Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هرمان بروخ رسول الصحوة الروحية في زمن انهيار المثل

انعطاب القيمة في الاجتماع الإنساني ظاهرة كونية ترافق وعي الأفراد والجماعات منذ أقدم العصور

الروائي هيرمان بروخ (موقع الأدباء النمسويين)

ملخص

اشتهر الروائي النمسوي #هرمان_بروخ بتنوع الأساليب السردية والتقنيات الحبكية التي استخدمها لكن مسيرته الأدبية إلا في سن الأربعين

اشتهر الكاتب الروائي النمسوي هرمان بروخ (1886-1951) بتنوع الأساليب السردية والتقنيات الحبكية التي استخدمها في رواياته يستكشف بها أعماق النفس الإنسانية في أرحب اختباراتها الوجدانية والعلائقية. ومع أن كثيراً من نقاد الأدب يعدونه من أدباء الأسلوب الصعب والمركب العسير، إلا أن صيته ذاع في جميع الأوساط الأدبية الألمانية والأوروبية والأميركية. لم يستهل مسيرته الأدبية إلا في سن الأربعين، بعد أن اختمرت فيه الأفكار ونضجت الرؤى. أما العمارة الأدبية الشاهقة التي بناها فتشتمل على ثلاث رؤى أساسية تعين هوية الإنسان المعاصر التاريخية: انهيار قيم المجتمع البورجوازي، والقلق الميتافيزيائي الذي يلازم البحث المضطرم عن إنسية جديدة، واستفحال خطر الأنظمة الاستبدادية.

الارتداد الروحي والانعطافة المهنية الأدبية

ولد بروخ في مدينة ڤيينا، ونشأ في أسرة يهودية ميسورة امتهنت صناعة الغزل والنسيج. فسار، وهو الابن البكر الأمين على إرث الأسرة، سيراً أميناً على نهج الوالد في الحرفة عينها، ولكنه ما لبث أن أعرض عن هذه الصنعة، لا سيما بعد أن استشعر في داخله الحاجة إلى التأمل الأدبي في وقائع الحياة الإنسانية المعقدة. على رغم انتماء الأسرة اليهودي، اختبر بروخ ارتداداً إيمانياً عميقاً فتحول عن اليهودية إلى المسيحية الكاثوليكية، واقترن بفرانتسيسكا فون روترمان، ابنة صناعي معروف كان قد حظي برتبة النبلاء. بعد أن أنجبت له ابنهما الأول، توترت العلاقة الزوجية وانتهت إلى الطلاق في عام 1923. يبدو أن بروخ كان ميالاً إلى معاشرة النساء خارج الخدر الزوجي. في عام 1927 تخلى بروخ عن ميراثه، وباع مصنع الأنسجة العيلي، وانتسب إلى جامعة ڤيينا من أجل دراسة الفيزياء والرياضيات والفلسفة وعلم النفس. فإذا به يغير مسار حياته كله، ويسلك في سن الأربعين سبيل الصنعة الأدبية الحرة.ش1942)، وفرانتس كافكا (1883-1924) وسواهم. وصادق مجموعة من الأدباء اللامعين من أمثال البلغاري-النمسوي إلياس كانتي (1905-1994)، وعالم الرياضيات الروائي التشيكي ليو بروتس (1882-1957)، والناقد الأدبي النمسوي فرانتس بلاي (1871-1942).

اللافت أيضاً أنه كان منجذباً إلى بضع من النساء الجميلات الموهوبات اللاتي كن يجاهدن في سبيل إعتاق المرأة الأوروبية من سلاسل الأسر والتقليد، ومنهن الصحافية المتحررة الذائعة الصيت أيا فون ألش (1875-1953). بعد خمس سنوات من القراءة الكثيفة والمعاينة الحاذقة والتأمل الحصيف، أصدر روايته الأولى الشهيرة "السائرون نياماً" (Die Schlafwandler) في ثلاثة أجزاء منشورة في دار نشر الراين بمدينة منشن.

الاعتقال السياسي والمنفى الأميركي

في إثر احتلال النمسا النازي وضمها إلى الأمة الجرمانية، اعتقل بروخ عام 1938 في السجون النازية بسبب حيازته بعض المنشورات والمطبوعات السياسية الاشتراكية الهوى. فتنادى أهل الوفاء الأدبي إلى نصرته، وتآزرت الجهود العالمية الرفيعة المستوى يقودها الروائي الشاعر الإيرلندي جيمس جويس (1882-1941) على إخراجه من الحبس. في إثر ذلك، اضطر إلى مغادرة ألمانيا واللجوء أولاً إلى بريطانيا، ومن ثم إلى الولايات المتحدة.

في منفاه الأميركي أكب يستكشف أغوار النفس الجماعية الخاضعة لتأثير الأنظومات والأنظمة والحكومات والحكام والإعلام والرأي. فإذا به ينخرط في أبحاث علوم نفس الجموع أو الجماهير (Psychologie der Massen)، على غرار ما كان ينتهجه الطبيب عالم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا الفرنسي غوستاڤ لوبون (1841-1931). أما الهدف الأبعد فمناصرة التغيير الديمقراطي في المجتمعات الإنسانية، ومؤازرة الجهود المبذولة في سبيل نشر ثقافة حقوق الإنسان والذود عن رفعة الكرامة الإنسانية والاعتصام بالأخلاقيات الصريحة المنبثقة منها، لا سيما في قرائن الأزمنة الحديثة المتجاوزة حقبة التدين الموروث التقليدية.ه

بفضل الإشعاع الأدبي الذي استثارته أعماله الروائية رشحته الأوساط الأدبية لنيل جائزة نوبل الأدبية في عام 1950، قبل أن ينطفئ في عام 1951 بمدينة نيوهاڤن (كونكتيكت) ويدفن في مقابر مدينة كيلنيغورث بالولاية عينها. ينوع بروخ أساليب الرواية، فيستخدم المحاكاة الساخرة في الجزء الأول من رواية "السائرون نياماً"، ويعمد إلى المقال التحليلي في الجزء الثالث من الرواية عينها، ويركن في رواية "موت ڤيرجيل" (Der Tod des Vergil) إلى المبالغة في المدح التوهمي. لا ريب في أن تساكن الأساليب الإنشائية المتنافرة هذه في العمل الأدبي الواحد يغني التعبير ويخصب مخيلة القارئ الحصيف.

تفكك الاجتماع الإنساني في رواية "السائرون نياماً"

ثلاثية "السائرون نياماً" (Die Schlafwandler) باكورة أعمال بروخ الروائية يحلل فيها أسباب تفكك المجتمع الأوروبي في السنوات الممتدة من 1888 إلى 1918. هاله عصرذاك انتصار الذهنية الواقعية وأصحابها النافذين على أهل الرؤى الرومانسية ومناصري الأناركية (Anarchismus) الفوضوية التسيبية العبثية. تنخرط هذه الرواية في أدبيات العصر السائدة، فتتيح لبروخ أن يساير على غير اقتناع واقعية القرن التاسع عشر الوصفية، قبل أن يمضي إلى استثمار موارد التعبيرية (Expressionismus)، مفضياً في نهاية المطاف إلى مجانسة أشكال شتى وأساليب مختلفة تضم الشعر والدراما والسرد والمقال البحثي التحليلي.

تنقسم الرواية ثلاثة أجزاء: الأول يتناول الرومانسية، والثاني يعالج الأناركية الفوضوية، والثالث يتصدى للواقعية. لا تقتصر الرومانسية على ما استثاره الروائي الفرنسي ڤيكتور هوغو (1802-1885) حين أنزل الأدب إلى شوارع المعاناة اليومية، بل تتجاوز ذلك كله لكي تصف التنازع المهلك الذي يعانيه الإنسان حين يجد نفسه متردداً بين خيارين في الحياة يحملان إليه وعوداً متناقضة. يتوسع بروخ في رسم أحوال الرجل الذي تستهويه امرأة نبيلة الحسب والنسب خارقة الجمال لا يستطيع أن يقترن بها، وتسحره امرأة أخرى تمتهن الدعارة وتجذب الفؤاد إليها من غير استئذان.

في الجزء الثاني تظهر علامات الفوضى والتسيب في أوضاع العمال الذين يعلنون الإضراب للمطالبة بحقوقهم، غير أنهم يعودون إلى البحث عن أشغال أخرى تتيح لهم أن يكسبوا رزقهم من غير النظر في شروط الوظيفة والأجر. خلافاً للرؤية الاشتراكية التي ينتظم بها نضال العمال في روايات إميل زولا (1840-1902) على سبيل المثال، يرسم لنا بروخ العبثية الناشبة في وجدان الإنسان العامل، وقد تأثر بانحطاط الأخلاق وانهيار القيم في المجتمع. في هذا الجزء أيضاً يعمد بروخ إلى نحت شخصية الداهية إش (Esch) الذي يستحسن إقامة بطولات المصارعة لجذب الشبان والشابات المنبوذين والحصول على المال والشهرة. تبين لنا المشاهد الفجة هذه الاختلاف الخطر بين ما تنطوي عليه مقاصد الناس في صفائها النظري، وما يصنعونه في معترك معاناتهم اليومية. لا يقبل الشبان والشابات هؤلاء على الرذيلة طوعاً، بل يرتضون بالانحدار الأخلاقي طمعاً في التكيف والتأقلم والمسايرة. وهذه كلها حيل حكيمة من المراوغة التي تطوع الواقع تطويعاً يريح الضمائر من غير أن يعالج عبثية الحياة.

أما الجزء الثالث الذي يصور ضرورات الواقعية فيصف شخصية التاجر هغنو (Huguenau) وصفاً ساخراً، إذ يبيح له كل المحظورات ما دامت تجلب المنفعة وتعزز المصلحة وترسخ الهيمنة، بيد أن المواجهة لا تلبث أن تحتدم بين الرجال الثلاثة الذين يتصارعون على إدارة الجريدة اليومية، وهم يجسدون المذاهب الثلاثة المذكورة، أي الرومانسية والأناركية والواقعية، وكأني ببروخ يختصر صراعات الناس في الحياة العادية، ويظهر تباين اقتناعاتهم وتوجهاتهم، ويسوغ اضطرام التوتر الاجتماعي المتفاقم الذي يفضي إلى انحلال الرباط الإنساني في قرائن المدينة المعاصرة.

يتضح أن الأجزاء الثلاثة هذه تنطبق على ثلاث حقبات محورية يجسدها ثلاثة أبطال: بازنو (Pasenow) بطل الرومانسية (1888)، وإش بطل الأناركية الفوضوية (1903)، وهغنو بطل الواقعية (1918). تتجلى في الحقبة الأولى آثار انهيار الأريستوقراطيا البروسية، إذ يعمد بروخ إلى رسم أحوال العصر الروحية رسماً متشائماً، ذلك بأن مسار تفكك النظام القديم بدأ يصيب جميع حقول الحياة، فيهدد الناس بالاقتلاع ويبث في النفوس مشاعر القلق واليأس من جراء سقوط القيم الموروثة. على غرار شخصيات الروائي التشيكي كافكا، يصور لنا بروخ بأسلوب الروائي الواقعي التقليدي كيف يهرع الناس إلى الحلول الوهمية مختبئين وراء صفائح الأعراف الاجتماعية البالية.

في الحقبة الثانية يستعين كاتب الرواية بالتعبيرية الناشئة، فيصف لنا عالم العمال والموظفين المقيدين بتراتبية المجتمع الظالم، ويفصح عن معاناتهم وكذلك عن نضالهم المحق، على غرار المحاسب إش الذي صرفه مديره لزلة لم يرتكبها. فإذا به ينتفض على الظلم الاجتماعي، ويسعى إلى كسر القيود وخلع السلاسل التي تحبس الأفراد في سجن الأحكام المجحفة. غير أنه لم يحصد سوى الحلول المزيفة والخيبات الموجعة. يصور لنا بروخ في الحقبة الثالثة المجتمع الأوروبي الثائر في إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى. هنا تنفرد شخصية بطل الواقعية هغنو بالقدرة على المراوغة والاحتيال، فإذا به يفوز بمنصب الزعامة في الولاية، محتقراً كل أنواع القيم المعتمدة. أما سر نجاحه الاجتماعي الباهر هذا فتخدر الحس الأخلاقي في وجدانه وانغماسه في عالم الفوضى الكاسحة.

إظهاراً لآثار الانحلال الأخلاقي، لم يختم بروخ الجزء الثالث هذا ختماً روائياً مألوفاً، بل طفق يرفده برسومات لهابة تفضح بشاعات العصر وتبين علة انهيار القيم الأخلاقية. في السياق الانحطاطي هذا، نراه يتحسر على مواقف أبطال الرواية وردود فعلهم السخيفة التي لا ترقى إلى مستوى الأخطار المصيرية الداهمة، ذلك بأنهم لا يحركون ساكناً من أجل تغيير الأوضاع، فيظنون أنهم أسياد الحدث التاريخي، في حين أن الحدث يجرفهم ويفعل فيهم فعلته الإذلالية، لذلك يدينهم بروخ دينونة قاسية ويرذلهم في كهوف الماضي، ويستطلع آفاق الإصلاح، فيعاينه آتياً من مملكة الإمكانات المبنية على عودة الروح الديني الحق الذي يصالح المتناقضات ويتجاوز الصراعات بفضل ترسيخ أواصر المحبة الكونية بين الناس.

لا بد من الإشارة إلى أن طابع الاختبار الحياتي الذي تتصف به هذه الرواية جعل كاتبها يجرؤ في طلب التجديد الإنشائي. في الجزأين الأخيرين، نراه يستثمر كل إمكانات التعبير المتاحة في زمانه، فيحشد الحواشي الإيضاحية ويرتب الإحالات المنهجية على نحو إتقاني يذكرنا بتأثير الفيلسوف هوسرل (1859-1938) في أعماله، فضلاً عن ذلك، يظهر في خلفية الرواية حرص الراوي على استخدام جميع الأساليب والطرائق والسبل التي تساعد في إدراك شمولية الواقع الإنساني وتعقيداته المتشابكة، وذلك كله لكي ترتسم أمام القارئ كثافة الطبقات المتراكمة (Vielschichtigkeit) وتعدد الواجهات الكاشفة. من جراء تواطؤ الأساليب السردية هذا، ارتأى النقاد أن يقارنوا هذه الرواية برواية جيمس جويس "أوليسس" (Ulysses). كان بروخ قد أنشأ عام 1933 بحثاً أدبياً خصصه لأعمال جويس، مبيناً أن رواية "السائرون نياماً" لم تكن لترى النور لو لم يعاين جمالات الرواية الإيرلندية التي تجسد كمال الحبك السردي في الزمن المعاصر.

"موت ڤيرجيل" أو شفاء الإنسان بالحب الوهاب

تتصف هذه الرواية بطابع رؤيوي يستطلع نهايات الزمان وبعثيات الكون المرتقبة عند عودة المخلص المنتظر. من المفيد أن يستذكر المرء الأبحاث التي أنشأها بروخ في فلسفة الفن بعد أن أنهى ثلاثية "السائرون نياماً" وقبل أن يكب على كتابة "موت ڤيرجيل"، وهي الرواية التي تعد تحفة أعماله الأدبية جميعاً. من القضايا الجمالية التي اعتنى بها في هذه المرحلة فنون الكيتش (Kitsch) التي ظهرت في مدينة منشن في الستينيات والسبعينيات من القرن التاسع عشر، وقد عاين فيها محاكاة نازفة تقلد حياة الناس في يومياتهم العادية المألوفة المتكررة، من غير اعتناء بالأبعاد الأخلاقية التي يفترض أن ترافق العمل الفني. يرتئي بروخ أن فنون الكيتش تروم أن تستحضر الحسن والجمال ولا تبالي بالمقتضيات الأخلاقية التي ينبغي للإنسان أن يستهدي بها، في حين أن الفيلسوف الألماني ڤالتر بنيامين (1892-1940) كان يتصور هذه الفنون عملية إبداعية نفعية تلغي المسافة النقدية بين العمل الفني والإنسان المتلقي.

ومن ثم، لم يستطع بروخ أن ينجز ما وعد به من بحث مستفيض في تعليل انهيار القيم الإنسانية، بل عكف من عام 1931 إلى عام 1935 على إنشاء بعض المقالات النقدية التي تناهض المذهب الفلسفي الوضعي (Positivisums) وتستفسر عن قيمة الفن في الزمن المعاصر. في هذه الأثناء، كانت موضوعات القلق والوحدة والعزلة تقض وعيه وتشحذ قلمه حتى شرع ابتداءً من عام 1937 يروي في الإذاعة أجزاء من رواية "موت ڤيرجيل" قبل اكتمالها وصدورها. انبثقت الفكرة الهادية من المقارنة التي أنشأها بين زمنه وزمن الأديب الروماني الشهير (70 ق م -19 ق م)، فإذا به يستعيد مقولة موت الفن الذي لم يعد أحد يستطيع أن يسوغه ويدافع عنه في زمن انحلال القيم الطاغي. ومن ثم، يستحضر بروخ الرواية الأسطورية التي تنسب إلى ڤيرجيل رغبته في إتلاف مخطوطة عمله البديع "إنييد" (Aeneid)، مستعرضاً الأسباب النفسية العميقة التي أفضت إلى مثل هذا المسلك الانتحاري. فكانت أهوال الحروب وفظائع الاقتتال وعثرات الانحراف الأخلاقي في المجتمع الروماني تدفع بالأديب اليائس إلى إنكار مساهمته الجليلة في تهذيب الأخلاق العامة "كان ڤيرجيل يهرب من الواقع، فينظم الأبيات التي لم تكن سوى ضرب من الفرار الانكفائي إلى الجمال".

نشأت الرواية إذاً من قراءات منتظمة بثها بروخ في الإذاعة ابتداءً من عام 1937. وما لبث أن عاد فجمعها بعد مرور ثماني سنوات وأصدرها في عام 1945 في النسخة الألمانية والترجمة الإنجليزية. في هذه الأثناء، كان قد اختبر الاعتقال السياسي والمنفى البريطاني والأميركي وهيجان الأيديولوجيات النازية والفاشية والسوڤياتية القاتلة، فإذا بنص الرواية يختزن معاناة الأديب في صورة الائتلاف الانسجامي بين ضروب شتى من الاختبار الوجداني تتجلى فيه إرادة مراعاة الواقع الإنساني، ورغبة التفلت من قيود الأحداث والاستسلام لاستيهامات الهلوسة المتضاربة، وتذوق النظم القصيدي الحر والنثر الانسيابي المتقن.

تسرد لنا رواية "موت ڤيرجيل" ساعات اليوم الأخير من حياة الأديب الشاعر الروماني الذي هالته عند عودته إلى روما أوضاع الانحلال الأخلاقي الذي فتك بالمجتمع الروماني. فإذا به يتحسر على عبارات المدح التي استودعها رائعته الخالدة "إنييد" (Aeneid)، وفيها يمجد روما وثقافتها وتاريخها وتقاليدها وأعرافها. قبل أن يصل إلى مرفأ مدينة برينديزي في جنوب إيطاليا، كانت حمى الملاريا التي التقط جرثومتها في اليونان قد ألهبت جسده، فقرر أن يحرق ملحمته الخالدة ويدفن ذكرى المدينة الفاسقة.

في الجزء الأول من الرواية، وعنوانه "الماء"، يدخل ڤيرجيل قصر الإمبراطور أوغسطس منهك القوى مقطع الأوصال، يعارك الموت حتى يمهله بعض الوقت من أجل تدبير أمور وصيته. في الجزء الثاني، وعنوانه "النار"، يزجنا بروخ في أودية الرعب والخوف التي يتيه ڤيرجيل في شعابها تيهاً يجعله يكفر بالحياة ويقرر إتلاف مخطوطته حرقاً. يستعيد ڤيرجيل ماضيه ويتأمل في دعوته الأدبية ورسالة الشاعر التي يحتضنها بين أضلاعه، فيدرك أنه أضاع معنى النضال الوجودي الذي أسقطته تفاهة الناس في أوهام المثالية المقتدرة. أما الجزء الثالث، وعنوانه "الأرض"، فيشهد توافد الأصدقاء، وعلى رأسهم الإمبراطور قيصر روما يقنع الشاعر بالحفاظ على الملحمة البديعة "إنييد". في الجزء الأخير، وعنوانه "الهواء"، يسقط ڤيرجيل في أتون الاحتضار ويعاني حشرجات الموت الذي يطبق عليه ويختطفه إلى مساكن الآلهة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من الواضح أن بروخ استعان برمزية الخيبة الوجودية التي عاناها ڤيرجيل في زمنه لكي يشير إلى أحوال الفساد التي أنهكت أوروبا في مطلع القرن العشرين، ولكنه استنجد أيضاً بعظماء الأدب القديم، ولا سيما بأفلاطون، حتى يعبر عن خيبة الإنسان من انحطاط المجتمع الذي يحيا فيه ويعاني الأمرين من جراء مفاسده ومظالمه. على غرار الشاعر الروماني، أخذ بروخ يختبر الدنو من الموت وساعة الأجل، فإذا به يركن إلى التخيل الحلمي المسكون بمناجاة الوجدان المتألم.

"موت ڤيرجيل" رواية مواجهة الموت في وجدان الإنسان، ذلك بأن ارتعاشات الحمى أفضت بالأديب الروماني المتألم إلى دخول عالم اللاوعي المنحجب، بحيث تحول المريض المدنف إلى عراف مستبصر يدنو بالخفر من ملكوت المعرفة المطلقة، فيستجلي غوامض الأصقاع الوجودية النائية، ووجدانه يعتصره القلق الكياني الأعظم، ولكنه لا يلبث أن يستكشف في أعماق الوعي واحة النور يشع من فضيلة الحب الوهاب. حينئذ يعود إلى رشده ويمنح القيصر المخطوطة الثمينة التي كان مصراً على حرقها.

يكشف لنا بروخ عن معاناته الوجودية في كتابة الرواية المضنية هذه، إذ إنه لم يقوَ على اقتحام سر الوعي إلا بفضل انغماسه الكلي في ارتجافات التنازع الإلهامي وتوترات الكتابة التلقائية. غير أن آثار المعاناة الإنشائية هذه ما لبثت أن طبعت النص كله بعوارض البذخ التعبيري، والغنائية الاستبصارية العرفانية، والنشيدية التقريظية المعطاء، والدفق العفوي المتعاظم في رصف الجمل الطويلة المتناسلة. لا ريب في أن جميع السمات التعبيرية هذه أثقلت الرواية وغلفتها برداء من الضبابية الإيحائية التي تلامس النظم الشعري. ومن ثم، تدلنا هذه الرواية على حس المسؤولية التي اضطلع بها بروخ في سعيه الحثيث إلى تصوير وجود الإنسان المكبل بالتناقضات الظاهرة والتعارضات الخارجية. أما التحرر من العبء الكياني فيتحقق بواسطة اختبار الوحدة المنشودة بالمطلق الإلهي اللامتناهي.

في سبيل روحية أخلاقية جديدة

وعلاوة على هذا كله، اعتنى بروخ بتحليل ظاهرة الجنون الهيستيري الجماعي، لا سيما في المجتمعات الخاضعة لمشيئة الاستبداد السياسي، فأنشأ على امتداد ثلاث سنوات (1934-1936) رواية فريدة تكونت على مراحل متعاقبة وحملت عناوين شتى (Der Versucher ; Bergroman ; Die Verzauberung)، قبل أن تعود فتنشر بعد مماته. تشير أحداث هذه الرواية إلى الهوس الجماعي الذي أصاب سكان الجبل من جراء هيمنة مستبد ظالم يرمز إلى هتلر نفسه.

خلاصة القول إن بروخ، في جميع رواياته وأبحاثه، غاص على معاني الإبداع الأدبي، فنظر في تاريخ الإنشاء النثري والقصيدي، واستند إلى معايناته لكي يستكشف أصول المعرفة الإنسانية، ويستجلي مبادئ المسلك الأخلاقي. هاله ما رآه في مجتمعات الاستهلاك المعاصرة الخاضعة لناموس الائتلاف التجمهري العديم الإحساس النقدي. غير أن تحليله هذا لم يقتصر على الأزمنة المعاصرة، بل تناول تاريخ البشرية برمته، مدركاً جسامة التأزم الذي يصيب الوضعية الإنسانية، ذلك بأن انعطاب القيمة في الاجتماع الإنساني ظاهرة كونية ترافق وعي الأفراد والجماعات منذ أقدم العصور. ومن ثم، أخذ بروخ يستخرج ثوابت التأزم الإنساني ويصفه بسمتين اثنين: ترجرج القيم أو تزعزعها البنيوي، ونسبيتها أو نسبانيتها التاريخية. لا بد، والحال هذه، من إنشاء فلسفة أخلاقية جديدة تبتكر قيماً إنسانية نوعية لم يألفها الناس، كتلك التي نادى بها نيتشه في أخلاقيات الإنسان الأعلى.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة