جغرافياً، المكان في الموقع نفسه، وتجارياً، الأنشطة لم تتغير كثيراً، والبشر لم يشهدوا تغيراً يذكر، باستثناء فعل السنوات بتجاعيد ظهرت على وجوه البعض، ونضوج تسلل إلى وجوه الآخرين، ووصول جيل بأكمله إلى مرحلة التعليم الابتدائي. سياحياً، الحركة شبه غائبة تماماً، وإن كانت السياحة الداخلية في أوجها. العناصر الأمنية ما زالت منتشرة، ولكن انتشار 2021 يختلف شكلاً وموضوعاً عن انتشار 2011. كذلك الروح والرمز والمشاعر، ما خفي منها، وما بطن. تبدو وكأن دهراً مر على 25 يناير (كانون الثاني) 2011، وليس عقداً.
عقد كامل مر منذ تجرع ملايين المصريين الأدرينالين الثوري، إن لم يكن بالتنظيم والحشد، فبالمشاركة والأمل، وإن لم يكن هذا، أو ذاك، فبالمتابعة والترقب المشوب ببعض الرجاء، وكثير من القلق.
"قلق" الميدان
"قلق" هي الكلمة التي قدر لها أن ترتبط بالميدان الأشهر في مصر المعاصرة، ميدان التحرير. فمن قلق تجمع مجموعات من الشباب الغاضب في مثل هذه الأيام من عام 2011، إلى تحول التجمعات الشبابية إلى تجمعات شعبية هادرة، ومنها إلى قلق مواجهات مع الشرطة، ثم انقسام التجمعات إلى إسلاميين وثوريين ومواطنين عاديين، تلاها الصراع من أجل السيطرة على الميدان، ثم تحول الميدان إلى ساحة لجماعات الإسلام السياسي، ثم تنصيب أول رئيس ينتمي إليها منتخباً في رحاب الميدان، وبعدها قلق الاحتكاكات والارتطامات والتصادمات بين قوى الأخيرة، وأخرى مدنية، ثم تجدد التظاهرات لإسقاط الرئيس المنتمي للإخوان المسلمين، وقابلتها استعدادات أنصاره للدفاع عن "الشرعية والشريعة" بالروح والدم، ثم قلق إسقاطه وترقب مجريات الميدان وردود الفعل.
شاءت الأقدار أن يظل القلق مرتبطاً بالميدان الأشهر حتى بعد استقرار الأوضاع النسبي في عام 2014 وانتخاب الرئيس الجديد، عبد الفتاح السيسي. ففي كل مرة تقرر فيها جماعة أو مجموعة أن تثور أو تتظاهر أو تعارض أو تستعرض قوتها أو تستجيب لدعوة هنا أو فتنة هناك، تعتبر الميدان قبلتها.
غاية المنى
غاية المنى والأمل في هذه الأيام الشتوية التي تذكر الجميع بأن هذا الميدان شهد أحداثاً مصرية غير مسبوقة على مدار أعوام، هي الوصول من طرف إلى آخر في الميدان مترامي الأطراف متعدد المداخل، متشابك المخارج دون خطر مروري هنا، أو توقيف هناك. الميدان في 2021 عامر بالحركة. حركة السيارات المتناحرة لا تفتر. لعلها الوحيدة التي لم تتغير عقيدتها، أو يتبدل منهجها على مدار عشر سنوات هي الأطول في تاريخ البلاد.
سائق الأجرة يقول إنه لم يعد يتحاشى المرور من الميدان، إلا لو كانت رخصة قيادته منتهية. أصبحت الحركة المرورية سلسة، لكن الأمن "مصحصح".
يقظة الأمن تختلف عن تلك التي كانت موجودة قبل وأثناء وبعد أحداث 2011. فمن الاحتكاكات العنيفة في يناير وفبراير (شباط) 2011 إلى الانسحاب في الأيام التالية، ثم العودة الحذرة حيناً، والمموهة أحياناً أثناء وبعد الاحتجاجات الشعبية في 2013، ثم العودة بكثافة وتحسب محاولات البعض الانقضاض على الميدان الذي أصبحت السيطرة عليه طريق الطامحين إلى السلطة آنذاك، وأخيراً "كوكتيل" الوجود الأمني بين الحضور الشرطي غير الطاغي وتسليم تأمين الميدان لشركة أمن "خاصة".
وأخيراً، وضعت الدولة تطوير ميدان التحرير ضمن أولوياتها المهمة قبل أشهر طويلة. وحين يكون الميدان هو ما يخضع للتطوير، فإنه يستدعي بداعٍ، ومن دون إسقاطات سياسية وتحليلات استراتيجية واستقطابات أيديولوجية.
أيديولوجية الميدان
أيديولوجياً، العاملون في إحدى وكالات السياحة والسفر المطلة على الميدان يتأرجحون بين التدين الذي يحب المصريون أن يطلقوا عليه "التدين الفطري"، وبين مجاراة العصر ومواكبة الموجة الجارية.
هل تغير الميدان؟ بعضهم كان في المرحلة الجامعية وقت اندلاع أحداث يناير 2011، والبعض الآخر كان يعمل في أماكن أخرى. بعضهم شارك، أو على الأقل تفاعل مع أحداث يناير، ومنهم من لوح بحذر شديد بأنه كان موجوداً وقت وقوع الميدان تحت سيطرة تيارات الإسلام السياسي... "كنا نريد حاكماً يراعي ربنا فينا ويحكم بشرع الله، لكن قدر الله وما شاء فعل". ومنهم من قال بحدة إن "ربنا ستر وخرجنا من حفرة حكم الإسلام السياسي". وقبل أن يتفاقم الاختلاف، وجد الجميع أرضاً مشتركة، حيث المواصلات العامة من وإلى الميدان أكثر يسراً، نظراً للوجود الأمني والمروري المكثف، ومنع إيقاف السيارات، ولو لدقائق، في الميدان، بالإضافة إلى طي صفحة "بعبع" الميدان؛ مجمع التحرير.
بعبع الميدان
مجمع التحرير، المخلد في ذاكرة كل مصري ومصرية يعني الكثير. فهو عاصمة البيروقراطية القاتلة، حيث المصالح الحكومية من جوازات وهجرة وإدارات تعليمية وإسكانية وشرطية، ظلت تحتم على المواطن أن "يدوخ السبع دوخات" قبل أن يتمكن من إنجاز مهمة، أو الحصول على توقيع. وهو المكان الذي دارت فيه أحداث رائعة الراحل وحيد حامد، فيلم "الإرهاب والكباب"، الذي جسد فيه ما يدور في المجمع بصفة يومية، بدءاً بالمترددات على شرطة الآداب، مروراً بالجنود البسطاء الذين يخدمون كبار الضباط، وانتهاءً بالمواطنين المطحونين الذين يعانون الأمرّين لإنهاء الأوراق الحكومية. وهو أحد مقار "الثوار" في أحداث يناير 2011، حين "تم إغلاق المجمع بأمر الثوار لحين إسقاط النظام وإجراء انتخابات رئاسية"، حسبما كتبوا على اللافتات، بل إنهم أحاطوا المجمع بسياج حديدية، ومنعوا الموظفين من الدخول، وهو المشهد الذي تكرر بحذافيره في يونيو (حزيران) 2013 مع تغير مكونات الثوار. وهو كذلك المبنى الذي ظل والساحة مترامية الأطراف المواجهة له خير ما يعبر عن الحياة في مصر: باعة متجولون يبيعون ساندويتشات الفول للإفطار، والكبدة للغداء، وأقلام وأوراق لزوم إنهاء المعاملات، ومرطبات في الصيف، والشاي في "الخمسينة" في الشتاء، والمصورون المتجولون يلتقطون صوراً شخصية رديئة لمن نسي إحضار صورة الجواز أو الهوية الشخصية أو استمارات الامتحانات، باشكتبة (جمع باشكاتب) يكتبون الاستمارات ويجهزون الأوراق المطلوبة للمعاشات وطلبات الحصول على شقة أو كشك والتماسات النقل من المدارس والأعمال، ومواطنون يندبون حظهم، وعشاق يستغلون فرصة الزحام للاندماج العاطفي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عاطفة مجمع التحرير
عاطفياً، لا يحمل المبنى كثيراً من الذكريات الطيبة لدى الغالبية، لكن حالة السكون التي تنبع من دواخله وتنعكس على مخارجه وتطبق بكل حزم على محيطه فيها تبعث شيئاً من الـ"نوستالجيا". أحد باعة الصحف والكتب المستعملة بالقرب من الميدان ينظر إلى المجمع ويقول: "راح المجمع وراحت أيامه. المكان شكله أكثر نظافة، لكن حركة بيع الصحف والكتب توقفت تماماً. سبحان الله! المجمع الذي كان أشبه بخلية النحل تحول إلى سكون وهدوء".
لكن السكون الحالي بعد عقد من أحداث 2011 ينبئ بتغيرات كبرى تنتظر المجمع. قبل أيام، قالت وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية، هالة السعيد، إنه تم نقل المجمع إلى محفظة صندوق مصر السيادي، مضيفة أنه تم تشكيل لجنة مكونة من وزارات الإسكان والسياحة والآثار والتخطيط لدراسة الفرص الأفضل لاستثمار المجمع ليتحقق أعلى عائد ممكن، بالإضافة إلى السعة الفندقية له.
يشار إلى أن المساحة الإجمالية للمجمع تبلغ 12 ألفاً و500 متر مربع، بالإضافة إلى ساحته الخارجية، ومساحتها خمسة آلاف متر مربع. ويتكون المبنى من 14 طابقا، ويحتوي على 1365 غرفة، وبه عديد من الباحات والقاعات والممرات. وعلى الرغم من أنه ليس مسجلاً كأثر تاريخي نظراً لعدم احتوائه على أي معالم أو طرز أثرية أو معمارية مميزة، فإنه مسجل أثراً تاريخياً وسياسياً واجتماعياً لدى ملايين المصريين.
آثار من مروا من الميدان تكاد تكون منعدمة على الجدران. الجدران التي شهدت توثيقاً للتطورات السياسية والأيديولوجية والأمنية التي خضع لها الميدان من خلال رسوم الغرافيتي صارت رمادية. غالبية جدران المباني المحيطة بالميدان تم طلاؤها على فترات باللون الأبيض الذي يتحول تلقائياً إلى الرمادي بفعل التلوث.
جدران دون انتماءات
اليوم، الجدران دون انتماءات أو إسقاطات أو دعوات... "تعبنا. والبلد لن يتحمل أي فوضى جديدة"، حسبما يقول بائع الصحف الذي شهد عقداً كاملاً من أحداث الميدان، وشهد قبله عقوداً من حكم الرئيس الراحل حسني مبارك. ويضيف أن "الناس لم يعودوا مهتمين بالشأن السياسي كما كان. الاستقرار والضغوط الاقتصادية اليومية وكورونا جعلت الجميع في غنى عن إضافة أي مصادر جديدة للتوتر".
التوتر البادي على وجوه أفراد الشركة الخاصة الموكل لها تأمين الميدان يبدو واضحاً. أي محاولات للتصوير، ولو بكاميرا هاتف محمول، تقابل باعتراض. وحين تسأل لماذا؟ تأتي الإجابة لحين الافتتاح الرسمي. المسلة تقف شامخة في وسط الميدان محاطة بأربع علب خشبية ضخمة تحتوي كل منها على كبش من الكباش الأربعة التي ملأت عوالم التواصل الاجتماعي صخباً هادراً قبل أشهر قليلة.
المسلة تتوسط الحديقة الشهيرة التي كانت مركزاً لعديد من الأحداث على مدار سنوات ما بعد أحداث يناير 2011. ظلت الحديقة مقراً لإقامة الثوار، ثم أطفال الشوارع، وبعدهم أنصار تيارات الإسلام السياسي، وأعقبهم الثوار، ولكن بانتماءات مختلفة، ثم الأمن، وأخيراً المسلة وكباشها الأربعة، وعشرات من أفراد الأمن.
أبهى حلة
المؤكد أن ميدان التحرير يقف اليوم في أبهى حُلله، وبين من لا يزال متعلقاً بتلابيب 2011 والمطالبة بالـ"عيش وحرية وعدالة اجتماعية"، ومن يبكي على لبن "الشرعية والشريعة" وحكمها المسكوب في 2013، والمنتظر دعوة للتظاهر هنا، سواء تأييداً للنظام الحالي أو تنديداً له، سيظل الميدان مثيراً للجدل. أما القاعدة العريضة من المصريين، فما زالت تمر من الميدان ذهاباً وإياباً. البعض يتابع عمليات التطوير، والبعض الآخر يكاد لا يلتفت لها، وفريق ثالث يحرص على التقاط السيلفي مع المسلة على الرغم من اعتراض الأمن.
الوجود الأمني في الميدان يتزايد مع يوم "25 يناير"، وبعد مرور عقد كامل ما زالت تتعدد الروايات في شأن تسميته، ففي رواية هو عيد "ثورة يناير" الذي يتمسك به الثوار، وفي أخرى "عيد الشرطة"، الرسالة الواضحة والصريحة التي ترسلها الدولة للمواطنين.