دول الجوار الأفريقي لتأسيس أحزاب سياسة تعبر عن مواقفهم ورؤيتهم في ما يخص قضية الجنوب، وكان من أبرزها الاتحاد السوداني الأفريقي لجنوب السودان (سانو) الذي أرسل عام 1963 مذكرة إلى الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية طالب فيها باستقلال جنوب السودان وحق تقرير المصير ومتابعة دولية لمعالجة قضية الجنوب.

حركة "الأنانيا"

في ضوء هذه التحركات واجهت حكومة عبود ضغوطاً ونشاطاً سياسياً مكثفاً من قبل المعارضة الجنوبية بقيادة حزب "سانو"، كما ظهرت حركة "الأنانيا" التي شنت حرب عصابات في مديريات الجنوب الثلاثة، ما أدى إلى تدهور الوضع الأمني، فاندلعت انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) 1964 التي أجبرت حكومة الفريق عبود على الاستقالة وحل المجلس العسكري والدخول في مفاوضات مع القوى المدنية أفضت إلى تشكيل حكومة انتقالية برئاسة سر الختم الخليفة، الذي تعاطفت حكومته مع المعارضين الجنوبيين وأبدت تسامحاً كبيراً ضمت بموجبه اثنين من أبناء الجنوب إلى عضويتها.

كما أعلنت العفو العام عن المتمردين ودعت إلى مؤتمر عقد في مارس (آذار) 1965 بجوبا عرف بمؤتمر "المائدة المستديرة" لإيجاد حل لمشكلة الجنوب، حيث برزت خلاله رؤيتان متنازعتان لدى الجنوبيين، الأولى الاتحاد بأن تقوم دولة شمالية وأخرى جنوبية ولكل منهما برلمانها وسلطاتها وحريتها في معالجة جميع القضايا الاقتصادية والخدمية وغيرها، على أن يكون للجنوب جيش تحت قيادة موحدة  للدولتين، والثانية الانفصال ويقف وراءها الجنوبيون الأكثر راديكالية، وهو ما زاد من حال عدم الثقة بين الجنوب والشمال والوصول إلى طريق مسدود. من هنا استعرت حرب الجنوب بتشكيل حكومة في المنفى تمثل الجناح المدني لحركة "الأنانيا" التي وجدت تعاطفاً من المجتمع الولي.

حكم ذاتي

أما في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري (1969 - 1985) فقد أعلن بعد شهر من حكمه الاعتراف بالتباين والفوارق بين شمال السودان وجنوبه، وحق الجنوبيين في أن يطوروا ثقافتهم وتقاليدهم في نطاق سودان اشتراكي موحد، مما يشكل نقطة تحول كبرى في سياسات الشمال تجاه الجنوب.

كما وقع نظام نميري في 1972 اتفاقية أديس أبابا التي تمخضت عن وقف لإطلاق النار وحكم ذاتي إقليمي بإنشاء جمعية تشريعية ومجلس تنفيذي عال ومؤسسات حكم إقليمي في الجنوب، واستيعاب ستة آلاف من قوات "الأنانيا" في الجيش السوداني، لكن الاتفاقية وجدت معارضة واسعة من بعض القوى السياسية والقوميين العرب من السودانيين ودعاة الانفصال من الجنوبيين فلم تصمد طويلاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بحلول 1983 تفجر الوضع في الجنوب بسبب الاحتقان من جراء إعلان النميري تطبيق الشريعة الإسلامية في عموم البلاد، حيث رفضت فرقة عسكرية في مدينة واو الجنوبية الأوامر الصادرة بالانتقالات إلى الشمال واغتالت الضباط الشماليين وفرت بعتادها إلى الغابة، وهكذا بدأ التمرد الثاني لـ"الأنانيا" وحينها أرسلت حكومة الخرطوم ضابطاً جنوبياً برتبة عقيد يدعى جون قرنق لإثنائها عن ذلك التمرد، لكنه انضم إليها مؤسساً الجيش الشعبي لتحرير السودان.

أما في حقبة نظام الرئيس السابق عمر البشير (1989 - 2019) فحدثت مفارقات وتحولات في قضية الجنوب قادت في نهاية المطاف إلى انفصاله، ففي بداية هذه الحقبة قام النظام بإنشاء قوات الدفاع الشعبي وقوامها من المتطوعين، استجابة لإعلان الحكومة الحرب ضد الحركات المتمردة الجنوبية، لكن سرعان ما اتجهت حكومة البشير إلى التفاوض عبر عدد من المحاولات في فرانكفورت وأبوجا لتكلل الجهود الدولية من خلال منظمة "الإيغاد" بتوقيع اتفاق إطاري باسم "بروتوكول ماشاكوس"، يوليو (تموز) 2005، أعطى للجنوب حكماً ذاتياً لمدة ست سنوات، مع حق تقرير المصير، وفرصة للجنوبيين للتفكير في الانفصال.

انتهت هذه الجهود بالتوقيع على اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا، التي وضعت حداً للحرب الأهلية، ومنحت الجنوب حكماً ذاتياً ومشاركة في الحكم المركزي، فضلاً عن تنظيم استفتاء حول الوحدة أو الاستقلال، وهو ما جرى بالفعل في التاسع من يناير (كانون الثاني) 2011، حيث صوت 98.83 في المئة من سكان جنوب السودان لصالح الانفصال.

علاقة متنافرة

يوضح الكاتب السوداني عبدالله آدم خاطر أن "الاهتمام بالجنوب كجزء من الجغرافية المهمة لحكام السودان برز إبان فترة الحكم التركي والحكم الثنائي البريطاني– المصري، لذلك فإن وجود الجنوب في خريطة السودان السياسية والاقتصادية والاجتماعية لم يكن بمجهود السودانيين، أو بالمجهود المشترك بين الشماليين والجنوبيين، مما جعل العلاقة بينهما متنافرة منذ نشأتها.

وتابع خاطر "كانت أول محاولة لأن يكون الجنوب جزءاً من السودان في (مؤتمر جوبا) 1948، الذي شارك فيه عدد من السياسيين ورجالات الإدارة الأهلية من الشمال والجنوب، إذ أفشل مقترحاً بأن يكون الجنوب جزءاً من شرق أفريقيا، وتمسك الجنوبيون بخيار الفيدرالية، ووضعوا عليها آمالهم بإدارة شؤون إقليمهم، وهو ما عزز وسرع استقلال السودان".

وأردف "المؤسف أنه تمت وحدة السودان من دون تدابير فيدرالية لتصبح القاعدة الجديدة لعدم الثقة وعدم توفر المناخ المناسب بين السودانيين بخاصة في الجنوب، من هنا بدأت حركة الشكوك والتفكير في الخروج من دائرة الطاعة للدولة السودانية، وجاءت أحداث 1955 لتشكل مدخلاً للتمرد الأول في الجنوب، وتطور الأمر حتى تم الاتفاق على توقيع اتفاقية أديس أبابا عام 1972 بين الحكومة السودانية وحركة (الأنانيا)، ونصت على منح الجنوب حكماً إقليمياً ذاتياً، واستمرت الاتفاقية لمدة 10 سنوات حين حدث تمرد جديد، لتبدأ التداعيات والمفاوضات مع الحكومات المختلفة، ديمقراطية وعسكرية".

ومضى الكاتب السوداني قائلاً "من المفارقات أن حكومة البشير السابقة، التي كانت مستعدة لفرض سيطرتها على الجنوب بالقوة، توصلت إلى أنه لا سبيل لحل هذه المشكلة إلا عن طريق التفاهم عبر الاتفاقيات، وهو ما حدث في نهاية المطاف ليصبح الجنوب دولة مستقلة، ومع أن اختيار الجنوبيين للانفصال هو حق مشروع، فإنه ربما تأتي في المستقبل ظروف تعيد اللحمة بين البلدين من خلال تفاهم أو نوع من العلاقة السياسية، سواء كونفيدرالية أو أي شكل من أشكال العلاقات، بخاصة أنهم اختاروا اسم دولتهم (جنوب السودان) حتى لا يفقدوا الصلة بالسودان الشمالي.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير