Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تماثيل الميادين المصرية تحت "مطارق الهواة"

تثير سخرية العابرين ورواد مواقع التواصل ومصيرها الإزالة وأساتذة نحت يتساءلون: أين ذهب خريجو الفنون؟

يطالب متخصصون بوجود لجنة فنية تقيم الأعمال الفنية التي تعرض في الميادين (مواقع التواصل)

في بلد يفاخر بحضارة امتلأت بفنون كثيرة كان #النحت أحد علاماتها الشامخة، باتت #التماثيل الجديدة في ميادينه مادة خصبة للسخرية والتندر.

من بناة الأهرام في سالف الدهر إلى محمود مختار وآدم حنين، داعبت أنامل مصريين الحجارة فشكلت فناً لا تخطئ عبقريته عين. غير أن نماذج لمنحوتات ظهرت في ميادين مصر شوهت هذه الصورة وسط أصوات تتساءل "أين ذهب فن النحت المصري؟".

سلسلة طويلة من تماثيل دعت إلى الدهشة. كان أبرزها تمثال للملكة الفرعونية نفرتيتي في مدخل مدينة سمالوط بمحافظة المنيا في صعيد مصر، حيث لم يحاك النحات الحديث التمثال الأصلي ولم ينقل جمالاً بقدر ما أثار سخرية العابرين.

كذلك وضع في ميدان عروسة البحر بمحافظة البحر الأحمر شرق البلاد تمثال يعبر عن روح المدينة، فإذا به مثال لرداءة النحت.

وفي محافظة مطروح، وضع تمثال للملكة الفرعونية كليوباترا، صاحبة المعارك الحربية، لكن التمثال لقي نقداً لاذعاً.

سخرية مضاعفة

وتوالت التماثيل المشوهة في الميادين من دون توقف ولعل آخرها في محافظة أسيوط جنوب البلاد، حيث وضع مجسم لتمثال أثري داخل مركب نهري مزركش الألوان باهت المعنى. يقول صاحبه لـ"اندبندنت عربية" إنه "يمثل صورة لأحد فراعنة مصر"، لكن التمثال لقي سخرية كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي من مواطنين وأكاديميين رأوا فيه "شخصية شريرة في فيلم كارتون".

 

ساعات طويلة من العمل راحت هباء منثوراً. فقد كان لزاماً على صانع التمثالين الذي يعرف نفسه بأنه "الفنان عبدالفتاح عبدالحميد الشهير بعبده" أن يحطم ما صنعته يداه بعد أن أخبره عاملون في رئاسة مركز ومدينة أبو تيج حيث يستقر التمثال أمام مقرها، أن يحطمه ويستبدله بتمثال آخر لا يمت للفراعنة بصلة خشية التعرض لنقد جديد.

مجبراً وافق الرجل على تحطيم تمثاله بيده وبدأ بصنع تماثيل أخرى فوق مركب فرعوني. كانت التماثيل الجديدة لأسرة مصرية، أم وطفلتها تعبران مياه النيل بينما يقف زوجها إلى جوارها، لكن انتشار صور تمثالي الأم والطفلة حال دون اكتمال المشهد على أثر سخرية جديدة لتصبح النتيجة مكررة والسخرية مضاعفة ويحطم عبدالفتاح التمثالين من جديد وينصرف.

مؤهلات العمل

السيرة الذاتية لعبدالحميد (70 سنة) تبدأ بحصوله على الثانوية الأزهرية ولم يكمل دراسته الجامعية لظروف العائلة المادية وعمل بعد ذلك في مصنع للألمنيوم، ثم سافر إلى دولة خليجية للعمل 18 عاماً في مجالات مختلفة قبل العودة لمصر.

مع الوقت اتجه الرجل إلى "فنه القديم" بحسب وصفه، ليزخرف الحوائط وينحت على الجدران ويضع رسوماً عليها. يحدث ذلك في مقاه ومطاعم وأندية وقاعات أفراح، لكنه رغب في أن يظهر فنه إلى العلن أمام الجميع في الشوارع.

هذه السيرة الذاتية لا تكفي، بحسب عميد كلية الفنون الجميلة في جامعة المنيا هشام الجباس لصنع تمثال في ميدان، إذ يرى في الأمر جرأة كبيرة. وعلى رغم أنه عميد كلية يتخرج فيها مثّالون كثيرون سنوياً، فإنه لا يستطيع نحت تمثال ليوضع في ميدان عام. يقول "الأمر أكبر من الدراسة الأكاديمية وأكبر من الموهبة، إنه مزيج بين هذا وذاك".

 

ويضيف الجباس لـ"اندبندنت عربية" أن "النحات له مواصفات خاصة، تبدأ بالموهبة التي يصقلها بالدراسة الأكاديمية وأن تكون له رؤية وثقافة وخبرة، وهذه الأمور تظهر في التمثال حقيقة لا مجازاً، وهناك فارق بين الرسم والنحت، وحتى الأخير له تخصصات متعددة".

ثمة فارق بين الرسم على الحائط وإنشاء تمثال في ميدان. لا يجادل عبدالفتاح صانع تماثيل أبو تيج في ذلك، لكن الرجل يرى أن تطوعه يكفي إذ إنه نحت من دون مقابل، مضيفاً "كان أمام رئاسة الحي قارب قديم متهالك تعيش فيه القطط وتنتشر به الحشرات فتطوعت لتنظيفه ووضع تمثال فيه ووافق الحي فباشرت العمل".

حديث عبدالفتاح يتفق وكلام رئيس مركز ومدينة أبو تيج محمد عبدالراضي الذي قال في تصريحات نقلتها عنه صحف محلية إن التمثال أنشئ بالجهود الذاتية، إذ لم يتقاض "الفنان عبده" جنيهاً عن مجمل أيام عمله التي انتهت من دون جدوى.

أين القانون؟

سهير حواس عضو مجلس إدارة الجهاز القومي للتنسيق الحضاري الذي يتبع وزارة الثقافة، تتابع تفاصيل تلك التماثيل وما يثار حولها بحكم عملها في الجهاز. ففي عام 2016 كانت بضعة تماثيل ظهرت في عدد من المحافظات المصرية وأثارت سخرية وجدلاً واسعين، ووقتها أصدر رئيس مجلس الوزراء المصري الراحل شريف إسماعيل قراراً يحظر ترميم أو وضع تماثيل في ميادين عامة إلا بالرجوع إلى وزارتي الثقافة والسياحة والآثار والحصول على موافقة الجهاز القومي للتنسيق الحضاري قبل تنفيذ التمثال في الفراغ العام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تقول حواس لـ"اندبندنت عربية" إن "التطوع من غير المتخصصين في فن النحت ليس مبرراً لقيامهم بإنشاء تماثيل. لكن منذ صدور القرار عام 2016 وحتى الآن، لا تزال التماثيل المشوهة تظهر إما نتيجة جهل المحافظات بالقرار، أو عدم التزامها به، وفي الحالين فإن الحصيلة هي أعمال نحتية بشعة".

ينص القانون رقم 119 لعام 2008 في بعض مواده على أن "أي عمل في الفراغ بالمناطق المسجلة ضمن نطاق الأماكن التراثية يجب أن يعتمد من الجهاز القومي للتنسيق الحضاري"، غير أن الأماكن التي لا تدخل في ذلك النطاق يشملها قرار عام 2016.

للميدان شروطه

شروط وضع تمثال في ميدان عام يوضحها الجباس قائلاً "يجب أن يرى التمثال من جميع الجهات وأن تكون له قيم ومنظور خاص، بالتالي يجب أن يكون الرأس أكبر أجزاء التمثال، فإذا أبصره أحد ميّزه، سواء كان بعيداً منه أو كان يقف تحت قدميه".

ينقل التمثال قيمة معنوية، لذلك فإن التمثال الذي يوضع في أسيوط يجب أن يكون مختلفاً عن آخر في الإسكندرية أو البحيرة، بحسب الجباس، مضيفاً "المهم أن تكون ثقافة البلد أو المكان حاضرة في التمثال، وأحياناً نجد تمثالاً فنقول إن فيه رائحة البحر ومكانه الإسكندرية، أو فيه من حياة الريف ومكانه في وجه بحري مثلاً. فإذا ما استوفى التمثال هذه الشروط، فلا يهم إن كان القائم به متطوعاً أو أن كلفته كبيرة".

 

يرى الجباس ضرورة وجود لجنة فنية تقيم الأعمال الفنية التي ستعرض على المواطنين في الشوارع، وتبدي رأيها في القيم الجمالية والأسس العلمية والأكاديمية لها، ومنها تماثيل الميادين، "لأن كل فنان يرى عمله بمثابة ابنه، ومسألة التقييم متغيرة من شخص إلى آخر، بالتالي فوجود مثل هذه اللجنة سيكون أفضل".

مسألة لجان تقييم الأعمال ترد عليها سهير حواس بالقول إنها تتمنى أن تطلب المحافظات المشورة من الجهاز، وفي تلك الحال فإن الأمر سيكون مجانياً، كما سيرشح الجهاز لها من يقوم بالعمل الفني على أفضل وجه ممكن.

تعتبر أستاذة العمارة والتصميم العمراني بكلية الهندسة في جامعة القاهرة أن البديل عن ذلك هو مزيد من التشويه وتهميش دور الجهاز، وستنتشر تلك التماثيل والمنحوتات في أماكن مختلفة.

من المسؤول؟

يقول مساعد وزير التنمية المحلية المصري والمتحدث باسم الوزارة خالد قاسم لـ"اندبندنت عربية" إنه "يجري التنسيق بين المحافظات والجهاز القومي للتنسيق الحضاري، سواء في ترميم التماثيل القديمة، أو الأماكن التي يرجى إعادتها إلى حالها الأولى مثل منزل الأديب عباس العقاد، أو الرئيس جمال عبدالناصر. وفي هذه الحال تتواصل الوزارة مع المحافظة المعنية وجهاز التنسيق الحضاري ومتخصصين في هذا الشأن".

 

ويضيف "في حال وجود تمثال جديد، أو حتى إعلان كبير الحجم، لا بد من عودة المحافظة للجهاز القومي للتنسيق الحضاري، وهو ما حدث بالنسبة إلى تماثيل في بورسعيد والجيزة وغيرهما، لأن الجهاز هو المرجعية في هذه الأمور".

يعتبر قاسم أن وجود تمثال أو عمل فني في الشوارع من دون تنسيق مع الجهاز تتم إزالته فوراً إذا سجل أي اعتراض عليه".

أين يذهب الخريجون؟

تعتبر حواس أن نحت التمثال ومن ثم إزالته يهدر المال، وتتساءل "لماذا لا تكون هناك مسابقات يشارك فيها الشباب ممن لديهم خبرة ومهارة؟". وهو التساؤل نفسه أيضاً لدى هشام الجباس الذي يقول إن هناك خريجين على أفضل مستوى في كليات الفنون الجميلة بمصر.

 

وتضم مصر ست كليات حكومية للفنون، هي كلية الفنون الجميلة بالزمالك التابعة لجامعة حلوان وكليات أخرى تابعة لجامعات الإسكندرية والمنيا وجنوب الوادي والمنصورة وأسيوط. كما أن هناك أربع كليات خاصة أيضاً تدرس الفنون الجميلة. ويتساءل الجباس حول سر عدم اعتماد المحليات على هؤلاء الطلاب بعد تخرجهم في صناعة تماثيل الميادين.

يؤكد الجباس أن أعداد طلاب قسم النحت في زيادة، وبالنسبة إلى كلية الفنون الجميلة في جامعة المنيا، فإن متوسط عدد الطلاب سنوياً يصل إلى 15 طالباً وطالبة بعدما كان أقل من ذلك سابقاً. ويتوزع الطلاب على ثلاثة أقسام، الميداني ثم الجداري وأخيراً الخزف، مضيفاً "من بين 15 طالباً ستجد 10 مميزين يتم صقلهم أكاديمياً وتدريبهم، فإذا كان لديهم اهتمام سيتميزون أكثر، لكن بعضهم تشغله متاعب الحياة أو تعوقه الظروف المادية فيضطر إلى العمل بموازاة الدراسة، مما يؤثر في تحصيله".

دراسة ولكن

أحد هؤلاء الخريجين هو هاني جمال الذي تخرج في كلية الفنون الجميلة بجامعة المنيا منذ أعوام وسبق أن قدم منحوتات لشخصيات مثل اللاعب المصري محمد صلاح، لاعب ليفربول. كما صنع تماثيل لآخرين منهم المطربة اللبنانية فيروز والجراح العالمي مجدي يعقوب وشاعر العامية صلاح جاهين والمطرب محمد فوزي وغيرهم. وتلاقي منحوتات هاني إعجاب كثيرين ما بين أكاديميين وجماهير يتابعونه على مواقع التواصل الاجتماعي.

كغيره من العاملين في ذلك المجال، فإن هاني جمال مطلع على التماثيل التي تثير الجدل في بعض الميادين، أو حتى التي يطاولها الترميم بالتشويه. ويعتبر في حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن عملية تنفيذ تمثال قد تستغرق عاماً أو عامين، بداية من التخطيط وصولاً إلى الانتهاء منه.

 

وفي ما يتعلق بتماثيل الميادين، يرى جمال أنها تحتاج إلى دراسة معقدة، تبدأ من طبيعة المكان الذي ستوضع فيه المنحوتة وهويته وتاريخ سكانه، مروراً بالمكان الذي ستستقر فوقه، فالأصل في تمثال الميدان أن يصبح جزءاً من هويته وتاريخه ويتم توريثه لأجيال مقبلة.

وفقاً للشاب الذي افتتح مرسماً له في القاهرة، فإن النحت يكون بأكثر من خامة، على الحجر أو بالطين الأسواني وصولاً إلى الخشب والمعادن، بحسب طبيعة التمثال والغرض منه، ولا يرى مشكلة في صنع تمثال من الأسمنت كما حدث في تمثال أبو تيج، لكنه يؤكد أنه "خامة ليست أصيلة في النحت على عكس المواد الأخرى".

يعدد الشاب تماثيل لها حكايات تتناقلها الأجيال وتعبر عن الوقت الذي صنعت فيه. ففي مصر عشرات التماثيل التي تزين ميادينها، وتحتفظ القاهرة بنصيب كبير منها مثل تمثال إبراهيم باشا في ميدان الأوبرا بوسط القاهرة وأسود "قصر النيل" الأربعة وتماثيل طلعت حرب ولاظوغلي باشا وسعد زغلول ومحمد فريد ونجيب محفوظ ومصطفى كامل ومحمد فريد ومحمد عبدالوهاب وعبدالمنعم رياض وسيمون بوليفار وغيرها وهي تماثيل نحتها فنانون مصريون وأجانب.

شيخ النحاتين

على أن أبرز تلك التماثيل المدهشة التي يعتبرها هاني جمال درة تماثيل الميادين، هو تمثال "نهضة مصر" الذي جسد حال البلاد وقت إنجازه بمعرفة النحات الأشهر محمود مختار، بينما تطالب بالاستقلال والنهضة.

كانت البداية بتمثال يبلغ حجمه نصف التمثال الحالي وعرضه النحات المصري الراحل في أحد معارض باريس، ثم كانت الدعوة إلى اكتتاب شعبي لإقامة التمثال في مصر، وأسهمت فيه الحكومة، وأزيح الستار عنه عام 1928 بميدان باب الحديد (رمسيس حالياً). كما وضعت صورة التمثال الذي يصل ارتفاعه إلى سبعة أمتار وعرضه من القاعدة ثمانية أمتار على عملات نقدية مصرية، وهو يستقر الآن في ميدان جامعة القاهرة منذ عام 1955.

 

في التمثال سنرى سيدة ترتدي ملابس فلاحة مصرية وترفع غطاء الرأس بيسراها، بينما تضع يمناها على رأس تمثال أبو الهول الذي يستعد للوقوف في دلالة على نهضة مصر. ويعلق جمال "لا يصح أبداً أن يكون لدينا هذا التاريخ الفني العظيم ثم نقدم تماثيل مثل التي نراها قبل تحطيمها وإزالتها".

لم تمض أيام على واقعة تمثال أبو تيج، حتى عادت للواجهة من جديد حلقة أخرى في سلسلة التماثيل المشوهة. هذه المرة في محافظة قنا جنوب مصر، تحديداً في مركز ومدينة قفط، بعد أن أثار تمثال للمعبود المصري القديم حورس، كان سيوضع في ميدان البارود لمناسبة الاحتفال بالعيد القومي للمحافظة، سخرية واسعة لتقرر الوحدة المحلية لمركز ومدينة قفط إزالته.

هذه الإزالة ربما لن تكون الأخيرة، وما بين مسؤول في جهة إشرافية، وآخر في جهة تنفيذية، وأكاديمي يعلم طلابه أصول الحرفة التي أتقنها الأجداد، وخريج يبحث عن فرصة حقيقية لإثبات نفسه، تظل الميادين تئن من دون صوت تحت وقع عمليات تشويه جديدة، يسخر منها المواطن، فربما كانت السخرية بديلاً عن الشكوى.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات