Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كتب جليل البنداري المستعادة مفاجأة للأجيال التي لم تعاصره

صحافي وكاتب بارع لاحق تناقضات نجوم مصر وفضح أسرارهم

جليل البندري (يمين) مع فنانين مصريين (صفحة البندري - فيسبوك)

"لو كنت تقرأني على ضوء شمعة فأنا مفرح الحزانى، أنا مضحك المكلومين، أنا فيلسوف الكلمة الصحافية"... هكذا وصف الصحافي المصري الراحل جليل البنداري (1916- 1968) نفسه قبل أيام من رحيله. وأخيراً أعادت دار نشر مصرية جديدة، هي دار كلمة، نشر عملين من بين أشهر أعماله هما "عبدالوهاب... طفل النساء المدلل" و"راقصات مصر... مآسي صانعات البهجة". وتنوي الدار مواصلة نشر بقية مؤلفاته في القريب، وأشهرها "عبدالحليم حافظ على جسر التنهدات" بحسب إعلان مؤسسها الصحافي وائل لطفي.

يمثل إنتاج البنداري مفاجأة كبرى للأجيال التي لم تعاصره، إذ اتسم أسلوبه بفائض من السخرية والتهكم الفلسفي، إضافة إلى قدرة فائقة على كتابة عبارة مختزلة ومكثفة، لا تفتقر إلى الشعرية وتظل على رغم ذلك لغة صحافية بامتياز. وقد وصفه الكاتب البارز أنيس منصور في مقال يعود إلى عام 1965 بـ"صاحب الأسلوب الذي يشدك من السطر الأول وحتى السطر الأخير".

 على خطى بيرم

 

بدأ البنداري مسيرته الإبداعية بكتابة الزجل والشعر الشعبي على خطى الشاعر بيرم التونسي الذي عده من بين أساتذته الذين أقر لهم بالفضل الفني. وعمل موظفاً في مصلحة التليفونات قبل أن يقدم مجموعة أغنيات ناجحة كانت أولاها أغنية بعنوان "وأنا مالي يا بوي" غناها المطرب محمد عبدالمطلب في فيلم "الجيل الجديد" للمخرج الرائد أحمد بدرخان، ثم كتب للمطربة ليلى مراد أغنية نالت نجاحاً كبيراً هي "منايا في قربك". يعرف الجمهور من بين أعماله أغنيات أخرى مثل "تمر حنة" لفايزة أحمد، و"سوق على مهلك سوق" و"دبلة الخطوبة" للمطربة شادية و"تاكسى الغرام" لهدى سلطان وعبدالعزيز محمود.

 

وعلى رغم النجاح الذي تحقق له كشاعر غنائي فضل العمل في الصحافة، بعد أن اكتشف فيه الصحافي الراحل محمد حسنين هيكل موهبة محرر فني قابلة للنمو، وكلفه تحرير صفحات الفن في مجلة "آخر ساعة" خلال الخمسينيات. تأثر البنداري كثيراً بحداثة أسلوب الصحافي البارز محمد التابعي وتجنب الثرثرة البلاغية، ومال ناحية المدرسة الصحافية التي تميز أبناء مؤسسة "أخبار اليوم" التي أسسها الأخوان علي ومصطفى أمين، وكانت تقوم على تتبع الأخبار وصياغتها بطريقة فريدة. ويقال إن البنداري دخل مكتب مصطفى أمين لإصلاح تليفونه وخرج ومعه عرض بالعمل معهن بعد أن أظهر مواهبه كلها أمام أحد أبرز رموز الصحافة المصرية.

"أنا والنجوم"

 

من "آخر ساعة" انطلق البنداري إلى صحيفة "أخبار اليوم" وحرر فيها بابه الصحافي الشهير "أنا والنجوم" وكتب عموده "ليلة السبت". وبسبب طريقته في تناول الأخبار الفنية وصف بأنه صاحب "أطول لسان صحافي"، وكانت الراقصة الشهيرة تحية كاريوكا تشير إليه قائلة "هذا الرجل جليل الأدب وإحنا بنداري عليه".

وخلال عمله الصحافي كتب مجموعة من الأوبريتات والمسرحيات الغنائية والأفلام السينمائية منها "شوق" و"بمبة كشر"، لكن أشهرها "الآنسة حنفي" من بطولة إسماعيل ياسين، وهو فيلم رائد في تناول مسألة التحول الجنسي، وقد نجح الفيلم في تحقيق أعلى الإيرادات. وكذلك الفيلم السينمائي "العتبة الخضراء" مع إسماعيل ياسين وصباح. وواصل البنداري نجاحاته كمؤلف ومنتج سينمائي من دون أن يتخلى عن عمله الصحافي الذي لمع فيه، وقدم تحقيقات رائدة حول مصائر الفنانين في نهايات حيواتهم جاءت تحت عنوان "موتى بلا قبور أو الأحياء الموتى" عام 1963.

أسلوب متفرد

ويتيح نشر مؤلفاته في النقد الفني كما يقول ناشر طبعاتها الجديدة وائل لطفي، اكتشاف موهبة صحافية كبرى لم تنل ما تستحق من اهتمام، على رغم تفرد أسلوبه وحداثته. ويشير لطفي إلى أن مغامرة نشر تراث البنداري جاءت بعد رحلة تفاوض طويلة مع ورثته الذين أبدوا بعض التحفظ في البداية، لكنهم تعاونوا بعد أن لمسوا جدية الاقتراح، وحرص الدار على صيانة هذا التراث وحمايته. يقول لطفي "نشرت مؤلفات البنداري استجابة لإعجاب شخصي قبل أن تكون مسألة مهنية".

 

ويضيف "قرأت خلال سنوات دراستي للإعلام كتابه عن محمد عبدالوهاب، وتملكني إعجاب شديد بأسلوبه التلغرافي وجملته الصحافية القصيرة، وانتبهت إلى طريقته الشجاعة ونبرته الجريئة في كتابة سيرة مغايرة للمطرب الكبير، انطلاقاً من حوارات أجراها معه لكنه طرزها بطريقة فريدة". وبحسب لطفي، فإن أعمال البنداري هي باكورة إنتاج الدار التي رغبت في استعادة هذا الإرث بسبب "طابعه المعاصر"، وقدرته على إثارة اهتمام الأجيال الجديدة بفضل "سلاسة السرد" ونزعته التقدمية الواضحة.

يركز بنداري في كتاباته على الهامش الاجتماعي وتبدو أقرب في طابعها إلى سرديات، وثيقة الصلة بمعاناة المهمشين الذين يلتحقون بعالم الفن ويسعون إلى تغيير واقعهم القديم. وهو ما تجلى في كتابه "راقصات مصر"، وهو يعد رائداً في تتبع هذا الفن والكشف عن سير بطلاته من دون أي إدانات أخلاقية. وفي الكتاب لوحات قلمية حول شفيقة القبطية وبمبة كشر وبديعة مصابني وتحية كاريوكا ودولت فهمي وسامية جمال، وكثيرات. أراد البنداري من خلال تناول درامي، الكشف عن تشابك الاجتماعي والسياسي داخل سيرهن الحافلة بالتناقضات.

جرأة من دون ابتذال

 

وفي كتابيه عن محمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ تتجلى جرأته في مقاربة سيرة نجمين كبيرين والاقتراب من حياتهما الشخصية بشجاعة متناهية، وبشيء من الندية التي يندر وجودها بين محرري الصفحات الفنية اليوم، كما لم ينظر البنداري إلى الحياة الخاصة للفنانين بمعزل عن إنتاجهما الفني أو كما يشير ناشره "لم يكن تناول هذه الأمور خاضعاً للمعادلات الأخلاقية التي تحكم عالمنا اليوم". وجاءت أعمال البنداري في معظمها "جريئة وكاشفة" من دون أن تكون مبتذلة، لذلك اكتسبت قيمتها كمصدر تاريخي مهم يمكن استعماله في مواجهة الأفكار الرجعية التي تسود اليوم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 ويلاحظ قارئ كتبه أنه لم يقترب من أم كلثوم وظل يضعها في مكانة متفردة، وكان مكلفاً بكتابة الوصف التفصيلي لحفلاتها الغنائية الشهرية في صحيفة "الأخبار"، وهو من أطلق على أول أغنية جمعتها مع ألحان محمد عبدالوهاب في "أنت عمري" لقاء السحاب، بينما أطلقت أم كلثوم عليه اسم "جليل الأدب"، نظراً إلى قدراته الفذة في السخرية والتهكم على الفنانين. ويحفل أرشيف الراحل بمجموعة من المواد الصحافية المتميزة التي تعتمد على أفكار مبتكرة، وأبرزها موضوع كتبه تحت عنوان "فرخة بكشك"، وصاغ فيه نقداً لأحد الأفلام، وتخيل لو أن طه حسين وعباس العقاد والمازني ومحمد التابعي كتبوا نصوصاً نقدية حول العمل نفسه لبرز التباين في أساليبهم الفنية.

وفي المرثية التي كتبها الناقد رجاء النقاش وودع فيها البنداري على صفحات مجلة "الكواكب"، نوه بأن البنداري أحب صوت أم كلثوم وآمن بها إيماناً عظيماً. ووصف كتاباته بأنها "ليست فاترة، بل تنطوي على ملمح فلسفي واضح، لدرجة أنه رثى نفسه وتحاور مع الموت".

وشدد على أن البنداري كاتب فنان جعل من الكتابة للصحافة الفنية فناً من أرقى الفنون وكانت كتاباته مثل الوردة التي نلتقي كل صباح بعطرها الجميل الذي يريح النفس وشوكها الذي يدمي الأصابع".  

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة