Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"هموم الجمهور" تسقط من شريط السينما المصرية المعاصرة

الأرشيف مليء بأفلام استعرضت بجرأة قضايا الغش التجاري وغلاء المعيشة ونقاد: الصوت الدرامي المعبر عن الأحوال ضرورة

ناقش فيلم "السوق السوداء" عام 1946 تلاعب التجار بالسلع وبيعها بأسعار مبالغ فيها (أرشيف مكرم سلامة)

قبل أكثر من مئة عام، أنشد الموسيقار المصري سيد درويش كلمات يستحضرها الجميع دوماً حينما تضيق بهم الحال، ليستمدوا الأمل من قلب الشقاء، مرددين "شد الحزام على وسطك غيره ما يفيدك... لا بد عن يوم برضه ويعدلها سيدك". وعلى رغم أنها عرفت حينها بأغنية الشيالين، حيث كانت تتحدث عن تفاصيل يوم العمال الذين يحملون عتاداً ثقيلاً لكسب قوت يومهم، فإنها باتت لسان حال كل المأزومين.

و"شد الحزام" معروف شعبياً بأنه وسيلة لتحقيق سياسة التقشف وتقليل الاستهلاك في أوقات الأزمات الاقتصادية الصعبة، فالفن كان ناصحاً أميناً ومعبراً صادقاً عن واقع ما يجري بين الناس طوال الوقت، لا سيما في فترات الغلاء والفساد التجاري، وانتشار السلع المغشوشة، وما أشبه حال العالم أجمع اليوم بالبارحة في وسط وضع اقتصادي شديد القسوة يجتاح الكرة الأرضية.

لكن، هل يشبه فن اليوم ما أبدعه نجوم البارحة؟ هذا هو السؤال الذي يتردد على الألسنة، بخاصة أنه حينما يرغب أحدهم في التعليق على قضية الغلاء حالياً لا يجد إلا لقطات من الأرشيف القديم وشبه القديم، إذ تحفل السينما المصرية على سبيل المثال بعشرات الأعمال التي كانت مرآة لمثل تلك القضايا، وتعد تأريخاً لأكثر من حقبة ومرجعاً لا يمكن تجاهله، بينما تبدو مثل تلك الأفكار والحكايات شحيحة للغاية وشديدة الندرة في جديد السينما والتلفزيون.

السوق السوداء والاحتكار وأغنياء الحرب

منذ بدايات السينما المصرية وحال الأسر المتواضعة يشغل بال صناعها، حيث دارت كثير من الأحداث عن كيفية تدبير ذوي الدخل المنخفض لأمور معيشتهم، وجرى ربط المشكلة في كثير من الأحيان بفكرة عدم تنظيم الأسرة وإنجاب كثير من الأبناء، وهو ما حدث مثلاً في أفلام مثل "السبع بنات" و"أنا وبناتي"، مروراً بـ"أم العروسة" و"الحفيد" ثم "أفواه وأرانب" و"لا تسألني من أنا" و"الصبر في الملاحات" و"الجراج".

لكن، يعد فيلم "الفتوة" الذي قام ببطولته وكتبه فريد شوقي عام 1957، وأخرجه صلاح أبو سيف، من أشهر الأعمال التي تناولت فكرة جشع التجار واستغلالهم حاجة الناس، وتماديهم في زيادة الأسعار، عن طريق إخفائهم البضائع، وقبلها بـ10 سنوات قدمت السينما أيضاً فيلماً عن الفساد في إدارة السلع من خلال "غني حرب" الذي عرض لسياسة الاحتكار التي تؤدي لرفع الأسعار.

 

 

أما العنوان الأكثر مباشرة فكان "السوق السوداء" عام 1946 الذي استعرض تكديس التجار سلعاً معينة وإخفاءها لفترة ثم بيعها بطرق غير مشروعة بأثمان أعلى من الأثمان الرسمية، وهي وقائع شبيهة بتلك التي تتداولها الأنباء يوماً بعد يوم، حيث تقوم جهات رسمية بمداهمة مخازن سرية تخص بعض المضاربين في سلع استهلاكية استراتيجية، مثل الأرز، وغيره، وتنجح المؤسسات المتخصصة في الكشف عن هذه التصرفات بهدف ضبط الأسواق في ظل وضع ضاغط لا يعانيه المواطن المصري أو العربي فقط، لكن المواطن العالمي في معظم أقطار الأرض.

على المستوى المحلي تتضاءل بقوة الأعمال الجادة ذات الطابع المجتمعي التي تتناول مثل تلك القضايا من محاربة الفئات الفاسدة من التجار، والجشع في سبيل تحقيق ثروات بطرق ملتوية، فهل الأزمة في النصوص أم الأزمة في الجهاز الرقابي؟ أم أن المجتمع بالفعل لم يعد يتحمل أعمالاً تشير إلى أي ملامح قاتمة؟

من جهته، طالب الناقد الفني طارق الشناوي بأن يكون الجهاز الرقابي "أكثر تفتحاً ويتخلى عن صرامته المبالغ فيها، وأن يسمح بهامش أكبر لتناول أفكار تمس معاناة الجمهور بصورة واقعية"، مضيفاً أن الفن في الأساس "قائم على محاكاة هموم المجتمع، كما تجري في الحقيقة، بالتالي فالمشاغبة الدرامية أمر ضروري لاستمرارية الإبداع".

قبل اتهام الرقابة

بنظرة بسيطة إلى خريطة الأفلام المعروضة أخيراً بالفعل سنجد أن معظمها ذات طابع كوميدي بحت أو رومانسي، لكن أيضاً السنوات الأخيرة توثق عرض عدد من الأفلام التي اشتبكت مع قضايا سياسية ومجتمعية واقتصادية، بل ودينية، وصنفت على أنها شائكة، وبينها "تراب الماس" و"مولانا" و"اشتباك" و"صاحب المقام" و"من ضهر راجل" و"الضيف" و"الأصليين".

وقريباً أيضاً من المنتظر عرض فيلم "الملحد"، بل إن هناك أكثر من طلب إحاطة قدم من أعضاء بمجلس النواب المصري اعتراضاً على عدم وجود تشديدات رقابية بما يكفي على الأفلام المعروضة، فالقبضة الحديدية الصارمة التي يشكو منها المبدعون، تقابلها اتهامات بالانفتاح الزائد بلا رابط من قبل جهات أخرى، فهل صناع الأعمال منذ البداية يمكن اتهامهم أيضاً بعدم اقترابهم من قضايا المجتمع الحقيقية بطريقة تتيح لهم تمريرها دون المساس بجوهرها مثلما كان يحدث في السابق، حيث يحمل الأرشيف تجارب مهمة للغاية فيما يتعلق بالأفلام التي ناقشت السلع المغشوشة والرشوة، والتهرب من الجمارك، والتحايل على الضرائب، ورفع الأسعار.

العصر الذهبي لسينما الفساد الاقتصادي

قائمة الأفلام التي ناقشت الأزمات الطاحنة التي واجهتها الأسر المتوسطة، وهي الغالبية العظمى من الشعب المصري، مثل السلع المغشوشة وسياسة الاحتكار التجاري وغلاء المعيشة، طويلة للغاية، وكانت بتوقيع كبار المؤلفين والمخرجين، وبينها "هنا القاهرة" 1985، بطولة محمد صبحي، الذي تناول الزحام والتلوث وجشع أصحاب المحال التجارية الذين يبيعون السلع بقيمة أكبر مما تستحق بكثير، وامتلأ الفيلم بمشاهد تحمل كوميديا سوداء تكشف عن واقع الحال من خلال البطل القادم من محافظة بعيدة للمدينة يحلم بعرض مشروعه الطموح، لكنه يفاجئ بظلام وسلبيات وبيروقراطية وجشع لا حد لها.

كما أن فيلم "أهل القمة" 1981 ناقش بجرأة قضية التهرب من الجمارك، التي أسهمت في صنع أثرياء بين يوم وليلة، وذلك في عصر الانفتاح الاقتصادي، والعمل بطولة سعاد حسني ونور الشريف، وإخراج علي بدرخان، وقصة نجيب محفوظ.

 

 

أيضاً، تعرض فيلم "السادة المرتشون" 1983 لقضية الأغذية الفاسدة من خلال شخصية رجل أعمال يستورد أغذية فاسدة ومنتهية الصلاحية بثمن بخس ويبيعها في الأسواق بأسعار عالية، محققاً ثروة طائلة، ويتورط معه البطل، حتى إن عدداً من أفرد عائلته يلقون حتفهم جراء تناولهم وجبة من تلك العينات غير الصالحة، والعمل أخرجه علي عبدالخالق، وكتبه مصطفى محرم، وقام ببطولته محمود ياسين بالاشتراك مع محمود عبدالعزيز. وشهد العام نفسه عرض فيلم سعاد حسني وعادل إمام "حب في الزنزانة"، حيث يتحمل البطل قضية فساد غذائي لا دخل له بها، إنما المتهم بها رجل أعمال له نفوذ كبير، فيما دق فيلم "انتبهوا أيها السادة" الذي أنتج نهاية السبعينيات ناقوس الخطر بسبب تدني الأوضاع المادية لذوي المكانة العلمية الرفيعة، فالبطلة تترك خطيبها الأستاذ الجامعي لترتبط بعامل القمامة الذي يستغل الانفتاح ويحقق بطريقته ثروة كبيرة تمكنه من امتلاك عقارات ومعارض سيارات ومزارع، كما ناقش الفيلم أزمة الإسكان أيضاً. هذه فقط بعض من الأفلام التي عرضت في فترة وجيزة حول قضايا شديدة الأهمية للمواطنين، الذين كانوا يلمسونها بأنفسهم في حياتهم اليومية، فهل هناك فعلاً فقر إبداعي فيما يتعلق بتلك المنطقة من قبل كتاب ومؤلفي الجيل الحالي؟

الرقابة الذاتية أكثر خطورة

يعلق أحد المؤلفين الذين يحاولون تمرير رسائل سياسية واقتصادية من خلال أعمالهم بشكل غير مباشر ودون أن تكون هي المحور الرئيس، حيث تغلف أعماله دوماً بطابع إنساني اجتماعي بالمقام الأول، منوهاً بأن هناك نوعاً من الرقابة شديد الصرامة والخطورة على الإبداع، وبات منتشراً للغاية في الوقت الحالي، وهو الرقابة الذاتية التي يمارسها الكتاب على أنفسهم أولاً قبل أن تفعلها الأجهزة المختصة، فأي كاتب - في رأيه - حالياً يفكر أولاً هل الموضوع الذي يطرحه سيلقى القبول "الرقابي" من قبل المؤسسة المختصة أم لا.

ويؤكد المؤلف، الذي رفض ذكر اسمه، أنه من واقع خبرته يجد تحفظات كثيرة في السيناريوهات التي يعرضها، لا سيما فيما يتعلق بقضايا بعينها، بالتالي فالكتاب إما يحاولون القفز على تلك الحواجز بطرقهم، أو الابتعاد تماماً عن تقديم أية أفكار قد يساء فهمها على أنها تنشر اليأس والإحباط في نفوس الجمهور، خصوصاً تلك المتعلقة بمشكلات غلاء المعيشة، لافتاً إلى أن أي مجتمع في العالم حتى تلك التي تصنف على أنها مرفهة وثرية وبلا أعباء، سوف نجد طبقات تعاني وأخرى تمارس حياتها بطريقة "مدللة"، مشيراً إلى أن الفئات الفقيرة، والتي تتعرض للجشع التجاري، وتبدو قليلة الحيلة من حقهم أن يكون لهم صوت درامي يعبر عن أحوالهم.

من زوار الفجر إلى شركات توظيف الأموال

هذا الرأي ربما يفسر ما يتردد في أروقة بعض المؤسسات المعنية بالعملية الإبداعية حول أن السيناريوهات التي تتناول الأزمات المعيشية وتتقدم للحصول على الموافقة الرقابية، باتت نادرة من الأساس، أو شبه غير موجودة، فالمبدعون يتجنبونها من البداية، ولا يقدمون على العمل عليها خوفاً من تعطيلها على ما يبدو.

لكن، في الوقت نفسه يستبعد الناقد طارق الشناوي تماماً أن تكون هناك تعليمات رسمية مباشرة بعدم السماح بعرض نوعية معينة من الأعمال، لافتاً إلى أنه يرى أن الرقابة على المصنفات الفنية هي التي لديها "رقابة ذاتية مبالغ فيها"، ولم تعد تمتلك مرونة أبداً في الموافقة على أية أعمال ذات حس نقدي مجتمعي أو اقتصادي.

 

 

ويشير الشناوي إلى أن الأعمال الفنية دوماً ما كانت تواكب هموم الناس، وكان الرقباء يجدون طرقاً لتمريرها دون أن يصطدموا بأية مؤسسة، ضارباً أمثلة بعدة أعمال صنعت موجة قوية في فترة من الفترات وبينها على سبيل المثال الأفلام التي انتشرت في السبعينيات، وحملت نقداً لاذعاً لظاهرة "زوار الفجر"، وهي الأجهزة الأمنية ذات القبضة القوية التي كانت تنكل بالمعارضين، حيث كشفت تلك الأفلام عن فسادها.

وفي عام 1973، كان فيلم "زائر الفجر" 1973، وبعدها بعامين عرض فيلم آخر هو "الكرنك"، الذي كان يحمل رسالة سياسية شائكة وجريئة، وأيضاً فيلم "وراء الشمس" 1978.

ويلفت الشناوي إلى أن السينما المصرية لطالما كانت تواكب قضايا المجتمع المهمة وتعبر عن مشكلاته، فعرضت أعمالاً عن فساد شركات توظيف الأموال والاحتيال على الشعب، وموجة أفلام أخرى عن انهيار الطبقة المتوسطة مثل "الموظفون في الأرض، و"حد السيف"، وكذلك أعمال عن أزمات الشباب، بسبب عدم وجود فرص عمل جيدة، حيث كانوا يفشلون في تكوين أسرة بسبب متطلبات الحياة وبينها "الحب فوق هضبة الهرم" 1986، مشيداً بالجهات الرقابية حينها التي كانت تنتصر للإبداع، دون أن تفتعل أزمات.

تعقيدات متزايدة

في الغالب فإن هذا يعني أن المؤسسات الرقابية تنتمي إلى عصرها بشكل آو بآخر، بالتالي وبحسب اللوائح التي تضغط طوال الوقت على منفذيها، فإن هناك معايير ومواءمات وتوافقات ينبغي وضعها في الاعتبار أولاً، وبجولة على طريقة التفاعل مع بعض الأزمات والمشكلات و"الترندات" التي يجري تداولها عبر السوشيال ميديا، فهناك ما يشبه التحفز والتوتر، فكم من حملة قادها رواد السوشيال ميديا اعتراضاً على أعمال بعينها وجرى إيقافها بالفعل بناءً على موقفهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كما أن هناك احتقاناً قائماً يجعل الصدامات والخلافات تصل لمداها في لحظات، بالطبع الأمر هنا محير ويشكل معضلة، لأن تلك التوجهات تحمل "تضليلاً" وإجحافاً وتحفظاً مبالغاً فيه، مثلما تحمل أيضاً مؤشرات مهمة ينبغي وضعها في الاعتبار، وهنا يمكن تذكر الفترة التي قضاها الروائي الحائز على نوبل نجيب محفوظ، رقيباً، حيث كان مدير عام الرقابة على المصنفات الفنية منذ عام 1959 وحتى 1961، وكان يضع ملاحظات متحفظة من قبيل "ضرورة مراعاة الحشمة والآداب العامة، وحذف المشاهد الجريئة، وعدم خدش حياء المجتمع".

وبحسب تصريحات سابقة للمبدع البارز الراحل فقد كان ينفذ متطلبات منصبه الرسمي كموظف في وزارة الثقافة، ولا يحارب الفن بقدر ما يقوم بدوره كمدير يعمل في مؤسسة رسمية، عليه أن يكون حريصاً على تطبيق سياستها، وأن يكون متيقظاً لأي عمل قد يؤجج الفتنة الطائفية أو يمس تقاليد المجتمع.

تبدو المهمة الآن أصعب بكثير في ظل سهولة إدارة حملات معارضة ورافضة وناقمة على أي عمل قد لا يعجب قطاع ما، حيث سيكيل رافضوه له كل الاتهامات الممكنة من خلال منصات التواصل الاجتماعي، بالتالي فالحقائق تتوه والبوصلة تتعطل في بعض الأوقات، لكن المؤكد أن الأعمال الفنية التي ناقشت بصدق قضايا الناس وهمومهم وآلامهم لا تزال حاضرة في الأذهان، ومنها فيما يتعلق بالمسلسلات مثل "أهلاً بالسكان" و"ساكن قصادي" و"ما زال النيل يجري" و"أولاد الشوارع"، وفي الأفلام "سلام يا صاحبي" و"سواق الأوتوبيس" و"ضد الحكومة" و"الغول" و"شادر السمك" و"حتى لا يطير الدخان" و"اللعب مع الكبار"، وصولاً إلى "حين ميسرة" و"خارج عن القانون" و"الكبار"، وغيرها الكثير.

اقرأ المزيد

المزيد من فنون