Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نجوى العتيبي تتخيل مستقبل الإنسان في زمن الآلة

"رف اليوم" رواية تنطلق من الواقع المأزوم إلى السرد الخيالي العلمي

لوحة للرسامة آريا عطي (صفحة الرسامة - فيسبوك)

ملخص

"#رف_اليوم" رواية تنطلق من الواقع المأزوم إلى #السرد_الخيالي_العلمي

ماذا ينتظر العالم في نهاية هذا السباق التكنولوجي المحموم، لاستحداث تطبيقات متقدمة في مجالات الذكاء الاصطناعي، ومحاولات دمج الإنسان مع الآلة؟ يرى المتفائلون أن الطفرة التي يشهدها العالم في هذا المجال، ستقود بالضرورة إلى مزيد من رفاهية الإنسان، لكن تجارب الإنسانية السابقة، توثق أمثلة عديدة لإساءة استخدام العلم والتكنولوجيا، وتوجيههما نحو ما يضر الإنسان، ويهدد بفنائه. وربما كان ذلك أحد الأسباب التي دفعت علماء، ومفكرين، وناشطين حول العالم، للإعراب عن مخاوفهم، بشأن ما يمكن أن يتسبب فيه الذكاء الاصطناعي، وتفوق الآلة، من فناء للبشرية. هذه الرؤى والمخاوف استثمرتها الكاتبة السعودية نجوى العتيبي في روايتها الأحدث "رف اليوم"، الصادرة حديثاً عن دار أثر للنشر -السعودية.

تندرج الرواية في فئة الخيال العلمي، وتدور أحداثها في مستقبل مبهم، لكن استدعاء الكاتبة بعض التقنيات المعروفة في الوقت الراهن، مثل إنترنت الأجسام، والأشياء، وتقنيات التتبع، والمستشعرات، وقيامها بتوظيف هذه التقنيات داخل النص، أحال إلى رؤى استشرافية تنذر باحتمالية وقوع ما ساقته من أحداث خيالية في المستقبل المنظور. ومثلما جهلت العتيبي الفضاء الزمني للسرد، جهلت كذلك فضائه المكاني. ومنحت بطلها "9 ك" صوت الحكي، لتتيح له حرية التعبير عن عوالمه الداخلية. وتزيد من صدقية وحميمية السرد. وتعزز عبر أزماته وانقساماته ومخاوفه، حالاً من التماهي مع النص. "شيء ما تحاول معرفتي الداخلية المسبقة تنبيهي منه، كنت أبدو كمن فقد السمع فجأة، أو كأن الناس صاروا حشرات صغيرة يتحدثون ويتحدثون بلا صوت مسموع، وهذا ليس هو الشعور الأول الغريب الذي يعتريني هذه الأيام، وهو ما يجعل كل شيء مرعباً الآن" ص 50.

العالم الجديد

شرعت الكاتبة رحلتها السردية بعنوان دال "رف اليوم"، وهو يحيل إلى التسليع، وسيادة القيم الاستهلاكية. ورسمت منذ بداية السرد صورة للعالم الجديد، الذي تدور فيه الأحداث، الذي يستحيل فيه كل ما هو إنساني إلى سلعة، فالبطل يبحث في المتاجر، وعلى المواقع الإلكترونية عن صديق، ولا يبالي بالسعر وإن كان مرتفعاً ما دام يحمل المواصفات المطلوبة. وفي مقدوره أيضاً التخلي عنه وإعادته وإن كان بدافع الملل، وليست الصداقة وحدها ما يمكن إنتاجه وعرضه كسلعة، فهناك خطوط مرتقبة لإنتاج الوالدين، ولإنتاج العشيقة، والأطفال أيضاً. 

 

حتم الزمن المستقبلي الذي اختارته الكاتبة فضاء للسرد، لجوءها إلى  تقنيات الوصف، واستخدامها بكثافة لإبراز السمة الآلية المهيمنة على العالم الجديد، البعيد بصفاته وخصائصه عن الواقع المعيش. وجسدت مكوناته من البيوت الزجاجية، والرفوف، والأمطار المعدنية، والمياه الرقمية، والقبة السماوية، والعشب الرقمي، والحبوب والأدوية الرقمية، واللحوم المصنعة، والأجساد الآلية التي لا تترك فيها الجراحة أثاراً ولا ندوب. واختارت للأماكن أسماء تتسم بالآلية نفسها "وحدة نقاط الضبط المنهجي، وحدة إعادة تدوير الأصدقاء القدامى، وحدة التنظيم الجديد، وحدة إعادة تنظيم العقول...". وكذلك للشخوص الذين كانت أسماؤهم مجرد أرقام، تنزع الصفة الإنسانية عن أصحابها لصالح التشييئ، والتسليع، والآلية. واتساقاً مع كل هذه المعطيات في هذا العالم، لعب العلماء دور الجنود في معاقبة المتمردين والمنشقين.

وسادت قيم جديدة تعبر عن هيمنة الآلة، فلا تراث، فقط حياة مملة وباردة. ولتأكيد هذا الطابع الآلي للحياة والشخوص، لجأت الكاتبة إلى تقنية التكرار عبر استخدامها بعض العبارات مثل، "آلة معطوبة"، "لا أحد يشتري الأصدقاء لهذا السبب". وكما برعت في وصف الفضاء المكاني المتخيل، أجادت كذلك، عبر المونولوغ الداخلي وتيار الوعي، سبر أغوار الشخوص، وتجسيد ما يعتمل في دواخلها من مشاعر الخوف والفزع، النفور، اللامبالاة، الصدمة والاغتراب. "هل يعقل أننا جيل جديد من البشر؟ هل فعلاً يوجد بشر مسلوبين بالطريقة التي يتحدثون عنها، هل اللقاحات قادرة على قلب عالمنا بهذه الطريقة! بقيت أفكر من دون أن أهتدي إلى شيء". ص57.

وعمدت العتيبي إلى استخدام الحوار المسرحي في مواضع متفرقة من النسيج، وعززت عبره الإيهام بالحدوث. وحرصت على استخدام لغة تتسق مع طبيعة الشخوص، ومع السمة الآلية المهيمنة على فضاءات السرد. وكانت في مجملها لغة مشهدية تضع الأحداث في مرمى العين، وقادرة كذلك على استنفار الحواس. "رأيت المدينة الزجاجية للمرة الأولى وهي تنهال على نفسها وتصرخ بشكل غريب، كانت المدينة تصرخ كأنها حنجرة تجرب صوتها للمرة الأولى". ص107.

الصراع والتحول

مع تدفق الأحداث التي تدافعت في نسق أفقي، تخللته ومضات من الفلاش باك، تجلت مأزومية البطل الذي تكشف عن أنه آلة معطوبة، لكونه لم يتخل عن إنسانيته بالكامل، بعد اختراقه من قبل النظام الجديد، والسيطرة عليه بواسطة شرائح إلكترونية مزروعة في جسده وعينيه. فعلى رغم ما تحقق له من مزايا آلية، مثل قوة الذكاء، والتذكر، والقوة البدنية المفرطة، كان لا يزال يشعر بالحب، والسعادة، ويبدي رود أفعال خاصة تجاه بكاء أمه. وهذا الانقسام أو العطب كان نواة الصراع، الذي احتدم بينه وبين نظام آلي، يحاول سلب إنسانيته، ويخشى خطورته في حال انضم للمنشقين من العالم القديم، بينما زج به الانقسام نفسه، إلى أتون صراع داخلي بين آليته وبشريته. فهو لا يعرف سوى العالم الجديد الذي يوجد فيه بيته وعمله وأمواله وخبراته، في حين ينجذب إلى دفء عالمه القديم، حيث السعادة إلى جانب حبيبته، والأمان في كنف والديه، ومع أصدقائه القدامى.

وكان الحب، الثغرة الرئيسة التي تسببت في إفساد آليته، وإذكاء صراعه الداخلي، الذي كان بدوره مقدمة منطقية لما طرأ عليه من تحولات، وتمهيداً لاستعادته إنسانيته. فقد استحال غضبه من أمه، ورغبته في استبدالها، إلى الاحتماء بها. وحل محل نفوره من القدامى، واتهامهم بالرجعية، رغبة صادقة في البقاء بينهم. "كل شيء كان رائعاً في هذه الليلة، حتى أنني لعنت وقتها الأشياء الزجاجية الشفافة التي تحاصرني، وشعرت بدمعتي للمرة الأولى تتسرب من العصابة، فرحت لأن الشيء الذي استيقظ بداخلي، بدأ يطلب الحياة ويتحسسها بيديه كطفل صغير وهو يمسك بيد أمه باكياً" ص65.   

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 لم تكن المأزومية قدر الشخصية المحورية وحدها، بل تقاطعت معها بقية الشخوص، التي نالت هي أيضاً نصيباً من المعاناة والانقسام. فالأم تجرعت الحزن والخوف، نتيجة استلاب ابنها واختراقه. وانقسمت بين اليأس، والأمل الذي دفعها لمواصلة محاولاتها من أجل استعادته. أما الحبيبة "سبعة" فلم تطمئن للارتباط به، على رغم قوة شعورها نحوه. وظل الصديق "35" يواجه الاضطهاد من النظام، جراء مقاومته له، بينما تراوح القدامى بين عزلة في مزارعهم، وبين محاولات مناهضة النظام الجديد، والتمرد عليه، ورفض خطوط إنتاجه، والتصدي لمحاولاته في اختراقهم. هذه الصراعات على كل مستوياتها الداخلية والخارجية، أسهمت في الدفع بعجلة الأحداث. وأبرزت صوراً عديدة لثنائيات متناقضة، ترواحت بين الخير والشر، القديم والجديد، الحزن والسعادة، اليأس والأمل، الاستسلام والمقاومة.

وأكسبت السرد دينامية وحيوية. وكانت جسراً دفعت الكاتبة عبره، بجرعات من التشويق، والترقب، وحبس الأنفاس. وكانت كذلك وسيلتها لإبراز التقابل بين عالم القدامى، وعالم الآلة. وعقد مقارنات ضمنية تنحاز إلى الإنسانية، وتنبذ التطور الذي يمنح الآلة ذكاء خارقاً، ويسعى إلى دمجها مع الإنسان، بدعوى الرفاهية، في حين أنه يقود العالم إلى كارثة، تهدد بفنائه ونهايته. وقد عززت العتيبي هذه الرؤى، عبر ما ساقته من أحداث تدحض ما تبدو عليه مدينة العالم الجديد من نظام واستقرار. فأحال قيام منتج صديق بسرقة البطل، والتجسس عليه لصالح دولة أخرى، إضافة إلى اجتياح المدينة، موجات من التمرد والعنف، إلى أن فكرة الخير المطلق، أو الرفاهية المطلقة عن طريق الآلة والذكاء الاصطناعي، ليست سوى وهم وخديعة كبرى، تخفي في طياتها دمار البشرية. 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة