لا حديث الآن في مصر سوى عن هذا التمثال الحجري، الذي تحول بين يوم وليلة إلى "ترند" بلغة رواد مواقع التواصل الاجتماعي. التمثال المُشار إليه مصنوع من الحجر بارتفاع مترين تقريباً، الشكل الرئيسي للعمل يبدو أنه يمثل امرأة خارجة من الكتلة الحجرية التي تُعيق حركتها، أو هكذا فسر صاحب العمل نفسه رؤيته في شريط مصور نشره لاحقاً.
"مصر تنهض"، هكذا أطلق الفنان على تمثاله غير المكتمل كما يقول، رغم ما بدا من مظاهر اكتمال في بعض أجزائه. ما أثار هذه الموجة من الاستياء العام أن التمثال المنحوت من الحجر بدا مُفتقداً لأبسط القواعد النحتية، وخالياً من أي رؤية جمالية، هذا بعيداً عن فكرة اكتماله أو عدم اكتماله. بعد انتشار صورة العمل بكثافة وسط استهجان العديد من المتابعين أوضح صاحبه أن هذا الشكل النحتي ليس أكثر من محاولة أو تجربة شخصية في النحت على الحجر، وهي تجربة ليس لها علاقة بأي جهة داعمة أومسابقة كما أُشيع، ولا نية لعرضه أو التعامل معه كتمثال ميداني، كما أبدى استعداده كذلك لتحطيم العمل إذا لم يكتمل على النحو الذي يُرضيه.
رأى البعض أن هذه التصريحات التي أطلقها صاحب التمثال، وهو الفنان أحمد عبد الكريم عبد النبي ربما تشفع له، فهي أول محاولة منه للنحت على الأحجار، كما أن صورة العمل لم تكن مطروحة للتداول العام، بل كانت منشورة على صفحته الشخصية دون إشارة صريحة إلى طبيعة الحدث الذي يشارك فيه. ما أثار اللغط أن البعض قد استشف من تعليقه أن العمل أُنجز برعاية كلية الفنون التطبيقية، وهي إحدى الكليات الفنية العريقة في مصر، والتي سارعت بالتبرؤ من رعايتها له. ولكن يبدو أن توضيح الفنان لم يكن كافياً على ما يبدو لوقف حالة الاستياء التي فجرتها صورة التمثال، والتي انتشرت كالنارعلى مواقع التواصل الاجتماعي وتلقفها العديد من القنوات والمواقع والفضائيات داخل مصر وخارجها. أصبح التمثال بؤرة اهتمام الناس ورواد مواقع التواصل الاجتماعي. أثيرت النقاشات واحتدم الجدل، وتطرق الحديث إلى حال النحت الذي تدهورت أحواله في بلد يفخر بتاريخه العريق، ويمثل فيه النحت على الأحجار الجانب الأكبر من ثروته الأثرية.
تشويه الصورة
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يُثار فيها الحديث حول الأعمال النحتية في مصر، فخلال السنوات القليلة الماضية خرجت علينا صور لمنحوتات شوهت الفضاء العام بركاكتها وضعفها، لعل أشهرها هذا التمثال القبيح المصنوع من الجبس الملون الذي قيل وقتها أنه يمثل الملكة الفرعونية "نفرتيتي" والتي يشير اسمها إلى جمالها حسب اللغة المصرية القديمة. هناك العديد من التماثيل الأخرى التي تحولت إلى مادة للتندر والسخرية، من تمثال عباس العقاد إلى تماثيل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ومصطفى كامل وأحمد عرابي ورفاعة الطهطاوي وغيرهم من مشاهير الفن والأدب والسياسة، هذا خلافاً للتماثيل التعبيرية ذات المعالجات الركيكة، وكلها أعمال ضعيفة ومشوهة، أو شُوّهت بعد دهانها بألوان زاهية بغرض التجميل، وبمباركة رسمية من المحافظين أو مسؤولي الأحياء.
الفارق هذه المرة أن صاحب التمثال يحمل درجة علمية، ويشارك منذ تخرجه في الحركة الفنية المصرية، وهو مثل مصر في بينالي فينيسيا الأخير مع اثنين من الفنانين الآخرين. ولعل هذه الخبرة والمكانة الأكاديمية التي يحظى بها صاحب العمل قد ساهما بالطبع في تصاعد حدة النقد الموجه لعمله. اتخذ النقاش والنقد الموجه للتمثال اشكالاً مختلفة، من الاستهجان إلى السخرية، ووصل حتى إلى الكلام غير اللائق، ما دعا البعض إلى التعاطف مع صاحب العمل والتماس الأعذار له. ويبدو أن الإشارات السياسية التي أقحمها الفنان على تمثاله قد ساهمت بدورها في تأجيج هذه النقاشات والتعليقات الساخرة، كما استدعت التسمية التي أطلقها الفنان على عمله (مصر تنهض) مقارنة متوقعة مع تمثال آخر أُنجز قبل مئة عام لرائد النحت الحديث في مصر محمود مختار وهو تمثال "نهضة مصر"، والذي يحتل مكانه اليوم قبالة المدخل الرئيسي لجامعة القاهرة.
على أي حال فقد فتح الحديث عن هذا التمثال باب النقاش حول أسباب تدهور أحوال النحت الميداني في مصر، فخلافاً لتمثال مُختار ذَيّل البعض تعليقاتهم ومُداخلاتهم بصور لتماثيل أبدعها المصريون القدماء على أحجار أكثر صلابة، أو حتى لتماثيل ميدانية مُعاصرة نُفذت خلال النصف الأول من القرن العشرين. قورنت صور هذه التماثيل بأخرى نُفذت خلال العقدين الأخيرين وتحتل مكانها اليوم بالفعل وسط عدد من ميادين مصر المختلفة. تماثيل لقادة جيوش أو لفنانين وأدباء مشهورين افتقر بعضها إلى المعالجة السليمة للكتلة أو للتفاصيل الداخلية أو حتى لدراسة متأنية للفضاء العام المحيط بها. نماذج كثيرة أثارت انتقادات في وقتها ثم مالبث الحديث حولها أن توقف، وتم التعامل معها كأمر واقع أو مسألة قدرية لا مفر منها، كتمثال القائد العسكري عبد المنعم رياض الشهير في ميدان التحرير، أو تمثالي نجيب محفوظ وطه حسين، وكلها أعمال نُفذت بتكليفات مُباشرة لأصحابها، دون وجود آلية اختيار مُناسبة ومُعلنة.
هذه الصورة القبيحة التي يتم تصديرها لحال النحت الميداني في مصر اليوم ليست حقيقية بلا شك، ولا تعكس واقعاً، فهناك العديد من المواهب والطاقات الإبداعية التي يمكنها التصدي لمثل هذه المشاريع والأعمال. وكما يقول المثل الشائع "رُب ضارة نافعة" فقد يدفع هذا النقاش والجدل المُحتدم حول التمثال المشار إليه إلى تغيير طريقتنا في التعامل مع العمل الميداني، بداية من آلية اختياره، إلى تجاوز النظرة النمطية له، والتي لا تبتعد في أغلب الأحوال عن التصور الكلاسيكي للتمثال أو المجسم النحتي. فهل سيلتفت القائمون على الفنون والثقافة إلى وجود هذا الخلل في إدارة الحركة الثقافية والفنية في مصر، والذي ينعكس بلا شك على الفضاء العام؟ أم سيكتفون بالتبرؤ من هذا العمل أو غيره، والنأي بأنفسهم عن هذه النقاشات كأنها أمور لا تخصهم؟