Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ثراء المتخيل وفقر الواقع" يتحرى أسرار المبدعين في فشلهم الزوجي

عندما ينقلب حب الشعراء والروائيين والفنانين الى كراهية وتوتر وخيانة وانتقام جسدي ومعنوي

الزواج بريشة الرسام مارك شاغال (متحف شاغال)

يقدم الشاعر اللبناني شوقي بزيع كتاباً جديداً يختلف عن مساره الشعري والنقدي، يجمع فيه 32 مقالة يتناول فيها علاقة المبدعين بالزواج والحب والخلق الفني، وكذلك قضية الزواج وملاءمته وطباع المبدعين، سواء أكانوا شعراء أو روائيين أو فنانين تشكيليين. وهذه المقالات كان ظهر معظمها في الصحافة العربية مسبقاً، وجمعها شوقي بزيع في كتاب فريد بجوه ومادته، مانحا إياها سياقاً أدبياً يتراوح بين التأليف والبحث وفن السيرة، وعنوان الكتاب "زواج المبدعين، ثراء المتخيل وفقر الواقع" (دار مسكلياني، 2023).

يطرح شوقي بزيع في المقدمة التي وضعها لكتابه الإشكالية التي أرقت الأدباء والمفكرين لعصور طويلة، فيكتب: "هل على الفنان، ولا سيما الطامح إلى بلوغ القمة، أن يعيش في كنف العزلة والتأمل في قضايا الفن والوجود، أم أنه يستطيع كسائر البشر أن يمارس حقه الطبيعي في الزواج وتربية الأطفال، مع كل ما يفرضه الانخراط في المؤسسة الزوجية من استنزاف للجهد والوقت، وتشتيت للذهن".

ويتبين مع التقدم في المقالات أن المؤسسة الزوجية لا تتلاءم بصرامتها وروتينها واستقرارها وبالواجبات التي تلزم الشريكين بها، مع طباع المبدع الحر المزاجي غير المستقر الذي لا يمكن أن يأسر مزاجه وطباعه وإبداعه ضمن إطار اجتماعي مقيد. يتجلى كذلك في هذه المقالات خوف المبدع من القيود التي يفرضها الزواج عليه والرهاب الذي يسكنه من معايشة المعشوق، معايشة ستقتل الحب والصورة المرسومة للمحبوب لا محالة. إن المؤسسة الزوجية تقتل الشغف والحب والخيال وتحول الحب إلى علاقة يومية عملية وتجعل المعشوق مجرد إنسان عادي قريب المتناول خال من عناصر الغموض والجمال والكمال، فيكتب بزيع نقلاً عن إلسا مورانته التي كتبت عن زوجها ألبرتو مورافيا: "الزواج من أدباء ليس إلا آفة".

الزواج والإبداع خطان متوازيان لا يلتقيان

 

ينقل شوقي بزيع على إحدى صفحات كتابه وجهة نظر الأنتروبولوجي الفرنسي روبرت مونتاني الذي يرى في الزواج التقليدي "نوعاً من أنواع الإعاقة التي تشل الحياة والإبداع على حد سواء". فالمبدع يحتاج إلى وحدة وعزلة، يحتاج إلى تأمل المجتمع بعيوبه ومآزقه ليبدع ويخلق ويتجدد ويلمع نجمه. إن المبدع عاشق عظيم فهو يخلد معشوقه في أعماله ويمحو ذاته من أجله ليرتبط ذكر المعشوق بخلود الأعمال الفنية والنصوص كحال مجنون ليلى أو إلسا أراغون أو لبنى قيس، لكن القاسم المشترك الدائم لهذه القصص هو عجز المبدع أو الشاعر عن الارتباط بالمعشوق أو الاقتراب منه بما فيه الكفاية لينجلي سحر العشق وغموض المعشوق.

إن العشق في حاجة إلى مسافة وإلى بعد، والإبداع بحاجة إلى الألم والعزلة ليتوهج. يحتاج المبدع إلى فراق، إلى فقد، إلى مأساة ليبدع ويسمو ويغرف من ذاته أجمل المشاعر والأعمال. إن العشق في حاجة إلى متنفس فالمعشوق أجمل من بعيد، أما عندما يصبح شريكاً يومياً في الروتين والحياة العملية يخسر من بريقه ومن رونقه ومن سحنة المتخيل الخارق التي يريد أن يسبغها عليه العاشق المبدع مما يؤدي بالمبدع إلى خسارة شيء من حرارة أعماله وتميزها.

باختصار إن المؤسسة الزوجية هي "الوصفة النموذجية لإفراغ الحياة من الطزاجة والحرية والشغف المتجدد بالجمال الأنثوي، ولإفراغ الشعر في المقابل من جذوته المشتعلة وجنونه القصووي"، بينما البعد والفقدان والتراجيديا هي "الوقود الضروري لإبقاء نار الشعر في حال اشتعال، فإن انعدام المسافة بين طرفي العلاقة، والتصاق كل منهما بالآخر التصاقاً دائماً، لا يترك للمتخيل ما يفعله، ولا يسمح للعاشق بخلق المعشوق من أحلامه ومن تصوراته البحتة، الأمر الذي يحول الشعر إلى نثر والجمر إلى رماد".

المبدع كائن حر 

إن الشاعر أو الفنان أو الروائي، أي المبدع بشكل عام، كائن حر طليق مزاجي تختلف أولوياته عن أولويات الإنسان الآخر العادي. ولمؤسسة الزواج تبعات شاقة لا يستطيع المبدع أن يتحملها فهو أعجز عن تلبية شروط الزواج المرهقة وأعجز عن التزام خط حياة مستقر متوازن روتيني يومي تتطلبه مؤسسة الزواج بواجباتها وضرورياتها وحضور الآخر بشكل دائم ويومي وكثيف فيها.

 

تكتب الكاتبة والباحثة السورية رنا قباني زوجة الشاعر محمود درويش لتسعة أشهر فقط: "الكاتب إنسان مريض ومضطرب"، ثم تضيف قائلة: "درويش لم يخلص في قرارة نفسه إلا لقصيدته، وهو لم يخلق ليكون أباً وزوجاً ورب أسرة. إنه شاعر رائع، لكنه زوج فاشل". أما صوفيا أندرييفنا زوجة ليف تولستوي فتكتب: "الزواج من العبقري لا يتطلب كثيراً من العقل، بل كثيراً من الحب"، بمعنى أنها اضطرت إلى التضحية كثيراً وإلى غض الطرف عن كثير من تصرفات تولستوي النزقة والمتعبة والمنفرة لتستمر العلاقة. وبينما حذر الفنان التشكيلي رافع الناصري الشاعرة العراقية مي مظفر من تشبثه المرضي بالحرية كانت والدة بيكاسو هي التي قالت لزوجته الأولى أولغا: "أيتها البائسة، هل تعرفين أية مأساة تنتظرك؟ إن ابني لا يحب سوى لوحاته، ولن تجدي لديه ما يمنحك إياه".

يفرض نظام الزواج روتيناً والتزاماً لا يمكن للكاتب أو للفنان أن يلتزمهما، فروتين المؤسسة الزوجية الذي يقتل الحب والمتخيل وصورة المعشوق يقتل أيضاً الإبداع لدى الفنان ويأسر حريته ويدفنه تحت أثقال الأعباء المنزلية وروتين الحياة اليومية المبيدة للإبداع والخلق والتوهج، ليضطر المبدع إلى الاختيار بين الزواج والإبداع، ولا ضرورة للقول إلى أية جهة ترجح الكفة دوماً.

وبينما تتجلى إشكالية الحياة والفن وعلاقة الفنان بمجتمعه إشكالية لا يمكن الجزم فيها من حيث أن منهم من يجد أن على الفنان أن يبتعد عن مجتمعه ويراقبه من بعيد ليكتب عنه وعن آفاته، ومنهم من يرى أن على المبدع أن ينغمس في متاهات مجتمعه وأن يعيش مع أهله ليفهم الديناميكية التي تحركهم، تظهر إشكالية الفن والزواج واضحة لا تعارض في الآراء حولها ويكاد يكون الإجماع عليها شاملاً: إن الزواج مؤسسة تقتل الحب وتشل الإبداع وتشوه صورة المعشوق المتخيل في ذهن المبدع العاشق. لا بد إذاً للمبدع من أن يظل حراً ولا بد للمعشوق من أن يبقى بعيداً ومستحيلاً وإلا تحول إلى كائن عادي بسيط مسطح وخسر المبدع توهجه.

حلول لا تسمن ولا تغني 

زواج المبدعين مأساة تنتهي دوماً بتراجيديا: من طلاق أو انتحار أو خيانة أو دخول مصحة أو انفصال مؤلم ومأساوي. إن الانزلاق في علاقة عاطفية مع شاعر أو فنان متطلب ومزاجي هو أمر مؤلم ومكلف دائماً وللطرفين كليهما، وربما أحياناً للطرف الآخر أكثر منه للطرف المبدع.

ومن الكتاب من حاول مراوغة القدر للحفاظ على صلابة العلاقة وتوهج الحب فسيمون دي بوفوار وجان بول سارتر مثلاً اعتمدا ميثاقاً بينهما هو كالتالي: "لا للإقامة في منزل واحد إلا بشكل متقطع وعند الضرورة الملحة، لا لإنجاب الأطفال، ولا للاكتفاء بشريك واحد على المستويين العاطفي والجسدي، مع ربط الـ’لا‘ الأخيرة بتجنب الشعور المرضي بالغيرة، وبالتخلي عن غريزة الامتلاك". أما كازانتزاكي فهو الآخر اشترط على معشوقته "أن تقتصر علاقتهما المباشرة على عشرة أيام في السنة يختاران بالتوافق أن يقضياها في مكان ما من الكوكب الأرضي على أن تكون الرسائل وسيلتهما الأمثل للتواصل، خلال ما تبقى من الأيام". أما الأنتروبولوجي الفرنسي روبرت مونتاني فاقترح للتخفيف من الخسائر وتوفير الاستقلالية أن "يحتفظ الكاتب لنفسه بغرفة خلفية يمتلكها بكاملها، ويمارس فيها جرأته وحريته وعزلته".

وعلى رغم أن هذه الحلول قد تبدو مغرقة في الغرابة فإنها الوحيدة التي أنقذت الحب في الحالات القليلة والنادرة التي استمر فيها . فعلاقة سيمون دي بوفوار وجان بول سارتر استمرت لما يناهز 20 عاماً وكذلك علاقة كازانتزاكي بإيليني ساميوس الذي انتهى به الأمر بالزواج منها.

يطرح شوقي بزيع إذاً قضية علاقة الشاعر أو المبدع بالزواج وبالمرأة من خلال هذه الأمثلة الـ32 المستمدة من أخبار أدباء العالم أجمع وليس العرب منهم فقط، ليتبين للقارئ بشيء من البداهة أن الحلول قليلة دوماً والزواج محكوم بالانتهاء بشكل درامي وفي أحيان كثيرة في مدة زمنية قصيرة لا تتخطى السنة، فـللشعراء والفنانون تكوين نفسي خاص بهم يحتم عليهم النأي والابتعاد عن جميع المحيطين بهم وإلا خسروا فنهم وتجددهم ووقعوا في الرتابة والتكرار والملل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"زواج المبدعين، ثراء المتخيل وفقر الواقع" كتاب منهجي متماسك ذو إفادة ومتعة في الوقت نفسه، حرص فيه شوقي بزيع على تقديم قصص حب المبدعين، إضافة إلى لمحة عن أعمالهم وطباعهم ومشكلاتهم النفسية، وأحوال مجتمعهم وبيئتهم ومحيطهم، بأسلوب واضح ومتسلسل ومتين السبك. وقد رتب بزيع قصص المبدعين في كتابه بحسب التسلسل الأبجدي لاسم المرأة المبدعة التي تدخل في علاقة مع الرجل المبدع كما استعمل قائمة مصادر ومراجع مثيرة للإعجاب ومفيدة لكل باحث أو قارئ نهم أوردها في نهاية كتابه. فمع 71 مصدراً ومرجعاً بالعربية و16 مصدراً ومرجعاً بالإنكليزية يتحول هذا الكتاب إلى وثيقة تاريخية أدبية رائعة وغنية لا بد من أن يقتنيها كل عاشق للأدب والفن والإبداع.

ومن الجدير بالذكر أن منهج شوقي بزيع العلمي والموضوعي لم يمنعه عن توظيف لغة أدبية أنيقة جميلة سلسة كما لم يمنعه عن إدخال أبيات شعرية أو مقتطفات من أدب المبدعين الذين يتم تناولهم ليكون هذا العمل كاملاً شاملاً فيه من القصص والأخبار والأشعار مما يثير المتعة والإفادة ويذكر بالجمالية والإستيطيقا التي اتسمت بها كتب الأخبار التي دأب على وضعها الكتاب والشعراء والمؤرخون في العصر العباسي التي ما زال طالب الأدب والعلم والثقافة يقرؤها في يومنا هذا.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة