Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بعد آخر رصاصة" مسرحية مصرية تخاطب حرب السودان

المخرج شريف صبحي يقدم تصوراته عن عالم الاضطرابات وما بعدها

مشهد من المسرحية المصرية "بعد آخر رصاصة" (خدمة الفرقة)

ملخص

المخرج المصري شريف صبحي في مسرحية "بعد آخر رصاصة" يقدم تصوراته عن اضطرابات السودان وما بعدها

لم يكن المخرج المصري شريف صبحي في حاجة إلى اندلاع الحرب في السودان ليقدم عرضه المسرحي "بعد آخر رصاصة"، فالحروب والاضطرابات في المنطقة لا تتوقف. لكنها المصادفة التي تزامن فيها العرض مع اندلاع الحرب في السودان، وكأنه في هذه اللحظة تحديداً يحذرنا من القادم، وينادي بأعلى صوته أن توقفوا.

العرض الذي يقدمه المخرج على مسرح "الغد" (البيت الفني للمسرح - وزارة الثقافة) مأخوذ عن ثلاثة نصوص للكاتب العراقي علي الزيدي هي "قمامة" و"جيل رابع" و"عودة الرجل الذي لم يغب". وهي نصوص كتبها الزيدي في تسعينيات القرن الماضي، وقد تحول من كاتب مسرحي إلى شاهد عيان على ما يحدث في بلاده. لكن نص العرض هنا يأتي مجرداً من الزمان والمكان، وهو، كما عند الزيدي، لا ينشغل بمن يحارب من، أو بمن انتصر على من، انشغاله في الأساس انصب على ما تخلفه الحرب، من ويلات وجراح وتشوهات، في الروح قبل الجسد، وغايته: أن أوقفوا هذه الحروب ودعونا نعيش، ولو قليلاً، في سلام.

تشوهات الحروب

لدينا ثلاث أسر، لكل منها مأساتها التي سببتها الحرب، هي  مجرد نماذج من مجتمع شوهته الحروب، بل إن التشوه لا يطاول فقط الجيل الحالي، لكنه ينتظر أيضاً الأجيال اللاحقة، وكأننا أمام دائرة جهنمية لا تريد، ولا يراد لها، أن تتوقف عن الدوران.

يعود الابن من الحرب مشوهاً وفاقداً نصفه الأسفل، تنكره الأم والزوجة، وتطلبان منه الرحيل بعد أن اضطرتهما الظروف إلى العمل في البغاء، بل تسعيان إلى قتله والتخلص منه. وفي النهاية يضطر إلى البقاء والعمل معهما كمحصل لما يقدمه الزبائن من مال أو طعام.

أما الأب الذي فقد إحدى ذراعيه في الحرب وكان يتشوق لإنجاب ولد، فما أن جاء له الولد حتى يقرر بتر إحدى ذراعيه ليضمن له مستقبلاً طيباً، فالذراع المبتورة ستجنبه خوض الحروب من ناحية، ومن ناحية أخرى ستضمن له العمل كمتسول مثل أبيه وجده.

وها هو الموسيقي الذي اختفى ليلة عرسه، ثم عاد إلى عروسه بعد 20 عاماً، فأنكرته هي الأخرى بعد أن صار حطاماً، لم يستطع أن يعزف لها الموسيقى التي أحبته من أجلها، فقط لأنه عاد بلا ذراعين.

قسوة شديدة

يمكن القول إن القسوة الشديدة هي أكثر ما يسم هذا العرض، القسوة التي جاءت محمولة عبر مبالغات في دوافع الشخصيات وردود أفعالها. لكنها المبالغات التي تؤكد المغزى ولا تنفيه، المبالغات التي تصل إلى حد اللامعقول، أم لا تسعد بعودة ابنها بعد غياب طويل بل تسعى إلى قتله، وأب يبتر ذراع ابنه الوليد، وعروس ظلت تنتظر عريسها الذي غاب 20 عاماً، وعندما عاد رفضت إتمام العرس. لكنها مبالغات، في الوقت نفسه، لا تفقد معقوليتها إذا نحن تأملناها في ضوء ما تفعله الحروب بنا وما تحدثه فينا من تشوهات، ربما تكون التشوهات الجسدية هي أخفها قسوة، وأقلها وطأة.

يبدأ العرض بشاشة سينما تعرض بعض اللقطات لحروب هنا وهناك وما تخلفه من قتل ودمار، وطفلة ضاحكة وحالمة بعالم أفضل، ثم ترفع الشاشة ليواجه الجمهور بديكور رمزي (صممه محمد هاشم) يعكس عالماً مشوهاً وغريباً ومقبضاً، لا ملامح طبيعية يجسدها. درجان يؤديان إلى منصة في مستوى يرتفع مترين عن المستوى صفر، ودرج آخر يؤدي إلى منصة في مستوى أعلى من الأولى، وتتوزع مناطق التمثيل على الأدراج الثلاثة والمنصتين وأسفلهما في المستوى صفر. وهكذا تتداخل العوالم، وتتداخل الأسر الثلاث، مجموعة من المشوهين في مكان أكثر تشوهاً، مكان يبدو منهاراً وفي سبيله إلى مزيد من الانهيار. لقد عبر مصمم الديكور، بوعي شديد، عن تلك الأجواء الكارثية والمقبضة التي تخلفها الحروب، التي تطاول أرواح وأجساد البشر، وكذلك الأماكن، لتتركها جميعاً مجرد هشيم تذروه الرياح.

أدوات مساعدة

لعب المكياج كذلك (وضعه إسلام عباس) دوراً مهماً في تجسيد حالات التشوه والبشاعة التي طالت شخصيات العرض، حتى النساء اللاتي لم يخضن الحرب لم يسلمن من ندبات هنا وهناك، علها تعكس الندبات التي أصابت أرواحهن. وتراوحت الإضاءة ما بين الأزرق ببرودته، والأحمر الذي يشير هنا إلى الحذر والخطر ويعكس الأجواء المرعبة التي تعيشها شخصيات العرض، وإن شاب الإضاءة بعض الارتباكات، بخاصة أن مناطق التمثيل كانت موزعة على أكثر من مكان، فلم تستطع ملاحقة هذا المشهد أو ذاك بدقة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اعتمد المخرج ما يشبه المونتاج السينمائي، فهو لديه ثلاث أسر، كل واحدة منها ليست مرئية لغيرها، وبعض الأحداث تجري بالتوازي، وبعض الحوارات بين الأسرة الواحدة تتقاطع وتتكامل مع حوارات الأخرى، وذلك كله في تناغم شديد وحسابات دقيقة أسهمت في ضبط إيقاع العرض.

وعي الممثلين

خمس ممثلات وأربعة ممثلين نهضوا بالعرض، وكانوا جميعاً على وعي بطبيعة المأساة التي يجسدونها، والتشوهات التي أصابت أجسادهم وأرواحهم. مي رضا تؤدي دور الزوجة التي أصر زوجها على بتر ذراع وليدها، وتمزقها بين الرفض الذي سيعرضه للخطر مستقبلاً، والقبول الذي سيجعله يعيش متسولاً آمناً. وفاء عبده هي العروس التي كانت تنتظرعريسها ليعزف لها الموسيقى وعاد من دون ذراعيه. إيناس المصري الأم التي عاد ابنها من دون نصفه الأسفل، وإيمان مسامح زوجة الابن التي عملت في البغاء، أما مريم سعيد فجسدت دور الطفلة المشردة التي لا تنتمي إلى أي من الأسر الثلاث، وعبرت عن مأساتها بالتنقل هنا وهناك، عازفة على آلة الفلوت التي تشبه الناي في حزنه وشجنه. ولعب آسر علي دور الابن العائد من الحرب مشوهاً على كرسي متحرك، فاقداً ساقيه وذكورته، بوعي شديد واضطراب يجسد معاناته. طارق شرف هو الأب الذي يريد تأمين مستقبل وليده ببتر ذراعه، وإبراهيم الزهيري الموسيقى الذي عاد هو الآخر فاقداً ذراعيه، أداته التي يمارس بها فنه وحبه، ومحمد دياب في دور الجد صاحب الخبرة بويلات الحروب والمتنبئ بما سيحدث لحفيده.

مجموعة من الممثلين تم اختيارها بعناية وتوظيفها في أدوارها بشكل جيد، مراعياً إمكانات -وطبيعة - كل منها، لتتضافر معا في تقديم تلك الحالة المقبضة التي تندد، وبهدوء شديد، ومن دون صراخ، بالحروب وبشاعتها.

وكي تكتمل رسالة العرض ويتضح معنى "بعد آخر رصاصة"، استخدم المخرج شاشة السينما مرة أخرى، مجسداً الرصاصات وقد عادت إلى آلات إطلاقها، فيعود كل شيء إلى ما كان عليه قبل الحرب. يقدم تصوره عن العالم وقد صار من دون حروب، ينهض القتلى أسوياء وكاملي اللياقة، وتستعيد البنايات رونقها وما تهدم منها، وتزدهر الحدائق من جديد... وكأنه يبعث بأمنيته، أو حلمه، ليكون العالم أكثر جمالاً وإنسانية بعد نبذ الحروب والصراعات. ختام رومانسي لا بأس بالتأكيد، وإن كانت المبالغة فيه غير ضرورية بالمرة، بحيث يردد الجميع معاً عبر الفيديو، بمن فيهم المخرج: السلام... السلام.

العرض أشعار رشا ضاهر، موسيقى وألحان هشام طه، توزيع موسيقي محمد همام، أزياء دينا زهير، رؤية سينمائية طارق شرف.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة