Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عن الجسور القائمة بين الأدب والرياضيات

فكرة إرغام المرء على الاختيار بين المجالين مأساة فهما مترابطان وكلاهما يدعو إلى المتعة والجمال

الجسر الذهبي في فيتنام (غيتي)

ملخص

 عالمة الرياضات #سارة_هارت تكشف العلاقة الوطيدة بين #الأدب #والرياضيات وترى أنهما يفيدان بعضهما بعض   

ثمة فجوة كبيرة بين الرياضيات والأدب، بل ربما يكون في القول بوجود فجوة بينهما سعي إلى التقريب بين مجالين يبدو كل منهما ابن عالم منفصل، لا يتقاطع مع الآخر ولا يراه. يحاول الأدب مستعيناً بالخيال وباللغة مسلحاً بالاستعارات والتشبيهات وأدوات المجاز شتى أن ينفذ إلى معنى الوجود الإنساني. بينما تسعى الرياضيات كما يبدو لدخيل مثلي في الأقل إلى أن تترجم كل ما هو معقد في هذا الوجود إلى أرقام ومعادلات، تجرده من التمايزات وصولاً إلى جوهر غائر، فإذا بالقاتل والقتيل متماثلان في أن كليهما (واحد) من دون اعتبار للدم على يدي أحدهما وللفجيعة في عيني الثاني.

غير أنها في ما يبدو فجوة فحسب بين طريقتين في النظر إلى عالم تنسينا شروط كل طريقة منهما أنه عالم واحد، عالم واحد هو الذي أنتجهما وهو الذي تدرسانه وهو الذي توجد كلتاهما فيه. وهي فجوة معيبة يجدر بنا تقليصها بحسب ما ترى سارة هارت في كتاب حديث الصدور لها بعنوان "حدث ذات عدد رئيس: الروابط العجيبة بين الرياضيات والأدب".

يستهل جوردان إلينبيرغ استعراضه للكتاب في "نيويورك تايمز" بحكاية بدأ بها الكاتب سي بي سنو مقالة ترجع إلى عام 1959 بعنوان "ثقافتان". حكى أنه في عشاء في كمبريدج، أراد فيه مؤرخ أن يحاور الجالسين عن يمينه ويساره، فلم يلق منهما إلا همهمات مرتبكة. وسارع المستضيف يطمئنه بقوله إنهما "عالمان في الرياضيات. ونحن لا نتكلم معهما أبداً".

ويعلق جوردان إلينبيرغ بأن الفجوة التي أشار إليها سنو في مقالة 1959 بين ثقافة العلوم الإنسانية وثقافة الرياضيات لم تضق عام 2023، فلم يزل مفهوماً أن الموضع الطبيعي لعلماء الرياضيات هو أقصى طرفي هذه الفجوة، في مكان من عالم مجرد، بلا فرصة في موضوع للثرثرة مع نظرائهم في العلوم الإنسانية.

غير أن هذه الفجوة غير مقبولة لدى سارة هارت التي تحتل مكانة مثلى لإعادة النظر في العلاقة بين الرياضيات والدراسات الأدبية بكونها "منظرة مرموقة في جامعة لندن وتشغل حالياً كرسي غريشام للهندسة، وهو موقع شديد القدم إلى حد أن شاغله الأول هو الذي اخترع القسمة المطولة، ومهمة هذا الكرسي تتعلق منذ القدم بترويج الرياضيات لدى الجمهور العام، من دون استثناء لأساطين المؤرخين".

"ترى هارت أن الرياضيات أبعد ما تكون عن التعارض مع الأدب وإنما مرتبطة به، فكذلك كانت وكذلك ستبقى. وتستدل هارت بفئتين على ذلك بما تعثر عليه من تأثيرات رياضية في الأدب نفسه، إذ تكشف عن البنية الحاكمة لبعض القوالب الشعرية والبنية الأساسية الرياضية لبعض الروايات المعاصرة".

تكتب سارة هارت عن العبارة الافتتاحية طاغية الشهرة لرواية موبي ديك لهرمن ميلفيل، "ليكن اسمي إسماعيل. لا بد من أن هذه العبارة واحدة من أشهر العبارات الافتتاحية في تاريخ الأدب كله، فكم يخجلني القول إنني، حتى وقت قريب للغاية، لم أتجاوزها قط. كانت (موبي ديك) بالنسبة لي من الكتب المهملة في فئة الشعور بالذنب، أي (الكتب التي كانت تنبغي قراءتها قبل عهد بعيد) ولم يحدث قط أن تطرقت إليها. زد على ذلك أنني متخصصة في الرياضيات. وعلى رغم اهتمامي بالأدب، لم تتضمن أولوياتي الثقافية روايات من 400 صفحة عن الحيتان، أو ذلك ما كنت أحسبه. ثم تغير ذلك كله ذات يوم حينما سمعت صديقاً متخصصاً في الرياضيات يذكر أن في ’موبي ديك‘ إشارة إلى الدويريات".

أجمل المنحنيات

الدويري cycloid لمن لا يعرف، أي لأمثال كاتب هذه السطور، خط منحنٍ على محيط الدائرة، فهكذا يقول القاموس، أو هو خط منحن يتماس مع محيط الدائرة، فهكذا يظهر في صور "غوغل". أما سارة هارت، فتقول عن الدويريات إنها "من أجمل المنحنيات الرياضية المعروفة، رأى فيها أستاذ الرياضيات الفرنسي بليز باسكال فتنة جعلته يزعم أن تصورها وحده كفيل بأن يخفف من وجع الأسنان، لكن تطبيقاتها ليس مألوف الذكر في سيرتها الذاتية".

لا أتصور أن من أكمل منكم قراءة "موبي ديك" احتفظ في ذاكرته منها بإشارة الدويري هذه، وحتى لو احتفظت ذاكرة خارقة بتلك الإشارة فهي لا تكفي في تقديري للزعم بوجود رابط جدير بالملاحظة بين الأدب كله وبين الرياضيات، وإنما غايته أنه رابط ـ واهٍ.ـ بين رواية واحدة ومصطلح رياضي واحد. غير أن سارة هارت تمضي فتكتب أن افتتانها بهذه الصلة بين الدويري و"موبي ديك" حملها أخيراً على قراءة الرواية:

"ابتهجت لما وجدت أنها تعج بالاستعارات الرياضية. وأدركت أن الأمر يتجاوز هرمن ملفيل، فـليو تولستوي يكتب عن التفاضل والتكامل، وجيمس جويس عن الهندسة، وبنية الكسور هي أساس ’الحديقة الجوراسية‘ لمايكل كريشتن، ومبادئ الجبر هي الحاكمة لعدد من القوالب الشعرية، بل اكتشفت أننا معشر علماء الرياضيات نظهر في أعمال مؤلفين متباينين تباين آرثر كونان دويل وتشيمامندا نجوزي أديتشي".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مثل تلك الاكتشافات لم تكن وحدها السبب الذي دعا عالمة الرياضيات سارة هارت إلى تأليف "حدث ذات عدد رئيس" ـ إن صحت هذه الترجمة. فلمست الكاتبة إهمالاً لدراسة هذه الروابط أرادت أن تعالجه، فتكتب أن "الروابط بين الرياضيات والأدب لم تلق قط الاهتمام الذي يجدر بها" على رغم بعض الدراسات الأكاديمية التي تتناول عرضاً بين الحين والآخر جوانب رياضية في أجناس أدبية محددة أو لدى أدباء معينين. ولكن ما حدا بها إلى تأليف كتابها أن ثمة "في واقع الأمر تنافراً بين الاثنين. ففي نظام التعليم البريطاني [والعربي أيضاً] في العقود الأخيرة، غالباً ما يجري إرغام الطلبة على الاختيار بين دراسة الرياضيات والعلوم أو دراسة العلوم الإنسانية. وإنني أتذكر في نهاية آخر حصة للغة الإنجليزية في المدرسة عام 1991 أن المعلمة أعطتني رسالة جميلة مكتوبة بخط اليد تحتوي على قائمة طويلة بكتب تصورت أنها ربما تروق لي وقالت ’يؤسفني أن نخسرك ويكسبك المختبر‘".

تقول هارت "ساءني أن أعدّ في جملة الخسائر. ولكنني لم أسمح بأن أكون كذلك. فأنا أحب اللغة، وأحب الكلمات حين تتلاقى فتتلاءم، وأحب الأدب حين أراه ـ شأن الرياضيات. يبدع عوالم الخيال ويتلاعب بحدودها ويمتحنها. قصدت جامعة أكسفورد لدراسة الرياضيات، وأنا سعيدة أشد ما تكون السعادة بأن أقيم على بعد شارع واحد من الحانة التي كان يقصدها بطلا طفولتي سي إس لويس وجيه آر آر تولكين ليلتقيا كل أسبوع فيتناقشان في عملهما".

شغف شخصي

هو إذاً شغف شخصي لشخص تصادف أنه يحب طريقين يبدوان متوازيين لا التقاء بينهما، لكنه يجد أنهما يلتقيان فيه هو نفسه، وشأن أي عالم رياضيات أمام مسألة هندسية عنيدة، قرر أن يبرهنها، ويصل عبر مقدمات كثيرة وواسعة النطاق إلى المطلوب إثباته، وهو أن الرياضيات والأدب ليسا قطبين متنافرين. تكتب سارة هارت "إن فكرة إرغام المرء على الاختيار بين الرياضيات والأدب مأساة، ليس فقط لأن المجالين مترابطان ومتواشجان وعصيان على الانفصال، ولكن أيضا لأن فهم هذه الروابط يمكن أن يزيد من متعة المجالين".

تستشهد هارت بالخيام وتشوسر فلا يخذلانها "كان عالم القرن الـ11 الفارسي عمر الخيام الذي تنسب إليه الرباعيات عالم رياضيات، وأبدع عدداً من الحلول الهندسية الجميلة لمسائل رياضية لن يتم العثور على حلولها الجبرية لـ400 عام تالية. وفي القرن الـ14 كتب تشوسر كلاً من ’حكايات كانتربيري‘ ورسالة عن آلة الاسطرلاب. وثمة أمثلة أخرى لا حصر لها، وليس أقلها مثال لويس كارول الذي كان بالطبع عالم رياضيات أولاً وكاتباً في المقام الثاني".

غير أن سارة هارت لا تكتفي بالاستقواء بالتاريخ الذي يمكن بالفعل أن نخرج منه بأن العلاقة عميقة بين الأدب وأي من الطب أو الهندسة أو الفقه أو ما شئتم من فروع المعرفة. فهي تتكلم عن سبب أعمق لمصادفتنا الرياضيات في قلب الأدب. "ذلك أن في الكون بنية كامنة، ونمطاً ونظاماً، والرياضيات هي وسيلتنا المثلى لفهم ذلك، ولذلك كثيراً ما يقال إن الرياضيات هي لغة الكون، ولذلك أيضاً تمثل الرياضيات أداة لا غنى للعلوم عنها. وبما أننا معشر البشر جزء من الكون، فمن الطبيعي أن يظهر في قوالب تعبيرنا الإبداعي والأدب منها ميل إلى النمط والبنية".

وتمضي فتكتب أن "الرياضيات الجيدة، شأن الأدب الجيد، تقوم على تقدير متأصل للبنية والإيقاع والنمط. والشعور الذي ينتابنا حينما نقرأ رواية عظيمة أو سونيتة مثالية، أي الشعور بأننا حيال شيء جميل، متوائم العناصر والأجزاء، متناغم الجزئيات تناغماً تاماً. هو مثل الشعور الذي يمر به عالم الرياضيات حينما يقرأ برهاناً جميل الإثبات".

"كتب عالم الرياضيات جي إتش هاردي أن عالم الرياضيات شأن الرسام أو الشاعر، صانع أنماط. وأنماط عالم الرياضيات شأن أنماط الرسام أو الشاعر، لا بد من أن تكون جميلة، والأفكار شأن الألوان أو الكلمات، لا بد من أن تتواءم ويتحقق في ما بينها التناغم. الجمال هو الامتحان الأول: فما من مكان دائم في العالم لرياضيات قبيحة".

"هذا التواؤم وتلك البنية يتضحان أكثر ما يتضحان في الشعر، ولكن في كل كتابة بنية. فالحروف تصنع الكلمات والكلمات تصنع الجمل والجمل تصنع الفقرات، تماماً مثل هيراركية النقطة والخط والمستوى في الهندسة، ويمكن فرض القيود أو القواعد في أي مرحلة، فالبنية ليست موضع سؤال، وإنما السؤال هو عن اختيار بنية".

وتخطو سارة هارت خطوة أخرى أبعد، ولعلها أكثر إثارة للقراء الغارقين حتى آذانهم في الأدب دون العلوم، أو العلوم دون الأدب، إذ تكتب أن الرياضيات نفسها لديها تراث ضخم من الإبداع اللغوي. "فإن رجعنا إلى الهند لوجدنا علماء الرياضيات السنسكريتيين اتبعوا تراثاً شفاهياً وأن الخوارزميات الرياضية كانت تصاغ شعراً ليسهل نقلها شفاهة. ونحن حينما نفكر في المفاهيم الرياضية فإننا نفكر فيها مرتبطة بكلمات ثابتة دقيقة كالمربع والدائرة. أما في التراث السنسكريتي، فلزام على الكلمات أن تتواءم مع تفعيلة القصيدة. والكلمات التي تعبر عن الأعداد على سبيل المثال يمكن أن تستعمل بدلاً منها كلمات دالة على أشياء وثيقة الصلة بالأعداد. فيمكن تمثيل الرقم واحد بأي شيء فريد مثل القمر أو الأرض، أما ’اليد‘، فقد تعني اثنين لأن لدينا يدين، ويمكن أن يستعمل أيضاً ’الأبيض والأسود‘ لأنهما يشكلان ثنائياً. وتعبير من قبيل ’ثلاث أسنان ثرمة‘ لا يعني ضرورة زيارة طبيب الأسنان وإنما يعني أن ثلاثة أصفار يجب أن تتبع عدد الأسنان لدينا، فهي طريقة شعرية للتعبير عن رقم اثنين و30 ألفاً. وهكذا يتيح نطاق الكلمات الضخم ثراء رهيباً للرياضيات".

يكتب جوردان إلينبيرغ أن رسالة هارت الأساسية في كتابها هذا هي أن "الناس متشابهون تشابهاً كبيراً، فكلهم يتوق إلى الجمال والمعنى ويبحث عنهما بطرق متماثلة سواء عثروا عليها في الكلمات أو في الأصوات أو في المعادلات. وأطلق الروائي الأميركي [المنتحر] ديفيد فوستر والاس [صاحب ’المزحة اللانهائية‘ تعيسة الترجمة في العربية] على هذه الظاهرة اسم ’النقرة‘ فقال، ’كنت محظوظاً بحق أنني حينما بت عاجزاً عن نيل تلك النقرة من المنطق الرياضي بدأت أقدر على نيلها من الأدب‘".

وتكتب هارت أن "الرياضيات العظيمة والأدب العظيم يشبعان توقاً واحداً في أنفسنا، توقنا إلى الجمال وإلى الحقيقة وإلى الفهم. ومثلما كتبت عالمة الرياضيات الروسية الرائدة صوفيا كوفالبيفيسكايا، ’من المحال أن يكون المرء عالم رياضيات من دون أن تكون له روح شاعر. فالشاعر هو من يرى ما لا يراه الآخرون، ومن يرى بعمق. وعلى عالم الرياضيات أن يفعل مثل ذلك‘".

عنوان الكتاب:  Once Upon a Prime: The Wondrous Connections Between Mathematics and Literature 

تأليف: Sarah Hart

الناشر: ‎ Flatiron Books

اقرأ المزيد

المزيد من كتب