ليس من السهل تناول شخصية معقّدة مثل شخصية باتريشيا هايسميث، فمن أي جانب تبدأ؟ هل من الجانب المحبوب المرح الحسن الطوية، أم الماكر الساخر الغريب الأطوار، المكروه والكاره للبشر؟ لقد اختلفت الآراء بشأن هايسميث اختلافاً رهيباً، ففي حين يصفها البعض بالشخصية المبهجة إلى حد الإمتاع، يصفها آخرون بالحادة الصعبة البالغة الاكتئاب والمتقلبة المزاج. هايسميث كل هؤلاء وأكثر، إنها وفرة من الشخوص تسكن الجسد ذاته، ولا عجب في ذلك بالنسبة لكاتبة غاصت بقرائها في أعماق الغموض والجريمة والإثارة وسحبت السجادة بمنتهى الحسم والسرعة من تحت أقدام كتاب رجال، تميزوا في تلك النوعية من الكتابة المحفوفة بالمخاطر.
حتى وقت رحيلها عام 1995 بسرطان الرئة، لم يكن يعرف عنها إلا القليل نظراً لانطوائها الشديد، وندرة حديثها عن نفسها. يقول أولريخ فيبر، المسؤول عن حفظ إرثها الأدبي: "نحن على وشك استكشاف شخصية هذه المبدعة، التي لم تكن تتكلم كثيراً إلى الجمهور عن حياتها الشخصية، ولحسن الحظ، لدينا الآن الكثير من الوثائق. لقد تركت مذكراتها ودفتر ملاحظاتها والكثير من الرسائل المرسلة لأصدقائها، الذين عرفوها بشخصيتها المعقّدة".
ضحايا الخطأ الرومانسي
بعد عشرة أيام فحسب من انفصال والديها الفنانين، جاي برنارد بلانغمان وماري بلانغمان كوتس، ولدت هايسميث في 19 يناير(كانون الثاني) 1921 في فورت وورث، تكساس، فتبنتها الفنانة ستانلي هايسميث. وحين بلغت الثانية عشرة تُركت في بيت جدتها لعام بأكمله، العام "الأكثر حزناً في حياتها"، ما أحدث أثراً بالغاً في نفسها المنبوذة وولد لديها مشاعر الكراهية تجاه الجميع والأبوين على الأخص. ويرجع الفضل إلى جدتها في تدريبها المبكر على القراءة، واستفادتها إلى أقصى حد من مكتبتها الضخمة المتنوعة، حيث وجدت بين صفحات الكتب تشابهاً مع حياتها المضطربة وبخاصة عند كارل مينيجر وفرويد، وإن لم يسهم ذلك في التخفيف من معاناتها التي امتدت طوال حياتها مع الاضطراب المزاجي، فضلاً عن العديد من الأمراض الأخرى مثل نقص الهرمون الأنثوي وفقدان الشهية العصابي وفقر الدم المزمن.
كتبت هايسميث عن الوحدة والأطفال وربات البيوت والضعفاء والمحتاجين بشكل مقنع وتعاطف شديد، ومع ذلك كانت مكروهة بسبب مزاحها الشرير، وشغفها بقراءة أخبار الجريمة. في هذا الصدد تقر صديقتها فيفيان دو برناردي: "كانت هايسميث مهتمة جداً بفكرة الشر، وبعدما درست جرائم القتل، الحقيقي منها والخيالي على مدى حياتها، توصلت إلى أن ما نسميه شراً، ليس سوى مرض ذهنيّ".
هناك أيضاً جملة من الآراء الصادمة ساعدت على ترسيخ كراهيتها بالنسبة لكثيرين، على سبيل المثال أفكارها المعادية للسامية، واعتقادها الشديد في أن المثليين هم في الأساس شخصيات فاسقة منحلة يعوزها الإخلاص والقدرة الحقيقية على الحب والعطاء، ونفورها الغريب من المرأة في فترة الحيض لدرجة أن تصرح بأنّ لا ينبغي السماح للمرأة الحائض بدخول المكتبات، فضلاً عن عادتها السيئة في قتل نسخ من عشاقها السابقين والتنكيل بهم في رواياتها.
علاقتها بالسينما
قد يبدو هذا المزيج من كره النساء ورهاب المثلية الناجم عن امرأة مثليّة، مفاجئا، لكنها الحقيقة. فبينما لم تكن تحب الآخرين، لم تكن أيضاً تحب نفسها، وإن عرفت بحبها الشديد للحيوانات، لا سيما الحلزونات التي احتفظت بالمئات منها وكانت تصطحبها معها إلى الحفلات في حقيبة يدها ملتصقة بورق الخس.
تحكي الكاتبة والناقدة تيري كاسل كيف قامت ذات مرة "بتهريب حلزوناتها الأليفة عبر الجمارك الفرنسية عن طريق إخفاء ستة أو ثمانية منها تحت كل ثدي". غير أن حيواناتها المحبوبة تحولت بدورها في روايتها "الحلزون المراقب"، إلى وسيلة للرعب والوحشية الجسدية.
بدأت هايسميث مسارها في كتابة الجريمة والإثارة النفسية أثناء دراستها الثانوية، بقصة عن جليسة أطفال قاتلة، لكن مجلة المدرسة رفضت نشرها. وبمجرد أن اتجهت إلى كتابة الرواية، بدأ مسارها مع السينما، حين قام ألفرد هيتشكوك بتحويل أول رواية لها "غرباء على قطار" إلى فيلم يحمل العنوان نفسه، وأخرج رينيه كليمان عن روايتها "السيد ريبلي الموهوب" فيلمه المعنون بـ "ظهيرة قرمزية"، كما قام المخرج الألماني فيم فندرز بتكييف الجزء الثالث من سلسلة ريبلي (سلسلة من خمسة أجزاء) تحت عنوان "صديقي الأميركي"، وكذلك البريطاني أنثوني مانجيلا عمل على إخراج "السيد ريبلي" مرة أخرى. أما الفيلم الوحيد المختلف الذي اقتبس من روايتها الثانية "ثمن الملح" بطولة كيت بلانشيت، فتم تصنيفه ضمن أفلام الدراما الرومانتيكية التي تستمد مادتها من وقائع تاريخية. إنها الرواية التي أعيد نشرها لاحقاً باسم "كارول" عن قصة حب امرأة مثلية تحت الاسم المستعار كلير مورغان في عام 1952، إذ خلت على غير المعهود من الجريمة والوساوس والعنف والأبطال المعتلين اجتماعياً.
وإن كان اختفاؤها تحت اسم مستعار لأغراض أخرى لا علاقة لها بشخصيتها، منها قلقها على مهنتها، وعدم رغبتها في أن يتم تصنيفها على أنها كاتبة مثلية، إلا أنّ من الصحيح أيضاً أنها لم تكن ترغب في أن يكون لها أي صلة بهذا الكتاب المتفائل في الأساس، فالوحدة والخطر والخوف من الأماكن المغلقة هي أجواؤها المفضلة.
الرغبة في إسكات الذات
على الرغم من شهرة رواياتها (22 رواية) واقتباسها مراراً في أفلام، فإن القصص القصيرة، التي دأبت على كتابتها في سن الخامسة عشرة، كانت بالنسبة لها هي الأساس. وحتى وقت رحيلها، نشرت ما لا يقل عن سبع مجموعات، وكان هناك الكثير من المواد الصالحة لجمعها في مجلد صدر بعد وفاتها.
قالت لأحد المحاورين: "القصص القصيرة ضرورية جداً بالنسبة لي، مثل الشعر: أكتب الكثير من كليهما... جزء بسيط فقط من القصص التي كتبتها هو ما قمت بنشره".
في الذكرى المئوية لميلادها جمع محبو هايسميث مذكراتها الكاملة للنشر، ولكن ماذا يعني أن تقرأ مؤلفة تصفها كاسل بأنها "رائدة رواية التشويق النفسي، المثلية الكئيبة، المراوغة المسكرة، وأحد أعظم رواة القصص الأميركيين والأكثرهم سواداً منذ إدغارألن بو؟" أنت بالضرورة لا تتوقع أن تلج أبواب الخير والنور والراحة، بل بالأحرى، ستقطع طريقاً وعراً داخل متاهة تم تصيدك فيها بحرفية ماكرة إلى أن يتزعزع أي إيمان لديك ببني البشر وتتذوق تلك النكهة اللاذعة للخوف والوساوس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حين تقرأ هايسميث، تشعر بالملاحقة من خطر قريب وبشع، وتفقد القدرة على النظر في أي مكان سوى ما تريدك هي أن تنظر إليه. وهو ما تطور في سنواتها الأخيرة على نحو لا يطاق كما ورد في مذكراتها الغريبة: "كنت سأترك راشيل وايز تدهسني بسيارتها". "أرغب في أن تلقي بي ساندرا من مبنى شاهق". "من فضلك يا كيت بلانشيت، دوسي على حلقي". يسمي جيا تولينتينو هذا "الإحساس برغبة قوية في إسكات الذات".
طوال مسيرتها الإبداعية ظلت هايسميث تفضل السرد بضمير الغائب المذكر: "لقد تعثرت مرتين في الكتابة بضمير المتكلم، لذا تخليت عن فكرة الكتابة به". فلم تكن تحب نفسها على الإطلاق، بل والأنكى، كانت تحمل مشاعر مخيفة باحتقار الذات. لذلك يكمن التحدي الأكبر وأنت تقرأها في أن تصل إلى رغباتها وظلامها وتعقيدها، ووحدتها واحتقارها لنفسها ولأمها الرهيبة وحبها للقواقع. كتبت هايسميث في مذكراتها عام 1950: "القتل نوع من ممارسة الحب، نوع من التملك".