Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جوناثان كو يروي أزمات التاريخ البريطاني الحديث وأجياله

"بورنفيل" جدارية عائلية تعرّي مساراً سياسياً وتكشف الأسباب التي قادت إلى بريكست

الروائي البريطاني جوناثان كو (دار غاليمار)

ملخص

رواية "#بورنفيل" #جدارية عائلية تعرّي مساراً سياسياً وتكشف الأسباب التي قادت إلى #بريكست

لا حاجة، لفهم تاريخ بريطانيا الحديث والخيارات التي تحكّمت في طريقة تطوّر مجتمعها، إلى قراءة الأبحاث العديدة المتوافرة حول هذا الموضوع، إذ تكفي مطالعة روايات الإنجليزي جوناثان كو التي، إضافةً إلى إجابتها بأكثر الطرق ذكاءً وحساسية على الأسئلة التي يمكن أن نطرحها في هذا الشأن، تمنحنا تلك المتعة، التي وحدها الأعمال الأدبية الكبرى قادرة على توفيرها.

جديد كو رواية تحمل عنوان "بورنفيل"، وهو اسم بلدة صغيرة تبعد بضع كيلومترات عن مدينة برمنغهام، مسقط رأسه. رواية تعمّد صاحبها نشرها بالتزامن في وطنه وفرنسا وإيطاليا للتدليل على تعلّقه بهويته الأوروبية وتوجيهه بذلك، رسالة واضحة تحدد موقفه السلبي من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. خروج سبق وكرّس لأسبابه روايته الرائعة "وسط إنكلترا" (2018)، وها هو يتابع تنقيبه في هذا الموضوع في روايته الجديدة عبر إعادة قراءته العقود السبعة الأخيرة من تاريخ وطنه.

وفعلاً، من نهاية الحرب العالمية الثانية في الثامن من مايو ( أيار) 1945 إلى ذكرى النصر في الثامن من مايو 2020، مروراً بتتويج الملكة إليزابيت الثانية عام 1953، ونهائي كأس العالم لكرة القدم عام 1966 التي تقابل فيه الفريقان الإنجليزي والألماني، وحفلة تنصيب تشارلز الثالث أمير ويلز عام 1969، ثم حفلة زفافه بديانا عام 1981، فوفاة هذه الأخيرة وجنازتها عام 1997... يستعين كو بهذه المحطات التاريخية السبع لمقاربة موضوعه وتشييد صرح روايته الضخمة، المقسّمة تحديداً إلى سبعة أجزاء. محطات لا تعكس طبيعتها إطلاقاً، تعلّق كو بالملكية في وطنه أو شغفه بكرة القدم، لأن مقصده منها هو تسليط الضوء على النظرة التي يلقيها مواطنوه على هذه المناسبات الجماهيرية الكبرى، واستكشاف عوامل اللحمة أو الانقسام داخل مجتمعه على مر العقود، كمشاعر المعاداة لألمانيا، العائلة المالكة، النزعة الانفصالية الويلزية، التاتشرية، العنصرية تجاه الأجانب، المثلية، التشكيك في هوية بريطانيا الأوروبية، بريكست...

7 أحداث وطنية

 

باختصار، سبعة أحداث وطنية نتابعها من خلال النظرة المتعددة لأفراد عائلة إنجليزية بورجوازية واحدة. وفي قلب هذه العائلة، ماري لامب التي استوحى كو شخصيتها من حياة أمه، علماً أن "أي علاقة بتاريخ عائلتي تتوقف عند هذا الحد". في مدخل الرواية، الذي تقع أحداثه عشية انتشار وباء كورونا، نرى ماري في الثمانين من عمرها تعاني من مرض تمدد الأوعية الدموية، قبل أن تعود السردية بها، وبنا، إلى أزمنة بطولية تسكن ذكراها أبداً الخيال القومي البريطاني، بدءاً بطفولتها في بورنفيل، تلك البلدة الصغيرة التي يعود الفضل في تأسيسها، مطلع القرن الماضي، إلى صاحب مصنع الشوكولا البريطاني "كادبوري"، وقد شكّلت نقطة تقاطر ثابتة لعائلة هذه المرأة.

عام 1945، كانت ماري في سن الحادية عشرة، تهوى العزف على البيانو، لكنها تكره الدروس التي تتلقاها من معلمتها القاسية لتحسين عزفها. وربما لذلك اختيرت لاحقاً أن تكون معلمة رياضة ذات حيوية كبيرة، بخلاف الشاب جوفري الذي تتزوج منه، وهو مثقف متحفّظ وقليل الكلام ينكشف تدريجاً جانبه الأنوف وكرهه للأجانب. من هذا الشاب، تنجب ماري ثلاثة أطفال: جاك الشغوف برياضة كرة القدم الذي يؤيد حين يكبر سياسة مارغريت تاتشر ثم اتفاقية بريكست، مارتن العقلاني الذي يصبح يسارياً مقتنعاً بانتمائه الأوروبي، وبيتر المقرّب من أمه الذي يمتهن الموسيقى ويكتشف مثليته في فترة متأخرة من حياته. شخصيات نتتبّع مسارها، كل واحدة على حدة، ونتعرّف من خلالها على الشخصيات الغزيرة الأخرى التي تسكن الرواية ويتجاوز عددها الثلاثين. أجيال أربعة تعكس نجاحاتها وخيباتها ومغامراتها وانقساماتها، التحولات العميقة التي شهدتها بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية.

عائلة ماري

 

قصة عائلة ماري مشوّقة، لكنها معقّدة وغنية بحيث يتعذّر تلخيصها هنا ببضعة سطور. ما يمكننا أن نقوله هو أننا نضحك ونحزن، نثور ونكتئب، لدى متابعتها، وبالنتيجة، نتعلّق بأفراد هذه الأسرة وتتعمّق معرفتنا بهم إلى حد إدراكنا مزاياهم وعيوبهم، والتباين الكبير في شخصياتهم. وأيضاً محنة كلّ منهم إثر تبلبل نقاط إرشادهم وتشرذم مجتمعهم وجنون العالم الذين يعيشون فيه. إدراك مصدره سرد كو الماهر والمرفق على طول الرواية بتحليل سياسي وإجتماعي حاذق للحقب والأحداث المعاشة.

هكذا نعرف معه أن خمسينيات القرن الماضي في بريطانيا كانت، بالنسبة إلى الكثير من أبنائها، حقبة الأمل في تغيير ظروف الحياة والحكم فيها، وهو ما لم يتحقق؛ والستينيات كانت حقبة النهضة الثقافية، ولكن أيضاً حقبة الرهاب من المثلية والأجانب والنزعات الإنفصالية القومية؛ وحقبة تاتشر اتّسمت بصعود الحس القومي الإنجليزي وارتفاع حدة التوتر مع أوروبا حول معايير التبادل التجاري، وهو ما يستغله مذّاك بوريس جونسون، وكان لا يزال صحافياً يكتب في عدة صحف يومية و"يتألق" بمقالات قارصة معادية للاتحاد الأوروبي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أجزاء الرواية تتفاوت في حدّتها، وأحياناً تعاني من بعض الإفاضة في عملية السرد. لكننا نستمتع عموماً في عبور تاريخ بريطانيا الحديث من خلال البورتريه الرقيق والدقيق لعائلة ماري التي لن يحلّ التسامح بسهولة داخلها. فبخلاف ماري شخصياً التي تتقبل مثلية ابنها بيتر وزواج ابنها مارتن من شابة سوداء، يفشل زوجها جوفري حتى النهاية من تحقيق ذلك، وينقل إلى ابنه جاك جانبه المحافظ والمعادي للأجانب.

نبرة غضب

وهذا ما يفسّر نبرة الغضب في الجزء الأخير من الرواية، المجبول بحزن وعياء واضحين. جزء مرصود لحقبة ما بعد "بريكست"، لكن أكثر ما يفتننا فيه هو الصفحات المكرسة لماري التي باتت في سن الثمانين وتعيش سجينة منزلها بسبب وباء "كوفيد"، محرومة من زيارة أولادها وأحفادها. وتحديداً الفصل الذي يحمل عنوان "قمة جمجمة أمي" وتتوقف فيه عينا ابنها بيتر عند الشيب الذي اكتسح شعرها بسبب حنيها رأسها أمام كاميرا الحاسوب لدى حديثها معه، الأمر الذي يشكّل مناسبة للكاتب للتوقف عند آثار تدهور الجسد في سن الشيخوخة. هنا، تكسب الرواية عمقاً وتدعو قارئها إلى التأمل في الزمن العابر وكيفية إعادة تملّكه، على طريقة مارسيل بروست. وفي هذا السياق، يُظهِر كو أن ما يتحرّك ويتغيّر هو الأشياء الأكثر سطحية التي تبدو لكثيرين مهمة في زمنها (مَن يحكم، من يتربّع على العرش، من فاز بكأس العالم لكرة القدم...)، بينما ما يبقى ثابتاً ودائماً هو تلك اللحظات الحميمة المشحونة بمشاعر عميقة، والمرسّخة أبداً فينا، بقوة الذكريات القادرة على تعليق الزمن واستعادته.

ولا يكتمل عرضنا لروايته من دون الإشارة إلى تنويعه فيها، أدواته السردية بطريقة تساهم في إحلال أجواء كل حقبة مقارَبة، كتضمينه رسالة أو جزءاً من دفتر يوميات، أو نقله حرفياً خطاب ونستون تشرشل إلى البريطانيين في اليوم التالي من نهاية الحرب، أو الطريقة التي غطّت فيها إذاعة "بي بي سي" مراسم تنصيب الملكة إليزابيت الثانية على عرش بريطانيا، مراسم تنصيب ابنها تشارلز كأمير ويلز، ومراسم دفن الأميرة ديانا، أو بعثرته داخل متن سرديته تعليمات الحكومة البريطانية لمواجهة وباء "كوفيد".

ومن خلال هذه الأدوات وغيرها، يبيّن الكاتب كيف أن الرموز (مرونة البريطانيين أثناء الحرب، تعلّقهم بالملكية، تفوّقهم على المستوى الموسيقي... )، انتصرت في وطنه على الواقع الاقتصادي واستُثمرت للترويج لفكرة القلعة الليبيرالية المحاصَرة من التكنوقراط الأوروبيين، وكيف أن تحمّس أبناء وطنه لجايمس بوند وآل وندسور، يعكس هشاشة ما يجمعهم ويلحم مختلف فئات مجتمعهم. والنتيجة، أن القومية البريطانية، مثل جميع القوميات، تقوم على خرافات واستيهامات وردود فعل حماسية بائسة.

باختصار، يحثّنا كو في هذه الرواية على التأمل في السلطة وشروط ممارسة طبقة سياسية لها، باتت، بسبب تراجع سلطتها تحديداً، تلجأ إلى رمزية شعوبية خطيرة تقود إلى الإنطواء على الذات وتمجيدها، بدلاً من الإنفتاح على العالم.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة