Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وثيقة السياسة الخارجية الروسية... ما الذي يعرقل موسكو؟

منذ تدخلها العسكري في أوكرانيا تتحدث صراحة عن إعادة التوازن للنظام العالمي لتصبح قطباً ضمن أقطاب محركة للتطور الدولي على نسق الاتحاد السوفياتي

نظام دولي متعدد الأقطاب هو شكل العالم الذي تسعى روسيا إلى تحقيقه (أ ف ب)

ملخص

موسكو ترى أن توازنات القوى الدولية الراهنة لا تجعل من المنطقي استمرار هيمنة الولايات المتحدة التي عرفها العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي

حظيت الوثيقة التي أصدرتها موسكو في نهاية مارس (آذار) الماضي بقدر من الاهتمام العربي، وإن بدا غير كاف، ومع ذلك لا يمكن تجاهل بعض الكتابات الصحافية ومن أهمها دراسة نشرها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية التابع لمؤسسة الأهرام في مصر، فتلك الوثيقة، فضلاً عن أهميتها في فهم وبلورة الاستراتيجية التي تتبناها موسكو اليوم في سياستها الخارجية، فإنها أيضاً تثير قضية كبرى في الفكر وفي الحياة حول ما تمثله وثائق السياسة الخارجية للدول من محاولات لتشكيل العلاقات الدولية أو العالم، وعرفنا تاريخياً بعض نماذج هذا في وثائق أو تصريحات واضحة، مع أن أغلب التطورات كانت تحدث بناء على تحركات ضمنية بأكثر من طروحات صريحة.

رؤية متبلورة

يتضح مما نشرته المصادر المختلفة ومنها دراسة مركز الأهرام سابقة الذكر أن الطرح الروسي لا يقتصر على رؤية لأهداف السياسة الخارجية، وإنما يتجاوز هذا لطرح شامل حول طبيعة العالم الذي تراه موسكو أفضل للبشرية ولمصالحها، ولن نعيد هنا عرض ما سبق لآخرين عرضه بالتفصيل، وإنما يمكن تصنيف ما يتعلق بطروحات إعادة صياغة العالم في أبعاد عدة.

البعد الأول الذي يعنينا بشكل خاص يتعلق بالطرح المتبلور حول شكل العالم الذي تسعى روسيا لتحقيقه، وهو نظام دولي متعدد الأقطاب، وهي رؤية سبق لموسكو طرحها منذ فترة ثم أعلنتها واضحة منذ بدأت حربها في أوكرانيا التي سمتها "العملية العسكرية الخاصة"، وفي طروحاتها منذ أشهر عدة تتحدث عن أن توازنات القوى الدولية الراهنة لا تجعل من المنطقي استمرار هيمنة الولايات المتحدة التي عرفها العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن موسكو أيضاً بلورت في هذه الوثيقة أفكاراً سبق لها طرحها حتى في زمن الاتحاد السوفياتي السابق، وعادت إليها اليوم ومن بينها اتهام النموذج الاقتصادي الغربي بالاستعمارية الجديدة، وذلك عبر انتهاج الدول الغربية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، نموذجاً غير متوازن للتنمية العالمية تحقق لها النمو الاقتصادي المتقدم من خلال الاستيلاء على الموارد الخام للدول الأخرى.

وفى هذا البعد تحديداً تجاهلت موسكو الاتهام الغربي لبكين بأنها تحتكر المواد الخام الأفريقية، وهو اتهام حقيقي لكنه يعكس المعايير المزدوجة الغربية، حيث إن لها الباع الأكبر بهذا الصدد، وبصرف النظر عن هذا الجانب، فإن موسكو قد عادت هنا إلى مفاهيم سبق لها تبنيها خلال عهودها السابقة مشتركة مع طروحات مفكري آسيا وأفريقيا وطروحات الجنوب عموماً، وفي هذا الإطار تحدثت الوثيقة عن تكافؤ الفرص في التنمية لجميع الدول وحقها في اختيار نموذج التنمية والنظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الخاص بها ونبذ سياسات الهيمنة.

البعد الثاني في هذه الرؤية يتعلق بالتحديد الواضح والصريح بأن الولايات المتحدة هي المحرك الرئيس والمصدر الأساسي للسياسة المعادية لروسيا وأكبر تهديد يواجه العالم وتطور البشرية. هنا يصبح لدينا وثيقتان رسميتان من واشنطن وموسكو، وكل منهما يعتبر الآخر العدو الاستراتيجي والخصم الرئيس، ونذكر هنا أن الوثائق الرسمية الصينية وآخرها ما صدر منذ أشهر قليلة تنفرد بأنها لا تعلن خصومة ضد أحد، بل تطرح رؤية لإعادة بناء العالم على أسس سلمية ولا تتضمن المواجهة ضد أحد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ضمن تصورات إعادة صياغة العالم أيضاً ما تضمنته الوثيقة في شأن الفضاء الإلكتروني، بما في ذلك تطوير فضاء آمن للمعلومات وضمان تشغيل وتطوير الإنترنت بشكل آمن ومستقر على أساس المشاركة العادلة للدول في إدارة شبكة الإنترنت ومنع السيطرة الغربية على قطاعاتها الوطنية.

بعبارة أخرى صورة العالم الذي تطرحه موسكو -من وجهة نظرها- أكثر عدلاً سياسياً واقتصادياً وثقافياً ورقمياً كذلك، وفي إطار هذا تطرح مفارقة أخرى، فهي تريد عالماً تعود فيه قطباً في عالم متعدد الأقطاب سياسياً أي يواصل منطق الكبار في مواجهة الأغلبية، لكنها تتحدث عن عدالة، ومساواة ثقافية واقتصادية ورقمية، ومن ثم فهذه العدالة بالنسبة لنا في دول الجنوب نسبية ومنتقصة أيضاً.

مخاوف ثقافية وشعور بالاضطهاد

تضمنت الوثيقة بعداً مهماً وهو أنها كلفت السياسة والدبلوماسية الروسية مهمة مكافحة العداء للروس في مختلف المجالات وهو ما سمته "الروس فوبيا"، وبشكل يندر في وثائق السياسة الخارجية للدول تتحدث الوثيقة عن تراث ثقافي وحضاري روسي، بمعنى أنها تشعر بالتهديد وتؤكد جدارتها ثقافياً كذلك في أن تكون قطباً ثقافياً في العالم.

يعود بنا هذا إلى محنة روسيا عندما انهار الاتحاد السوفياتي ولهثت ثقافياً خلف الغرب، وازدانت شوارعها بمظاهر التغريب الفارغة التي كانت مطاعم الوجبات السريعة الأميركية رمزاً لها وبشكل فج، وظهرت روسيا عارية وفقيرة ومتخلفة لا يقتصر اللهث خلف الغرب على طبقتها الغنية وإنما اتسعت لأغلب طبقات المجتمع.

قوة عظمى أم طرف صاعد؟

قدرنا منذ سنوات أن التدخل الروسي في سوريا كان هو علامة المحاولة إلى العودة للعب دور دولي عالمي وتجاوزها محاولات حصرها في كونها قوة إقليمية، وتلى ذلك تحركات روسية مهمة في ليبيا وأفريقيا، لكن من خلال شركة خاصة استترت وراءها موسكو وهي "فاغنر"، لتكون تعبيراً عن تحركاتها في القارة الأفريقية بقدر من الحذر بغير مواجهة مباشرة مع دول شبه صديقة كفرنسا، لكن موسكو الآن ومنذ تدخلها العسكري في أوكرانيا تتحدث صراحة عن إعادة التوازن للنظام العالمي، وأنها تفعل هذا لتصبح قطباً ضمن أقطاب فاعلة ومحركة للتطور الدولي على نسق الاتحاد السوفياتي السابق، ونذكر هنا بما تحدث به بوتين صراحة في بداية الحرب بأن انهيار الاتحاد السوفياتي كان خطأً استراتيجياً جيوسياسياً تاريخياً، وأنه لا بد من إصلاح هذا الخطأ.

هنا تتداعى بعض الملاحظات، الملاحظة الأولى التي سبق لنا طرحها هنا في بداية هذه الحرب والتي تتأكد بشكل أوضح اليوم وهي عودة منطق الإمبراطوريات، وبهذا الصدد يجب إعادة مراجعة تاريخ الاتحاد السوفياتي ذاته، وكثير من الأفكار التي طرحت في دول الجنوب وحتى في الكتابات الغربية التي كانت تركز تحليلها على البعد الأيديولوجي الماركسي، بينما كان يجب التنبيه على استمرارية فكرة التوسع الإمبراطوري في العقل الروسي عبر التاريخ منذ روسيا القيصرية مروراً بالاتحاد السوفياتي حتى الاتحاد الروسي الراهن، وهي محورية فكرة الاتساع الجغرافي الهائل في هذا العقل والقوة العسكرية كأساس للنهضة على حساب الاعتبارات الأخرى للقوة الشاملة للدولة سواء الاقتصادية أو فكرة النموذج الحضاري وهو ما سينقلنا للملاحظة الثانية.

إن القلق الذي تحدثت عنه وثيقة السياسة الخارجية حول حماية الهوية الثقافية الروسية ومكافحة ما سمته "الروس فوبيا" يستحق التوقف عنده، فمن الموضوعية تذكر أن لروسيا تراثاً ثقافياً وحضارياً عظيماً في العهد القيصري، بخاصة في مجالات الموسيقى والأدب، واستمرت نسبياً في العهد السوفياتي، وإن كانت شهدت نهضة علمية ضخمة لكن في مجالات بعينها وتحديداً الفضاء والتكنولوجيا النووية وليس كل المجالات العلمية، لكن الفجوة بينها وبين الغرب اتسعت في هذه المجالات كلها، ثم أدى الانهيار السياسي إلى انهيار ثقافي غير مسبوق وبدت روسيا لعقود وكأنها تلهث خلف الغرب وتقلده، وكأن هذا المجتمع ليس له جذور ثقافية عميقة.

لكن المعضلة أنه في كل مراحل التطور الروسي لم يسأل قادة روسيا أنفسهم لماذا كان خلل النظم السياسية المتعاقبة وشيوع الفساد هو نقطة الضعف التي تسبب الانهيار، ولماذا تجاهل أن قوة وسلامة النموذج السياسي والحضاري هي التي تحقق حماية الهوية واستمرارية أكبر وتضمن حتى بقاء منجزات التوسع الإمبراطوري.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل