Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السم السياسي... مرض قاتل أم جريمة منظمة؟

إيران تسجل 5 آلاف حالة بالمدارس فيما التاريخ مليء بحوادث اغتيال معارضين يلصقها الغرب بالروس وتنفيها موسكو

عمليات التسمم الغامضة لا تزال تطاول الطالبات الإيرانيات (غيتي)

ملخص

تتهم جهات معارضة وناشطون ودول معادية لطهران الحكومة الإيرانية بأنها من يقف وراء التسمم سواء كعقوبة جماعية على محاولات الإناث التحرر من القيود أو الجرأة على الاحتجاج أو للضغط من أجل إغلاق مدارس البنات

الحلقات المسلسلة لتسمم الفتيات في إيران مستمرة، فعلى مدى ما يزيد على أربعة أشهر والعالم يطالع أخبار تسمم عشرات أو مئات الفتيات من طالبات المدارس الإيرانيات من دون معلومات غير مسيسة توضح حقيقة ما يحدث.

وسائل الإعلام الإيرانية تقول إن عمليات التسمم الغامضة لا تزال تطاول الطالبات الإيرانيات، والمؤشرات تشير إلى أن تلك الحالات تشبه تلك التي تحدث عقب التعرض لأنواع من الغاز أو المواد السامة مسببة إغماء أو شعوراً بالإعياء، ومنها ما يتطلب دخول المستشفى.

أحدث حزمة من حالات التسمم الجماعي وقعت قبل أيام بين مدرسة في مفتكل في محافظة خوزستان جنوب غربي إيران، وخمس مدارس في أردبي ومحافظة أذربيجان الغربية في الشمال الغربي.

الحصيلة الرسمية الصادرة عن الحكومة الإيرانية تشير إلى تسمم ما يزيد على 5 آلاف طالبة داخل 230 مدرسة في 25 محافظة تشكل أغلب محافظات إيران البالغ عددها 31 محافظة.

ملف إيراني غامض

ملف التسمم الجماعي الغامض مثار شد وجذب بين الحكومة الإيرانية من جهة والعالم من جهة أخرى، وتأرجح ردود الفعل المقبلة من إيران تراوحت بين معلومات أولية غير مؤكدة تشير إلى استخدام مواد سامة مثل الـ "نفثالين"، وبين اتهامات للمعارضة بأنها من تقف وراء وقوع هذه الحالات، وأحياناً إلى الطالبات أنفسهن بأن ما يجري لا يخرج عن كونه شغباً بهدف إغلاق المدارس أو إلى أجهزة استخباراتية أجنبية، وتصريحات في البداية لمّحت إلى نفي وجود حالات تسمم من الأصل.

من جهتها تتهم أو تلمح جهات معارضة وناشطون ودول معادية لطهران الحكومة الإيرانية بأنها من يقف وراء التسمم، سواء كعقوبة جماعية على محاولات الإناث التحرر من القيود أو الجرأة على الاحتجاج أو للضغط من أجل إغلاق مدارس البنات.

وعلى رغم عدم الإعلان الرسمي بعد عن حقيقة ما يجري، إضافة إلى عدم توافر معلومات حقيقية تؤكد أو تنفي ضلوع رسمياً أو حتى من قبل المعارضة ربما لإحراج النظام الإيراني لحالات التسمم الغريبة، إلا أن "مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان" بادرت في منتصف الشهر الماضي إلى التنديد بـ "التسمم المتعمد لطالبات المدارس في إيران والذي هو دليل آخر على استمرار العنف ضد النساء والفتيات"، بحسب عنوان البيان.

التسمم السياسي

المفوضية تقول إن خبراء الأمم المتحدة عبروا عن غضبهم جراء حالات تسمم الطالبات الإيرانية "وفشل الدولة في حمايتهن، بل وإنكار السلطات حدوث حالات تسمم حتى وقت قريب"، وأشارت إلى "الشعور بالقلق العميق تجاه الصحة الجسدية والعقلية لهؤلاء الطالبات وقدرتهن على التمتع بحقهن الأساس في التعليم"، كما عبرت عن تخوفها من أن يكون هذا العقاب يدار لمعاقبة الفتيات على مشاركتهن في حركة ’المرأة والحياة والحرية‘ وللتعبير عن معارضتهن للحجاب الإلزامي".

تسميم آلاف الطالبات من قبل الحكومة عقاباً لهن على الحلم بالحرية أو المشاركة في المطالبة بالحق في تقرير حق ارتداء الملبس أو ترهيباً لهن لإثنائهن عن المشاركة، وربما من قبل المعارضة أو جهات "أجنبية" لإحراج الدولة ليس التسمم الجماعي أو التسمم السياسي الأول في التاريخ.

أليكسي نافالني

تاريخ الكوكب حافل بعمليات عدة من هذا النوع، منها ما تأكد ومنها ما تصر الجهات المتهمة على إنكاره، ومنها ما يظل عالقاً في أجواء التسييس، وليس هناك ما هو أكثر تسييساً من إصابة معارض سياسي بارز بالتسمم.

وعلى سبيل المثال لا الحصر ثارت شكوك لا أول لها أو آخر حول إصابة المعارض الروسي البارز أليكسي نافالني بالتسمم في صيف عام 2020، إذ نقل نافالني الملقب بـ "زعيم المعارضة الروسية"، وهو أبرز معارضي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى المستشفى بعد شعوره بتعب مفاجئ وهو على متن رحلة عائداً من سيبيريا إلى موسكو، وظل راقداً في مستشفى نقل إليه من روسيا إلى ألمانيا في حال خطرة وفاقداً الوعي بعد أن ظهرت عليه ما يشبه أعراض التسمم.

وقالت المتحدثة باسم نافالني حينها إنها ترجح أن يكون قد مُزج السم بكوب من الشاي احتساه في وقت سابق ذلك اليوم، وأن جسده على ما يبدو امتص السم بشكل أسرع في السائل الساخن.

لكن نافالني تعافى تماماً بعد نحو شهر، وقالت الحكومة الألمانية أن المعارض الروسي البارز تسمم بمادة تؤثر في الأعصاب اسمها "نوفيتشوك"، وتعني بالروسية "القادم الجديد".

هذه المادة عبارة عن توليفة من المواد الكيماوية التي يعتقد أن الاتحاد السوفياتي السابق طورها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي في معمل بأوزبكستان، والمثير في هذا السم الذي أصبح "سلاح اغتيالات روسي شهير"، كما تؤكد وسائل إعلام غربية عدة أنه يوجد بأشكال صلبة وسائلة، كما أنه يصعب اكتشافه في جسد الضحية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأثارت مادة "نوفيتشوك" اهتمام العالم أجمع في محاولة تسميم شبيهة جرت في بريطانيا وتحديداً في مدينة سالزبري التي يعيش فيها المعارض الروسي سيرغي سكريبال وابنته بعد لجوئهما إلى بريطانيا، ففي عام 2018 نجا سكريبال وابنته من الموت بعد أن تعرضا لهجوم بمادة سامة قالت السلطات البريطانية في ما بعد إنها "نوفيتشوك".

وأشارت التحقيقات إلى أن رجلين يعتقد أنهما عميلان من الاستخبارات الروسية رشا الغاز من زجاجة عطر على باب البيت الذي يقيم فيه سكريبال، وعلى رغم نجاته وابنته ونجاح علاجهما إلا أن امرأة بريطانية التقطت الزجاجة لقت حتفها متأثرة بالسم.

ويشار إلى أن سكريبال خدم في الاستخبارات العسكرية الروسية ووزارة الخارجية الروسية قبل اعتقاله واعترافه بتجنيده من قبل الاستخبارات البريطانية عام 1995، وتقديمه معلومات لبريطانيا حول العملاء الروس في أوروبا في مقابل مبالغ مالية، وحكم عليه بالسجن لكن أطلق سراحه عام 2010 في تبادل للجواسيس بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، ومن بين الجواسيس الروس من لجأوا إلى بريطانيا، ومنهم من تعرض إلى إعياء مفاجئ في دولة اللجوء.

حوادث الإعياء المفاجئ

قائمة حوادث الإعياء المفاجئ التي يقول الغرب إنها محاولات تسميم سياسية روسية دائماً وتنفي روسيا علمها بها دائماً أيضاً طويلة، وتحوي القائمة وفاة الجاسوس الروسي السابق، وفي أقوال أخرى العميل المزدوج ألكسندر ليتفينينكو في لندن عام 2006 بعد تعرضه للتسمم بمادة الـ "بولونيوم-210" المشعة.

وكان ليتفينينكو ضابطاً في الأمن الفيدرالي الروسي (إف أس بي) وهرب إلى بريطانيا وأصبح معارضاً للكرملين، ثم حصل على الجنسية البريطانية.

وتوفي ليتفينينكو بعد أيام من تسممه عقب تناوله كوباً من الشاي، وخلصت التحقيقات البريطانية إلى أن مقتل ليتفينينكو ربما تم بموافقة الرئيس الروسي بوتين، وهو التحقيق الذي وصفته موسكو بـ "المسيّس".

فيكتور يوتشنكو ورئاسة أوكرانيا

تسميم سياسي شهير آخر كان ضحيته مرشح المعارضة الأوكرانية لمنصب الرئاسة فيكتور يوتشنكو عام 2004، إذ أكدت تقارير المستشفى النمسوي الذي تلقى فيه العلاج أنه تعرض لتسمم بمادة الـ "ديوكسين" عبر الفم عقب تناوله وجبة العشاء مع أفراد من جهاز الأمن الأوكراني.

الاتهامات كالعادة كانت كثيرة، تارة موجهة ضد السلطة الأوكرانية حينئذ المعارضة لترشحه وأخرى إلى روسيا التي كانت داعمة ومدافعة عن السلطة الأوكرانية الممثلة في الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش.

ويشار إلى أن يانوكوفيتش الذي كان رئيساً لأوكرانيا بين عامي 2010 و2014 طالب روسيا عام 2014 بالتدخل عسكرياً في بلاده "لاستعادة القانون والنظام في أوكرانيا بعد تفشي الفوضى والإرهاب والعنف تحت تأثير الدول الغربية"، داعياً "السيد بوتين إلى استخدام القوات المسلحة لروسيا الاتحادية لإرساء الشرعية والسلام والقانون والنظام والاستقرار والدفاع عن الشعب الأوكراني".

خالد مشعل وترياق إسرائيل

محاولة أخرى تمت تحت مسمى "الدفاع عن شعب" عبر تسميم شخصية سياسية جرت وقائعها عام 1997، وعلى رغم فداحة التفاصيل إلا أن أحداً على ما يبدو لا يتذكرها، ففي ذلك العام قام شخصان يعتقد أنهما من عملاء "الموساد" الإسرائيلي برش مادة سمية في أذن رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" الفلسطينية خالد مشعل انتقاماً من سلسلة الهجمات الانتحارية لفلسطينيين داخل إسرائيل.

واتسمت تفاصيل التسميم بكثير من الإثارة والسياسة، إذ تمكن حراس مشعل من الإمساك بالرجلين، وتعهد العاهل الأردني الراحل الملك حسين بمحاكمتهما حال مات مشعل، وهي المحاكمة التي كان يمكن أن تؤدي إلى الحكم عليهما بالإعدام حال إدانتهما.

المادة المستخدمة في المحاولة من مشتقات الـ "فيتانيل" بالغة القوة والقادرة على القتل في غضون ساعات، وعلى رغم نقل مشعل إلى مستشفى في عمّان بسرعة فائقة إلا أن حاله تدهورت سريعاً، ودارت كواليس دبلوماسية مكثفة ضمت أميركا والأردن وإسرائيل حيث غضبت أميركا لـ "سذاجة" المخطط وسوء التنفيذ وتهور الفكرة.

وبحسب مجلة "تايم" في مقالة عنوانها "الرجل الذي يطارد إسرائيل" (2014) فقد تلقى المنسق الخاص لشؤون الشرق الأوسط في إدارة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، دنيس روس، مكالمة في الصباح الباكر من رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو الذي شرح ما جرى في عمّان.

وبحسب مذكرات روس فقد أبدى الأخير تعجبه من تهور إسرائيل وسأل نتنياهو معاتباً "لماذا لم تحاول حمل الأردنيين على اعتقال مشعل بهدوء مثلاً؟ ألم يخطر ببالك أن شيئاً ما خطأ يمكن أن يحدث؟".

واندهش روس حين أجاب نتنياهو بالنفي، وما حدث هو أن كلينتون توسط لحل الأزمة في محاولة لإنقاذ اتفاق السلام الرئيس بين الأردن وإسرائيل والذي كان مقرراً له أن يوقع بعد أسابيع، وقدمت إسرائيل "صيغة" أو تركيبة الترياق المعالج للأطباء الأردنيين في ظل انعدام الثقة في تسلم أي ترياق من إسرائيل، وتعافى مشعل وعاد للحياة ليتم تلقيبه من قبل البعض بـ "الشهيد الحي".

كوريا الشمالية حاضرة

تسميم سياسي فادح آخر جرى في ماليزيا عام 2017 وضحيته هو كين يونغ نام وهو الأخ غير الشقيق لزعيم كوريا الشمالية الحالي كيم يونغ أون وهو، إذ قامت امرأتان برش غاز الأعصاب "في إكس" بالغ السمية على عينيه ووجهه، ليموت الرجل بعد نحو 20 دقيقة، وكان بحسب السلطات الماليزية موتاً مؤلماً جداً نجم عن شلل بالغ الخطورة.

وعلى رغم عدم توجيه اتهام مباشر إلى كوريا الشمالية وزعيمها إلا أن كل ما كتب آنذاك يشير إلى ذلك، فقد فر نام من كوريا الشمالية عقب تولي أخيه غير الشقيق قيادة البلاد متجاوزاً إياه، وكان كثيرون ينظرون إليه باعتباره "الخليفة المتوقع" للوالد كيم يونغ إيل، لكن يبدو أن الوالد غير رأيه بعد القبض على ابنه أثناء محاولة دخول اليابان بجواز سفر مزور عام 2001 "ليزور ديزني لاند في طوكيو"، بحسب ما قال الابن.

ويقال كذلك إنه لم يحتفظ لنفسه برأيه في أخيه الزعيم الحالي بأنه غير مؤهل لقيادة البلاد، فيما تشير تقارير غربية أيضاً إلى تعرض نام لأكثر من محاولة اغتيال فشلت جميعها إلى أن نجح السم في تحقيق المراد.

الـ"ريسين" للمعارض البلغاري وترمب

سم من نوع آخر وهو الـ "ريسين" نال من الكاتب والروائي والإذاعي البلغاري المنشق والمعارض للشيوعية غورغي ماركوف الذي فر من بلغاريا عام 1969 ولجأ إلى بريطانيا، إذ ظل ينتقد الشيوعية بكل حدة وعمل في هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، فقد شعر بوخزة في فخذه اليمنى من الخلف أثناء توجهه إلى محطة الباصات في طريقه إلى "بي بي سي"، واعتقد أن حشرة لدغته ونظر خلفه ليرى رجلاً يلتقط مظلة من على الأرض ويركض بعيداً. وحين وصل إلى مقر عمله لاحظ بقعة حمراء صغيرة في مكان الوخز ثم تضاعف الألم، وفي المساء أصيب بحمى شديدة ونقل إلى المستشفى حيث فارق الحياة بعد أربعة أيام بسبب تسلل سم الـ "ريسين" إلى جسده.

 

وسمّ "ريسين" نفسه كان موجهاً إلى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب أثناء رئاسته عام 2020، لكن عبر خطاب مرسل له من كندا، وتم توقيف الخطاب واكتشاف محتواه من قبل وحدة فرز الخطابات في البيت الأبيض، واتضح أن المرسل هي سيدة تدعى باسكال سيسيل فيرونيك فيرييه.

والمثير أن فيرييه ذكرت في خطابها أنها عثرت على اسم جديد لترمب وهو "الطاغية القبيح" متمنية أن يعجبه اللقب والهدية المرفقة، ومؤكدة له أنه دمر أميركا ويقودها إلى كارثة، كما أرسلت الهدية نفسها لستة أشخاص يعملون في سجون أميركية مختلفة احتجزت فيها عام 2019.

ومن أميركا إلى الشيشان حيث قتل "قائد المجاهدين المناضل الشهيد" وفي أقوال أخرى "أخطر الإرهابيين الدوليين" وأبرز الأفغان العرب سامر السويلم الذي اشتهر باسم "خطاب" بسمّ الـ "ريسين" أيضاً، ويعتقد أن روسيا هي من تقف وراء عملية التسميم.

أشهر "المسمومين" ياسر عرفات

وتتسم كل عملية تسميم ذات أبعاد سياسية، سواء جماعية أو فردية، بكثير من الجدل وعدم اليقين، ولعل أبرز حالات عدم اليقين التي تؤجج النظريات المتضاربة وتأليف الكتب وكتابة التقارير بين حين وآخر هي وفاة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات والتي لا يزال كثير يؤمنون بأنها نجمت عن تسمم بنوع غريب.

واشتعل العالم بنظريات تؤيد وأخرى تستبعد حدوث التسمم فعلاً، لا سيما أن أطباء شرعيين فرنسيين أيدوا ما ذهبت إليه تحاليل مختبرية روسية عام 2013 من استبعاد اغتيال عرفات بمادة الـ "بولونيوم المشع"، وذلك على العكس من أطباء شرعيين سويسريين لم يستبعدوا هذا الاحتمال مع التنويه من قبل الجميع إلى صعوبة إثبات أو نفي ذلك، لأن سم الـ "بولونيوم" يختفي بعد استخدامه بفترة قصيرة نسبياً.

الزرنيخ ملك العصور القديمة

تاريخ التسميم المخطط طويل، وهو لا يرتبط كله بالخلاف السياسي الذي يصل إلى درجة الاغتيال، لكن من جهود التسميم ما ارتبط تاريخياً بالأوبئة والمكائد والدسائس، وبحسب دراسة عنوانها "الزرنيخ تاريخ قاتل" أنجزها فريق من الباحثين في البرنامج البحثي "المعادن السامة" التابع لكلية دارتموث الأميركية، فإن الطبيب اليوناني في بلاط الإمبراطورية الرومانية ديكوريدس تحدث في القرن الأول قبل الميلاد عن الزرنيخ وافتقاره إلى اللون والرائحة والطعم عند مزجه مع الطعام مما يجعل منه وسيلة بارعة يصعب تقفي أثرها. كما كان الحصول عليه متاحاً للجميع، وتكفي قطعة في حجم حبة البازلاء لتقوم بالمهمة، ويضاف إلى ذلك أن أعراض التسمم بالزرنيخ تشبه إلى حد التطابق التسمم الغذائي وغيرها من الاضطرابات التي قد تصيب الجسد وتنتهي عادة بالموت.

وتشير الدراسة إلى أن هذه الخصائص أسهمت في جعل الزرنيخ أداة بالغة الشعبية ومستخدمة على نطاق واسع كوسيلة للقتل في العصور القديمة، ويبدو أنها شاعت في تلك العصور حتى أصبحت الوفيات الناجمة عن أسباب طبيعية نادرة، لا سيما بين الأمراء والملوك وأصحاب المناصب السياسية والعسكرية، مقارنة بالزرنيخ، بسبب الدسائس والمكائد التي انتشرت كالوباء.

وفي القرن الرابع قبل الميلاد استخدم الرومان السموم بشكل كبير في السياسة، فمثلاً انتشرت ظاهرة قيام نساء بتسميم رجال من شأن وفاتهم أن تعود بالنفع عليهن، ويبدو أن النساء أفرطن في جهودهن المسممة لدرجة دفعت القائد الروماني والمصلح الدستوري لوسيوس كورنيليوس عام 82 قبل الميلاد إلى إصدار قانون للحد من حالات التسمم التي أصبحت أشبه الوباء.

للأوبئة نصيب

وللأوبئة بمعناها الحرفي نصيب وفير من عمليات التسميم الجماعي المخططة والمقصودة في التاريخ، إذ تشير دراسة منشورة على موقع "يو سي أل" أو "كلية لندن الجامعية" تحت عنوان "السموم والتسميم والمسممون في روما" إلى أن الرومان استخدموا السموم بشكل كبير في أوقات الأوبئة خلال القرن الرابع قبل الميلاد، وفي هذا الوقت الذي انتشرت فيه الخرافات حول المصابين بالأمراض والفيروسات، وثقلت فيه كلفة الأوبئة الشديدة وكثيفة الانتشار، فقد دفع آلاف الأبرياء ثمناً باهظاً لمرضهم وعدم فهم أبعاده أو وجود سبل لعلاجه أو ارتفاع كلفتها، فكان يتم التخلص منهم عبر التسميم الجماعي.

كما عرفت وظيفة "المسمم" الذي يقوم بتجهيز السم وإعطائه الضحية أو الضحايا للتخلص منهم لمصلحة أحدهم، ويشير التاريخ إلى أن الإمبراطور نيرون وظف إحدى المسمّمات واسمها لوكستا ليتخلص من عدد من رعاياه وبينهم أخوه غير الشقيق بريتانيكيس، كما يشار إلى أن المسممين المحترفين كانوا يجربون قوة تركيباتهم من السموم على الحيوانات والمساجين والعبيد.

 

وتشير الدراسة إلى أن عمليات التسميم الجماعي انتشرت بشكل كبير في أوقات الأزمات والأوبئة والضغوط الطاغية في القرن الأول قبل الميلاد، لكن مع قدوم القرن الثاني بعد الميلاد وانتشار السلام بشكل أكبر وخفوت حدة الضغوط انخفضت كذلك معدلات الاتجاه نحو عمليات التسميم الجماعي بغرض تخفيف حمل التعامل مع الأوبئة وآثار الحروب المدمرة، وكذلك التسميم الفردي للتخلص من المنافسين والمعارضين.

مرض نفسي جماعي

أحدث حالات التسمم الجماعي الغارقة في التكهنات والمعبأة بالسياسة والمُحملة اتهامات الحكومة للمعارضة والجهات الأجنبية والمؤامرات، وكذلك التي تتسع لاتهامات المعارضة والعالم الخارجي للنظام السياسي أو للسلطة الدينية، هي طالبات مدارس إيران، لكن يبقى تفسير علمي يلوح في أفق بعيد قلما يتطرق إليه أحد، ربما لأسباب سياسية واضحة. المرض النفسي الجماعي أو Mass psychogenic illness مذكور في كتب الطب ومراجع العلم، والمرض النفسي الجماعي يحدث حين تبدأ مجموعة من الأشخاص في الشعور بأعراض مرضية في الوقت نفسه على رغم عدم إصابتهم ظاهرياً بسبب مادي أو مرضي، ثم تعتقد هذه المجموعة أنها تعرضت إلى شيء خطر مثل جرثومة أو سم، وقد يصيب هذا المرض فصلاً دراسياً في مدرسة أو قطاع عاملين في مؤسسة أو مصلحة.

وتماماً كما يحدث حين يصاب أفراد بين جمهور يحضر عرضاً مسرحياً أو يشاهد فيلماً مثلاً يحوي مشاهد مؤثرة أو عنيفة أو صادمة بالغثيان وضيق النفس والصداع والدوار وسرعة ضربات القلب والإسهال وآلام المعدة، فإن مجموعات من الأفراد قد تشعر بالأعراض نفسها لكن تحت ضغط مؤثرات اجتماعية أو نفسية أو اقتصادية أو سياسية صعبة.

المرض النفسي الجماعي يتكرر في دول العالم على مدى آلاف السنين في ظروف وأوقات مختلفة، لكنه قلما يحظى باهتمام بالغ للفهم أو التفنيد، والأدهى من ذلك أن الأطباء يؤكدون أن المرض النفسي الجماعي لا يقتصر وجوده على أدمغة المرضى فقط، إذ يختلط الخيال بالواقع كما يعتقد، بل يعاني المرضى الأعراض المرضية من قيء وإسهال ودوار وضيق نفس وآلام معدة وزغللة بالفعل، والفرق الوحيد بين هؤلاء المرضى وبين التعرض لجرثومة أو تجرع سم يكمن في السبب وليس العرض.

أما العرض السياسي فيبقى شغلاً شاغلاً إلى أن يتم إعلان التقارير الطبية الرسمية، وهنا يجدد العرض السياسي نفسه بين مصدق ومكذب بحسب الموقف السياسي من الجهة المعلنة، وغالباً تبقى الحقيقة طي التاريخ أو طي النسيان أو طي التطورات السياسية.

المزيد من تحقيقات ومطولات