Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اغتيال رفيق الحريري والدم الذي أخرج الجيش السوري من لبنان

العدالة الدولية صعبة والمتهمون فارون ومحكومون من دون عقاب

في أحد المهرجانات الانتخابية عام 2000 (أ ف ب)

ملخص

اغتيال #رفيق_الحريري عام 2005 كان بمثابة زلزال أفقد# لبنان توازنه... هنا استعراض لرحلة نجاح الحريري التي انتهت بالموت

منذ بداية القرن العشرين، هزّت العالم العربي عمليات اغتيال كثيرة غيّرت في مسارات الأحداث والتطورات وبدّلت في تاريخ المنطقة. "اندبندنت عربية" تفتح بعض ملفّات هذه الاغتيالات، وفي هذه الحلقة نتناول قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في 14 شباط 2005.

في 13 مارس (آذار) 2023 طلبت غرفة الاستئناف في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، من القضاء اللبناني تنفيذ خلاصات الأحكام ومذكرات التوقيف الغيابية الصادرة عنها بحقّ أربعة من كوادر أمن "حزب الله". ودعت إلى توقيف كلّ من: سليم جميل عيّاش، وحسن حبيب مرعي، وحسين حسن عيسى وأسد حسن صبرا، الذين أدانتهم المحكمة بالتدخل في العمل الإرهابي الذي وقع في 14 فبراير (شباط) 2005 وأسفر عن قتل رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري و21 شخصاً آخرين.

 

وكلّفت المحكمة السلطات اللبنانية بالقبض على المذكورين وتسليمها إياهم، كما طلبت من رئيس قلم المحكمة تزويد حكومة هولندا بنسخة مصدّقة عن الحكم، وأذنت للمدعي العام لديها بأن يطلب من الأمانة العامة لمنظمة الإنتربول أن تصدر نشراتها بما خصّ هؤلاء لتصبح صالحة للتنفيذ كمذكّرات توقيف دولية.

وسارعت النيابة العامة التمييزية في لبنان، إلى تعليق هذه الأحكام ومذكّرات التوقيف على اللوحة الخاصة بها لتبليغ الأحكام عند مدخلها الرئيسي، وفي ضوء عجزها عن تنفيذ هذا الطلب قررت إبلاغ هؤلاء لصقاً بسبب تعذّر القبض عليهم. اللافت في هذه المسألة أن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان للنظر باغتيال الرئيس الحريري تقوم بتصفية أعمالها خلال هذا العام بعد توقف عملية تمويلها. والطلب الذي أصدرته لا يخرج عن إطار وضع الأمور في سياقها القانوني من أجل تحويل قرار الحكم الذي صدر في هذه القضية إلى مسألة أمن دولي من خلال تعميم أسماء المحكوم عليهم الأربعة على الإنتربول الدولي، حتى لا تعتبر هذه الأحكام وكأنّها لم تصدر، وحتى لا تبقى من دون آلية لتنفيذها. فالمحكمة من خلال تجربتها تدرك استحالة أن يقوم القضاء اللبناني بتنفيذ مذكرات التوقيف، ولا حتى بتعميمها على الإنتربول، فتوّلت هذه العملية قبل أن تصفّي أعمالها نهائياً.

مجلس الأمن كان يعرف

في الأساس لم تنشأ المحكمة الدولية الخاصة بلبنان إلا بسبب عجز القضاء اللبناني عن تولّي التحقيق الموضوعي. حجم العملية، وموقع الرجل المُستهدف، وأهمية علاقاته الدولية، وهول الجريمة جعلت مجلس الأمن الدولي يتدخل ويصدر القرار 1757 بالإجماع في 30 مايو (أيار) 2007 حيث أقرَّ إنشاء هذه المحكمة الخاصة للبنان لمقاضاة المسؤولين عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري وجميع الهجمات التي وقعت بين 1 أكتوبر (تشرين الأول) 2004، و12 ديسمبر (كانون الأول) 2005. وهما التاريخان اللذان تحددا بالارتباط مع محاولة اغتيال الوزير الأسبق مروان حمادة والنائب جبران تويني، مع العلم أن جرائم الاغتيالات التي طاولت أشخاصاً معارضين للنظام السوري و"حزب الله" لم تتوقف بعد 12 ديسمبر.

اتخذت المحكمة الخاصة بلبنان مقراً رئيساً لها في إحدى ضواحي لاهاي بهولندا، بالإضافة إلى مكتب في بيروت. وافتُتحت جلساتها في أول مارس 2009، بعدما استكملت بنيتها القضائية والإدارية وأمّنت تمويلها.

 

قبل المحكمة الدولية أنشأ مجلس الأمن لجنة التحقيق الدولية بموجب القرار 1595 الذي صدر بالإجماع في 7 أبريل (نيسان) 2005، من أجل التحقيق في قضية اغتيال الحريري، مع التأكيد على دعمه سيادة لبنان واستقلاله وسلامته الإقليمية. هذا القرار جاء أيضاً بعدما كان الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان أوفد إلى لبنان لجنة لتقصي الحقائق أُعطيت مهلة شهر لإعداد تقرير أولي عن ظروف عملية الاغتيال، وخلُصت بالنتيجة إلى اعتبار أن أجهزة الأمن اللبنانية غير جديرة بالثقة ولا يمكن تكليفها بمهمة التحقيق، كما أن القضاء اللبناني غير قادر على البتّ بهذه القضية في ظلّ الظروف السياسية المسيطرة على لبنان بسبب خضوعها لقرار النظام السوري و"حزب الله".

لم يكن مجلس الأمن الدولي من الأساس بعيداً من المسار الذي أدّى إلى اغتيال الرئيس رفيق الحريري. في 2 سبتمبر 2004 كان أصدر القرار 1559 المتعلق بطلب سحب الجيش السوري من لبنان، ونزع سلاح "حزب الله"، وتأمين انتخاب رئيس جديد للجمهورية، واحترام الاستحقاقات الدستورية. ولكن النظام السوري مع "حزب الله" أهملا هذا القرار واعتبرا أنّه لا يساوي الحبر الذي كُتِب فيه. وبعد يومين من صدوره اجتمع مجلس النواب الموالي بغالبيته للنظام السوري وقرّر التمديد لرئيس الجمهورية إميل لحود. من هناك بدأت عملية التحضير لاغتيال الرئيس رفيق الحريري ووضع حد لمسيرة صعوده السياسي والمالي والاقتصادي في لبنان وعلى مستوى العالم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الحريري والقرار 1559 وتهديد الأسد

اعتبر "حزب الله" والرئيس السوري بشار الأسد أنّ الحريري لعب دوراً في صدور هذا القرار، وبدأت بذلك عملية محاسبته والاقتصاص منه. عندما طُرح موضوع التمديد للرئيس لحود كان الحريري معارضاً. طلب الرئيس السوري الاجتماع به. حصل اللقاء في 26 آب (أغسطس) 2004 وهدّد الأسد الحريري بأنّه سيهدم لبنان على رأسه، وعلى رأس رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط المعارض أيضاً للتمديد. نقل الحريري هذا التهديد إلى المحيطين به. لم يوافق جنبلاط على التمديد بينما عمل الحريري بنصيحة الموافقة لتجنب ردود الفعل السورية، وأيّد مع كتلته النيابية التمديد. ولكن أجواء التهديد الذي تعرّض له كانت وصلت أيضاً إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الذي كان كلّف تيري رود لارسن متابعة تنفيذ القرار 1559، وكان مطلعاً على مجريات معارضة النظام السوري و"حزب الله" للقرار. ولكن في النتيجة لم يمنع كل ذلك من اغتيال الرئيس الحريري.

 

المحاسب الذي صار رئيساً للوزراء

ولد رفيق بهاء الدين الحريري في 1 نوفمبر (تشرين الثاني) 1944 في صيدا في جنوب لبنان. أنهى تعليمه الثانوي عام 1964، ثم التحق بجامعة بيروت العربية ليدرس المحاسبة. عام 1965 قطع دراسته وسافر إلى السعودية، وعمل مدرّساً للرياضيات في مدرسة سعودية في جدة، ثم عمل محاسباً في شركة هندسية. وعام 1969 أنشأ شركة خاصة في مجال المقاولات شاركت في عمليات الإعمار المتسارعة التي كانت المملكة تشهدها في تلك الفترة، ونمت بسرعة خلال سبعينيات القرن العشرين حيث نفذت مشاريع حكومية لبناء المكاتب والمستشفيات والفنادق والقصور الملكية.

ولكن النقلة النوعية التي غيرت مسيرة حياته كانت عندما اشترى "شركة أوجيه" الفرنسية ودمجها في شركته ليصبح اسمها "سعودي أوجيه"، التي أصبحت من أكبر شركات المقاولات في العالم العربي، واتسع نطاق أعماله ليشمل شبكة من البنوك والشركات في لبنان والسعودية، إضافة إلى شركات للتأمين والنشر والصناعات الخفيفة. وحصل على الجنسية السعودية في عام 1978. وفي مطلع الثمانينيات أصبح أحد أغنياء العالم، وعمل كمبعوث شخصي للملك فهد بن عبد العزيز، وتوسّط أكثر من مرّة بين الحكم في لبنان وبين النظام السوري، ونسج شبكة علاقات على المستوى الدولي والمالي. وفي حين ابتعد عن لعب أي دور سياسي مباشر في لبنان في تلك المرحلة، اهتم بتعليم آلاف الطلاب وإرسالهم إلى عدد من الجامعات في العالم. ولكن نقلته الأساسية نحو الاهتمام بالملف اللبناني كانت في اضطلاعه بدور كبير في التوصل إلى "اتفاق الطائف" الذي أنهى الحرب في لبنان ولعبت فيه المملكة العربية السعودية دوراً بارزاً.

بعد اغتيال الرئيس رينيه معوض في 22 نوفمبر 1989 وانتخاب الياس الهراوي خلفاً له رفض النظام السوري طلبه بأن يكون الحريري رئيساً للحكومة لأنّه كان موضع شك، ولذلك اختار عمر كرامي بعد حكومة الرئيس سليم الحص الأولى. ولكن حكومة كرامي سقطت في الشارع بعد موجة إضرابات واضطرابات وقطع طرقات سميت "ثورة الدواليب". اعتبر النظام السوري أنّها كانت محاولة للانقلاب على سيطرته على القرار اللبناني، واتّهم الحريري وحزب "القوات اللبنانية" بتحريك الشارع. ولذلك ذهب إلى خيار تغيير مجلس النواب الذي كان لا يزال قائماً منذ عام 1972 وطلب إجراء انتخابات نيابية جديدة في ربيع 1992 أتت بأكثرية موالية له بالكامل ولم يشارك بها الحريري. بعد هذه الانتخابات أسقط الحرم عن الحريري وقبل بتسميته رئيساً للحكومة وكان يحتاج إلى دوره المالي لتجميد الانهيار الاقتصادي. كان المطلوب منه أن يتعاطى بالاقتصاد من دون الاقتراب من السياسة ولكن الحريري لم يلتزم بهذا الأمر.

 

الصعود السياسي الذي أخاف سوريا

لعب الحريري دوراً أساسياً في التمديد للرئيس الياس الهراوي في عام 1995. وفي عام 1996 شارك شخصياً في الانتخابات النيابية، وشكّل لوائح في بيروت وفي أكثر من دائرة. ولكنّه ارتضى أن تضمّ عدداً من الأسماء الذين اختارهم النظام السوري. والنجاح الذي أحرزه في الانتخابات جعله موضع مراقبة لصيقة من النظام حيث أنه استطاع أن يثبت قدرته على التواصل مع عدد من رؤساء الدول خصوصاً بعد حرب أبريل 1996 بين "حزب الله" وإسرائيل، ومساهمته في التوصل إلى اتفاق لوقف النار.

عام 1998 لم يستطع منع خيار النظام السوري انتخاب قائد الجيش العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية. كان المطلوب قطع علاقة المودة بين رئيس الجمهورية والحريري. وكان وصول لحود إلى القصر الجمهوري لقيادة المواجهة مع قوة الحريري الصاعدة سياسياً واقتصادياً. أوّل ما فعله لحود بعد انتخابه، كان إبعاد الحريري عن رئاسة الحكومة والاستعانة بالرئيس سليم الحص وتشكيل حكومة من الموالين للنظام السوري و"حزب الله". ولكن هذه التجربة انتهت إلى فشل بعد انتخابات عام 2000 التي حقّق فيها الحريري انتصاراً كاملاً متحالفاً مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ومستبعداً ما سمّاه "الودائع السورية" على لوائحه. ولذلك عاد بقوة إلى رئاسة الحكومة وقوي الصراع بينه وبين الرئيس لحود ومحور "حزب الله" ودمشق، الذي كان دائماً متوجّساً من قوة حضور الحريري وعلاقاته الدولية. هذا الصراع اقترب مرة جديدة من حافة الانفجار مع اقتراب موعدين: موعد انتهاء ولاية لحود، وموعد الانتخابات النيابية في ربيع 2005. وترافقت هذه المرحلة مع تطورين: احتلال العراق وإسقاط حكم الرئيس صدام حسين ووصول القوات الأميركية إلى الحدود السورية، وتنامي حركة المعارضة لـ"حزب الله" والنظام السوري في لبنان، وكانت تتشكل من أعمدة ثلاثة هي: البطريرك الماروني نصرالله صفير ومعه "لقاء قرنة شهوان" الذي جمع المعارضين المسيحيين، والرئيس رفيق الحريري، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. وتبلورت هذه المعارضة من خلال لقاءات كانت تعقد في فندق البريستول، الأمر الذي جعل النظام السوري و"حزب الله" يرتابان منها ويحضّران لمواجهتها.

المجازفة والاغتيال

هذه المواجهة برزت بوضوح مع الخلاف حول التمديد للرئيس لحود. صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن اعتبره محور سوريا "حزب الله" تجاوزاً للخطوط الحمر، الأمر الذي وضع الحريري وجنبلاط والبطريرك صفير تحت ضغط كبير. لم يتردّد النظام السوري في فرض التمديد للحود ولكنه كان متوجساً من نتائج انتخابات 2005 في ظل التغيّرات الكبيرة في المنطقة. بحسب ما بيّنت التحقيقات الدولية في اغتيال الرئيس الحريري، بدأت عملية مراقبته اللصيقة بعد التمديد للحود في 4 سبتمبر. في أول أكتوبر 2004 جرت محاولة اغتيال النائب مروان حمادة من كتلة جنبلاط النيابية، والمقرب جداً من الحريري. هذه المحاولة كشفت حدّة الأزمة وقوة الخلاف الذي بلغ ذروته في 14 شباط 2005 مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي قلب المعادلات. على رغم التحذيرات الكثيرة التي كانت تصل إليه، والتطمينات الدولية التي كان يتلقاها، لم تمنع كل التدبير الاحترازية التي اتخذها من نجاح عملية الاغتيال.

رد الفعل الشعبي على الاغتيال كان موجّهاً ضد النظام السوري و"حزب الله"، حيث برزت حركة سياسية معارضة تحمّلهما المسؤولية، بينما كانت الجموع التي احتشدت في تشييع الرئيس الحريري تهتف مطالبة بخروج الجيش السوري من لبنان. لمواجهة هذه الموجة حاول النظام السوري والحزب مسح معالم مسرح جريمة الاغتيال. ولكن الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان سارع إلى اتخاذ قرار بإرسال بعثة لتقصي الحقائق انتهت بعد شهر إلى تقرير يطلب تشكيل لجنة تحقيق دولية وتغيير قادة أجهزة الأمن في لبنان. تدخّل مجلس الأمن لتطبيق القرار 1559 وأكّد الرئيس الأميركي جورج بوش والرئيس الفرنسي جاك شيراك على هذا القرار، فأعلن الرئيس السوري بشار الأسد سحب جيشه من لبنان. في 8 مارس نظّم حزب الله تظاهرة كبيرة في وسط بيروت تطالب ببقاء هذا الجيش في لبنان. ردّت المعارضة بتظاهرة أكبر في 14 آذار طالبت بالانسحاب. في 26 أبريل 2005 انسحبت آخر مجموعة من الجيش السوري وغادر رستم غزالة آخر رئيس للاستخبارات السورية في لبنان. ثم جرت الانتخابات النيابية وحصلت قوى 14 آذار على الأكثرية وتشكّلت حكومة برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة واستمرّ مسلسل الاغتيالات. بعد اغتيال النائب المعارض جبران تويني في 11 ديسمبر 2005 طلبت الحكومة تشكيل محكمة دولية للنظر في قضية اغتيال الرئيس الحريري. في عام 2007 أصدر مجلس الأمن القرار 1757 الذي قضى بتشكيل المحكمة. في عام 2009 باشرت أعمالها وبدأت جلسات المحاكمة في 16 يناير (كانون الثاني) 2014. وفي 18 أغسطس 2020 أدانت المتهم سليم عياش من "حزب الله" بتنفيذ العملية. وحكمت عليه في ديسمبر من العام نفسه بالسجن المؤبد. وفي 10 مارس 2022 أدانت غرفة الاستئناف في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان حسن مرعي وحسين عنيسي بالإجماع. وفي 13 مارس 2023 طلبت من القضاء اللبناني تنفيذ خلاصات الأحكام ومذكرات التوقيف الغيابية الصادرة عنها ودعت إلى توقيف كلّ من عياش، ومرعي، وعيسى وصبرا الذين لا يزالون فارين من وجه العدالة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات