Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"نفاد خزانات الطاقة"... صرخة رئيسة وزراء نيوزيلندا في أذن العالم

لا يهتم كثير من الدول بالأمر ما لم يكن وقوداً يستفاد منه بالمصانع والتدفئة والمركبات وغير ذلك رفاهية عقلية لا تعني أحداً

رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن أعلنت استقالتها بعد 6 سنوات رائعة ومنهكة في الحكم   (أ ف ب)

"طاقتي لم تعد تسعفني" تتردد هذه العبارة ملايين إن لم يكن مليارات المرات في المعمورة، لكنها تمضي في أغلب الأحوال مرور الكرام. فالطاقة، طالما ليست وقوداً يستفاد به في المصانع والمركبات أو مصدراً لتدفئة وإنارة المنشآت، مسألة هلامية فلسفية لا تتوافر لها رفاهية القلق. وحكاية الإسعاف الذي يحتاجه هذا أو تلك لمساعدته على المضي قدماً غالباً لا تتاج إلا لو كان في حاجة إلى "إسعاف" ينقله إلى أقرب مستشفى لتلقي علاج لأزمة قلبية طارئة أو سكتة دماغية قاتلة.

لكن القتل ألوان وأنواع وأشكال، أغلب البشر لا يعترفون به إلا بتوافر عنصري إراقة الدماء وإزهاق الروح، أما ما عدا ذلك من صنوف القتل فتجد نفسها مصنفة تحت بند المجاز أو باعتبارها دلعاً لا وقت لمخاطبته أو مالاً لمداواته.

شكاوى الإرهاق العصبي

مخاطبة شكاوى الإرهاق العصبي (burnout) ما زالت موصومة بكلمات تتراوح بين التهيؤات والرفاهية والدلع والابتعاد من الله، لكن إنكار الإرهاق العصبي وتجاهل الإنهاك النفسي لا يلغي وجودهما أو يقلل من آثارهما أو يقلص من خطورتهما فقط يدفعهما في ركن مظلم بعيد من الاهتمام وعصي على العلاج.

العلاج الذي توصلت إليه رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن المحبوبة سابقاً، المكتسبة صفة المحبة العطوفة المتعاطفة الناجحة في أوقات الأزمات، ذات الشعبية المتراجعة لدرجة غريبة عجيبة في الأشهر القليلة الماضية لإنهاكها العصبي والعقلي، هو الاستقالة.

"لم يعد لدي ما يكفي من الطاقة للقيادة" هكذا قالت، ست سنوات كاملة من القيادة غير التقليدية والتعامل المبتكر مع الأزمات والعلاج الخلاق للكوارث والجهود في ملف المناخ والإنجاز في الإسكان الاجتماعي والحد من فقر الأطفال، والأهم والأبرز من كل ذلك جهدها المستمر ليتذكرها النيوزيلنديون باعتبارها "شخصاً لطيفاً".

أرديرن اللطيفة بحكم غالبية المتابعين لأخبار نيوزيلندا، هذه الدولة القوية الغامضة صاحبة النظام الصحي المثالي المنزوية جنوب غربي المحيط الهادئ، مطمح الملايين من الحالمين بالهجرة أعلنت قبل أيام أنها ستستقيل من منصبها كرئيسة لوزراء بلادها، وكذلك كرئيسة لحزب العمال الحاكم وذلك في موعد أقصاه السابع من فبراير (شباط) المقبل، قرارها جاء بعد تفكير عميق في مستقبلها أثناء عطلتها الصيفية.

أمر منهك

ست سنوات من العمل المتواصل غير التقليدي في وظيفة غير مقيدة بمواعيد حضور وانصراف وغير قابلة لترك مشكلاتها وأزماتها على باب المكتب قبل دخول البيت أمر منهك، فما بالك بست سنوات من قيادة دولة مرت، على رغم مميزات بعدها الجغرافي وقوة اقتصادها وتقدمها الحضاري ونظامي التعليم والرعاية الصحية الرائعين بأزمات كبرى؟!

 

أرديرن أدت اليمين الدستورية كرئيسة للوزراء في عام 2017، وفي 2018 أنجبت ابنتها نيفي تي أروها، وفي العام التالي وقعت حادثتا إطلاق النار على مصلين في مسجدين أديا إلى مقتل 51 شخصاً في مذبحة مروعة غير مسبوقة في هذا البلد الهادئ، بعدها بأيام، قالت إن قوانين امتلاك وحمل الأسلحة النارية سيتم إصلاحها جذرياً، وفي عام 2020 ومع بداية الوباء اتخذت أرديرن سلسلة من القرارات واتبعت سياسة هلل لها العالم بأسره للتعامل مع "كوفيد-19". أعلنت تخفيض رواتبها وزملائها بنسبة 20 في المئة لمدة ستة أشهر للإسهام في التخفيف من حدة آثار الوباء، وأعلنت إغلاقاً كلياً للبلاد والعمل من البيت لكل العاملين الذين لا تتطلب وظائفهم الوجود الفعلي، إضافة لإغلاق نيوزيلندا أمام الزوار.

 وفي العام نفسه، فازت بفترة ثانية كرئيسة وزراء، وفي 2022 دخلت عزلة اختيارية بعد مخالطتها لحالة إيجابية لكورونا، وفي عام 2023، وتحديداً قبل أيام، أعلنت أنها ستستقيل وتخطط للزواج من شريكها ووالد طفلتها، "إذ لم يعد هناك ما يكفي في الخزان".

ملايين الخزانات

ملايين وربما مليارات الخزانات حول العالم لم يعد فيها وقود من الأصل، وليس ما يكفي، لكن هذه الملايين لا تدرك أو ربما تدرك، لكن لا تقوى على المجاهرة أو لا تملك رفاهية المواجهة بأنها ضحية الإنهاك العقلي لأسباب عديدة أبرزها المهنة أو العمل.

خبراء العلل النفسية يقولون إن الإنهاك العقلي هو الفشل في إكمال المهمات العقلية التي تتطلب قدراً من التحفيز الذاتي والمنبهات الداخلية مع غياب القدرة على الإدراك الذهني المعتاد، وربما كذلك الضعف الحركي، ولذلك يؤثر هذا النوع من الإنهاك سلباً في قدرة الشخص للقيام بمهماته اليومية التي كان يقوم بها من دون عناء يذكر أو يعتبرها أمراً مفروغاً منه.

 وعلى رغم قدرته على الاستمرار في إنجاز مهماته، لكنه تنجز بقدر مضاعف من المجهود الذهني والنفسي والبدني، ما يدفع الشخص في دائرة مفرغة من الإنهاك.

 

أعراض الإنهاك

أعراض الإنهاك العقلي عديدة، ومنها ما يختلف من شخص لآخر، لكن أبرزها وأكثرها شيوعاً هي، الشعور بالتعب والإرهاق معظم الوقت، الشعور بالعجز والحصار والهزيمة دون سبب واضح، الشعور بالانفصال عن العالم والوحدة على رغم الوجود مع آخرين، هيمنة نظرة متشائمة أو سلبية، تضاؤل الثقة بالنفس على رغم تحقيق النجاحات والإنجازات، سطوة التسويف والمماطلة في إنجاز الأمور التي كانت تستغرق وقتاً قصيراً من قبل.

ولأن الإنهاك ليس صداعاً سيختفي بعد قرص مسكن من تلقاء نفسه، أو بعد بضع ساعات من النوم العميق، أو وجبة مغذية، فإنه يتفاقم لو ترك دون تدخل أو تقرر تجاهله.

بعض الدول على الجانب الغربي من العالم تعتبر الإنهاك العقلي مرضاً يستوجب العلاج ضمن نظام التأمين الصحي ويؤهل صاحبه للحصول على إجازة مرضية لحين التعافي، لماذا؟ لأن هذه الأنظمة الصحية أيقنت أن تجاهل الإنهاك العقلي يلحق بصاحبه وأسرته مزيداً من الضرر الجسدي والعقلي، وقد يؤدي بعد فترة إلى فقدان القدرة على تلبية المتطلبات الأساسية في الحياة، فضلاً عن القيام بالمهمات الوظيفية بشكل مقبول.

قبول استقالة موظف معروف بقدراته الفائقة في عمله وإنجازاته التي أمنت له ترقيات وعلاوات بسبب "الإنهاك العقلي" تبدو رفاهية للبعض وسفهاً للآخر، لكن قصص أشخاص استقالوا من عملهم وهم في أوج النجاح، أو وهم في طريقهم إلى التميز والتفرد تتكاثر وتتواتر هذه الآونة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عصر الاستقالات العظيم

يبدو أن عامي الوباء وإجراءاته وإغلاقاته قلبت حياة مليارات البشر رأساً على عقب، لكن من رحم الانقلابات تولد المواجهات مع النفس والمصارحات بما تم تمويهه وتسويفه على مدار سنوات وربما عقود. البعض يسمي العصر الحالي، عصر ما بعد الوباء بـ"عصر الاستقالات العظيم" على سبيل الإيجابية، وعلى سبيل السلبية يسمونه "عصر الاستسلام العظيم"، لكن سواء كان استقالة أو استسلاماً، يظل عصراً عظيماً في انكشافاته ومجاهراته.

مجاهرة رئيسة وزراء نيوزيلندا بقرب نفاد خزانها نكأ عديداً من الجراح، وأيقظ أخرى من مخدرها، فعلى رغم انتشار الإنهاك العقلي والنفسي بأنواعه وشيوعه بين فئات وأعمار مختلفة في شتى أرجاء الأرض، فإنه غالباً ما يساء فهمه ويوصم بالعار وتحسب كلفته فيخضع لمزيد من التجهيل والتمويه والإخفاء.

كثيرون يعانون سنوات وربما عقوداً من الإنهاك العقلي في وظائفهم قبل أن ينتقل الإنهاك الشديد ليضرب أدمغتهم أو قلوبهم بجلطات وسكتات. وكثيرون يوبخون أنفسهم لشعورهم بالإنهاك العقلي ويداومون على تذكير أنفسهم إما بأن ما يشعرون به من استنزاف قوة وتركيز وقدرة وطاقة تهيؤات، أو بأن هذا الاستنزاف رفاهية لا يملكونها.

صدى الإنهاك في العالم

في بريطانيا على سبيل المثال، يشير موقع "منتال هيلث" (الصحة العقلية) إلى أن 46 في المئة من العاملين في بريطانيا قالوا في 2021 إنهم تعرضوا لمستويات شديدة من التوتر مقارنة مع العام السابق، ووجدت الدراسات أن النوع والفئة العمرية يلعبان دوراً مهماً، حيث الأشخاص الأصغر سناً والنساء أكثر عرضة للتوتر والشعور بالضغط الشديد في أماكن العمل.

ولأن رئيسة وزراء نيوزيلندا امرأة، فإن كثيرين ربطوا بين كونها أنثى وتعرضها للإنهاك العقلي والنفسي، نفسياً، وجدت كلمات أرديرن في أقصى جنوب غربي المحيط الهادئ صدى بالغ القوى لدى نساء الأرض القابعات على بعد آلاف الأميال شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً.

تقرير "النساء في العمل: نظرة عالمية 2022" الصادر عن مؤسسة "دو لوات" (شبكة متخصصة في تقديم الخدمات المهنية مقرها لندن) يشير إلى أن الوباء ما زال يلقي كثيراً من العبء على كاهل النساء مخلفاً وراءه كماً مذهلاً من الإنهاك بينهن بدرجة تنذر بالخطر.

وفي 2022، اتخذت ملايين النساء حول العالم قرارات مهنية وحياتية مدفوعة بما خضن من أزمات نفسية أثناء الوباء، كثيرات يبحثن عن أنماط عمل جديدة وأكثر مرونة، لكن تظل هناك فئة غير قليلة وجدت نفسها بدافع الإنهاك العقلي الشديد مضطرة لترك قوة العمل برمتها، أجرى التقرير دراسات معمقة على النساء بأماكن العمل في عشر دول مختلفة وخرج بنتيجة مفادها أن الإنهاك العقلي والنفسي بين النساء في أماكن العمل ومواقعه المختلفة وصل درجة تنذر بخطر شديد، وصنفت نصف النساء المشمولات في التقرير صحتهن العقلية بأنها سيئة أو سيئة للغاية. وقالت 30 في المئة منهن إنهن اضطررن لأخذ إجازات مدفوعة أو غير مدفوعة من العمل بسبب الإنهاك العقلي والنفسي، ولا يكتفي التقرير بالإشارة إلى نسب تعرض النساء للإنهاك العقلي في أماكن العمل، بل يتطرق إلى أجواء العمل السامة التي قلما يلتفت إليها أحد، لا سيما صاحب العمل أو المسؤول عنه. 

صاحب العمل هو الشعب

لكن حين يكون العمل هو إدارة دولة وصاحبه هو الشعب، فإن الشعور بالإنهاك العقلي والنفسي لـ"الموظف" وخروجه مجاهراً به يصبح أمراً مثيراً وغير مسبوق، وحين يكون "الموظف" امرأة، تنفتح أبواب التكهن والتندر والتنمر بعلاقة الإنهاك العقلي والنفسي بالمرأة أكثر من الرجل، كما يجدها البعض الآخر فرصة ذهبية لخوض "غزوة" إثبات ضعف قدرة المرأة على الإدارة والقيادة مقارنة مع الرجل، أو تسجيل هدف في مرمى فتوحات القدرات الخشنة في مقابل القدرات الناعمة.

 

 

المثير هو أن الإنهاك العقلي والنفسي الذي قد يشعر به رئيس دولة أو رئيس وزرائها لكن لا يجاهر به، بل يحتفظ به لنفسه بعيداً من كاميرات الإعلام وعقول الناخبين ونوايا المعارضين يمر مرور الكرام، بل حين يتطور ويصيب صاحبه بأزمة قلبية أو سكتة دماغية يكتسب مكانة الأبطال الذين يموتون واقفين أو الغضافر (جمع غضنفر) التي تحارب في الغابة بشراسة حتى تقضي.

قضت أرديرن ستة أعوام رئيسة وزراء ناجحة، صحيح أن شعبيتها الطاغية خفتت في الأشهر القليلة الماضية، وسادت مشاعر غاضبة بين فئة من المواطنين، لا سيما المناهضين للتحصين ضد كورونا وغيرها من الجماعات اليمينية في نيوزيلندا، إضافة إلى تنامي الشكوك في قدرة حزبها العمالي على الفوز في الانتخابات المقبلة في أكتوبر (تشرين أول) المقبل، إلا أن شعوراً عالمياً يطغي بأنها أدارت أزمتها النفسية والشخصية بنجاح وشجاعة وجرأة ملهمة عبر قرار الاستقالة.

قرار مخملي

قرار الاستقالة سيبقى من القرارات المخملية التي لا تحظى بها إلا النساء المقتدرات مادياً القادرات ثقافياً ومعنوياً ونفسياً على مواجهة العالم الخارجي، وأرديرن إحدى هؤلاء، ومنذ اللحظة الأولى لتقلدها منصبها وهي على دراية كاملة بأن نجاح المرأة في الجمع الناجح والدمج الصحي بين العمل والبيت والأسرة يتطلب من المرأة بذل جهد بدني وذهني ونفسي وعصبي مضاعف مقارنة مع الرجل الذي لا يخوض في الأصل معضلة الجمع والدمج.

في مقابلة أجرتها الصحافية ميشيل بينلوب كينغ مع أرديرن عقب توليها منصبها عام 2017، قالت أرديرن مدركة صعوبة الجمع والدمج، ولكن بنبرة المستعد لها، "أن تكوني أختاً أفضل وابنة أفضل وشريكة أفضل، وتنجزي وظيفتك بشكل أفضل، وتقدمي الرعاية لمن يحتاجها بشكل أفضل، أعتقد أننا نحمل معنا كثيراً من التوقعات والشعور المزمن بالذنب. تحقيق التوازن بين كل ذلك أمر صعب جداً".

الطريف أن إعلان أرديرن استقالتها تم التعامل معه في عدد من وسائل الإعلام العربية باعتباره تأكيداً لا يدع مجالاً للشك وبرهاناً لا يترك موطئاً للنقاش أن مكان المرأة هو بيتها، وعملها هو رعاية أبنائها، ومهمتها هي إسعاد زوجها، يشار إلى أن رئيسة وزراء نيوزيلندا المستقيلة بعد ست سنوات من العمل الناجح على رغم الأزمات والكوارث في قيادة دولة، وقبلها سنوات من العمل السياسي بين نيوزيلندا وبريطانيا، يتوقع أن تتزوج من والد طفلتها في المستقبل القريب.

المزيد من تحقيقات ومطولات