Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ولادة أول بطلة إشكالية في التاريخ: اكتشاف تمثال نفرتيتي

الفرعونة التي خانت زوجها أخناتون مرتدة عن ثورته التوحيدية وعن سعيه لإصلاح العالم

من أشهر صور التمثال النصفي لنفرتيتي (غيتي)

ملخص

جاء اكتشاف تمثال الملكة #نفرتيتي آخر العام 1912، ليحوّل الاسم الذي كان #علماء_المصريات يعرفونه جيداً، إلى أسطورة شعبية، وليعطي المرأة الغامضة شكلاً مجسداً كانت أسطورتها بحاجة إليه حتى تكتمل

لم يكن الشغف بل حتى الهوس الأوروبي ومن ثم العالمي بصورة عامة، بكل ما يتعلق بتاريخ مصر منذ التاريخ الفرعوني حتى التاريخ الكوزموبوليتي الذي كانت تمثله الإسكندرية خلال النصف الأول من القرن العشرين بعدما مثلته هي نفسها أيام الحكم اليوناني ثم الروماني، جديداً حين تحول ذلك الشغف إلى أعمال تنقيب شديدة الكثافة عما تبقى من آثار تنتمي بخاصة إلى مصر الفرعونية عند العقود الأولى من القرن العشرين، حين اكتشف على مرحلتين – وبفارق زمني يصل إلى نحو عشرة أعوام - جزء حاسم من التاريخ الفرعوني على شكل مقابر ومومياءات وأدوات لا تعد وتحصى جرى العرف على اعتبارها جزءاً أساسياً من تاريخ مصر القديمة، سواء كانت من الذهب في مقابر الفراعنة وكبار القوم، أو من معادن أقل قيمة في بيوت من هم أقل مكانة كانت مطمورة بالرمال وتكاد عاديات الزمن تمحوها. وكان الاكتشافان الحاسمان يتمثلان تحديداً في اكتشاف مقبرتين أولاهما تخص الفرعونة نفرتيتي امرأة أخناتون وخليفته، والثانية تخص ابنهما توت عنخ آمون. وعبر ذينك الاكتشافين حدث تغير كبير في النظر إلى التاريخ الفرعوني برمته بل حتى في تاريخ الأديان.

يوم ظهرت نفرتيتي

طبعاً لن نخوض هنا في هذه المسائل التي شغلت المنقبين والمؤرخين وغيرهم طوال القرن العشرين ولا تزال تشغلهم حتى اليوم. لكننا سنتوقف عند ذلك الاكتشاف الأول الذي يمكن اعتباره إشارة الانطلاق: الاكتشاف المتعلق بنفرتيتي والذي إلى كونه تجسّد في كم كبير من الأدوات المبهرة والثمينة، كان هو باستباقه الاكتشاف الثاني المتعلق بتوت عنخ آمون. إشارة جديدة إلى انتقال الاهتمام بمصر القديمة هذه المرة من حيز التاريخ والحياة اليومية وعالم الآثار، إلى حيز جديد لم يكن في الماضي يبدو مثيراً للاهتمام. فإذا كان العالم قد اكتشف مصر القديمة منذ زمن بعيد، وكانت الأهرامات تعتبر قبلة السياح في العالم، كما كان الكثيرون من أبناء الطبقات المثقفة في طول الغرب وعرضه يعرفون، غيباً، أسماء أبناء الأسر التي حكمت مصر في زمن الفراعنة، ولم يكن يمضي شهر إلا ويصدر كتاب أو أكثر عن مصر، ما كان قد أطلق نوعاً من الهوس الرومانسي العالمي بكل ما يمت إلى مصر القديمة بصلة. بدا واضحاً هذه المرة أن ثمة ثورة في النظر إلى ذلك التاريخ: ثورة فكرية وأيديولوجية لم يكن أحد ليعتقد أن التنقيب عن الآثار سيوصل إليها يوماً. وأقل من ذلك أن ما سيوصل إليها لم يكن، من الناحية المبدئية سوى اكتشاف "بقايا" امرأة حتى ولو كانت اشتهرت في التاريخ بكونها فرعونة! مهما يكن فإن الهوس بمصر كان لا يزال بحاجة إلى امرأة رامزة ليكتمل. ومن هنا جاء اكتشاف تمثال الملكة نفرتيتي آخر العام 1912، ليحوّل الاسم الذي كان علماء المصريات يعرفونه جيداً، إلى أسطورة شعبية، وليعطي المرأة الغامضة شكلاً مجسداً كانت أسطورتها بحاجة إليه حتى تكتمل.

خروج عن الثلاثي الخالد

وهكذا في يوم من آخر أيام ذلك العام وقبل "اكتشاف توت عنخ آمون" بعقد من الزمن (السيدات أولاً من فضلكم حتى أيام الفراعنة!)، وفيما كان عالم الآثار الألماني لودفيغ بوركهاردت ينقب مع عماله بين أطلال منزل النحات المصري القديم توت موسيس، تم العثور على التمثال النصفي الذي يمثل نفرتيتي. وما إن انتشرت صور التمثال في العالم أجمع حتى بدأت تتركب بالتدريج حكاية وأسطورة تلك المرأة، بحيث صار التمثال، منذ ذلك الحين، يضاهي في أهميته وشهرته، أهمية وشهرة لوحة الموناليزا، وتمثال أفردويت ما جعل هذا الثلاثي "الأنثوي" الفني، أعظم وأشهر ثلاثي في تاريخ الفنون. ومع ذلك بالنسبة إلى كثر من المؤرخين الذي راح اهتمامهم بالتمثال يتزايد عاماً بعد عام، بدا واضحاً لهم أن ثمة بعداً في هذا التمثال وفي تاريخ تلك الملكة يتجاوز ومن بعيد ما يمثله العملان الفنيان الآخران: ولسوف يحدد ذلك البعد بعد حين بكونه بعداً فكرياً تختبئ خلفه أمور عديدة كما سنرى في السطور التالية. وذلك بالنظر إلى أن تمثال نفرتيتي الذي عثر عليه يومها في قرية العمارنة المصرية التي كانت أيام الفراعنة عبارة عن مدينة مزدهرة تحمل اسم أخت آتون، أتى منسجماً إلى حد كبير مع الصورة الوهمية التي كانت قد رسمت في الأذهان لنفرتيتي زوجة الفرعون أمينوفيس الرابع، الملقب بأخناتون. والحال أن تلك الملكة الحسناء لم تكن زوجة أخناتون وحسب، بل كانت ملهمته أولاً وأخيراً. كما كانت من أول المؤمنين به وبأفكاره الدينية الجديدة التي أتى بها في ذلك الحين لتشكل صدمة كبيرة للمعتقدات السائدة.

العائلة بين السياسة والدين

ومن المعروف أن أخناتون كان أول من آمن بالتوحيد، وجعل عبادة الشمس بديلة للعبادات المتعددة الأخرى. ولقد عاش أخناتون في الألف الثانية قبل الميلاد وحكم بين العامين 1364 و1347، خلال فترة شهدت فيها مصر الفرعونية ازدهاراً فكرياً كبيراً وثورة دينية يجعلها الكثير من الباحثين في جذر الثورات الدينية التوحيدية التي عرفها العالم خلال القرون التالية. يومها، وفي سبيل نشر دعوته وتقويض سلطة رجال الدين الذين عارضوها بقوة، اضطر أخناتون إلى أن ينقل عاصمة الملك من طيبة إلى أخت آتون، ما جعله في مأمن مكنه من نشر إصلاحاته الدينية. وخلال كل مسيرته الاصلاحية ارتبط اسم أخناتون باسم زوجته نفرتيتي، بحيث جسد الزوجان معاً تلك الثورة الإصلاحية الهائلة، وراحت الصور الجدرانية تتفنن في تصويرهما معاً، ومع هذا فإن بعض المؤرخين يروي ما مفاده أن نفرتيتي عادت وتخلت عن أخناتون خلال العام الخامس عشر لحكمهما الثنائي، وبأنها قد انضمت إلى حزب الرجعية الدينية وانطلقت تعيش في الجزء الشمالي من المدينة. وحتى لو أن الباحثين لم يتوصلوا أبداً إلى معرفة كم عدد السنوات التي عاشتها ولا أين أو كيف ماتت، فإن هناك من الفرضيات ما يقول إنها أثرت تأثيراً كبيراً على ابنها الذي تولى العرش وهو في التاسعة من عمره بعد موت أبيه، ومن المعروف أن الاسم الأول لذلك الابن كان توت عنخ آتون تيمناً باسم الإله التوحيدي (الشمس) الذي دعا أخناتون إلى عبادته، غير أن احتضان كهنة آمون، المعادين للأب، للفرعون الجديد الفتي، وربما بتأييد من الأم، جعل الفتى ينصرف عن عبادة آتون، خلال الأعوام التسعة التي حكم خلالها، ويعود إلى عبادة آمون، مما جعله يلقب بتوت عنخ آمون، بدلاً من توت عنخ آتون، كما جعله يعيد عاصمة الملك إلى طيبة أملاً في أن ينسى الناس اسم مدينة أبيه أخت آتون إلى الأبد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

صورتان لامرأة واحدة

إذن، من هذا كله تطالعنا نفرتيتي في صورتين، صورة الملكة ذات النزعة التوحيدية الوفية لزوجها ومبادئه، خلال المرحلة الأولى من حياتها، ثم صورة المرتدة عن دين التوحيد الساعية لإعادة ابنها إلى الطريق القويم. وازدواجية الصورة هذه هي التي جعلت لنفرتيتي أسطورتها وجعلتها تعتبر، "بطلة إشكالية" في القطع الأدبية التي كتبت عنها. أما اكتشاف تمثالها النصفي بين أطلال المدينة التي شهدت مجد زوجها وثورته الدينية، فقد أتى ليضفي على الأسطورة صورتها، كما أشرنا. وبقي أن نذكر أنه بما أن التخلص من الآثار المصرية كان عملة رائجة في تلك الأيام، فإن التمثال المكتشف، عهد به من قبل دائرة الآثار المصرية إلى متحف برلين الذي احتفظ به، وصار يعيره بين وقت وآخر لمعارض ومناسبات، حيث أخذ التمثال في كل مرة يعرض فيها على الناس يثير من جديد اهتمامهم بحكاية تلك الفرعونة، ويعيد إلى الأذهان من جديد بدايات التوحيد كما دعا إليها أخناتون وقصص الارتداد كما تمثلت في ابنه توت عنخ آمون، والغدر كما يفترض أنه تمثل في تلك المرأة التي صارت مع الأيام واحدة من أشهر نساء التاريخ.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة