Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العالم ما برح يخفق في مواجهة "عار الجوع"

الخطط التي انطلقت في سبعينيات القرن الماضي أدت إلى ازدياد الأخطار

يؤس الجوع (متحف هولودومور)

يبدو كتاب "عار الجوع: الغذاء والعدالة والمال في القرن الحادي والعشرين"، تأليف ديفيد ريف David Rieff، وكأنه يكمل ما بدأه كتاب "صناعة الجوع: خرافة الندرة"، للباحثين تأليف فرانسيس مورلاييه وجوزيف كولينز. والكتابان صدرت لكل منهما ترجمة إلى العربية في سلسلة "عالم المعرفة" (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت). ترجمة الأول صدرت في 1983، وأنجزها أحمد حسان، وترجمة الثاني صدرت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 وأنجزها أحمد عبدالحميد أحمد. والكتابان صدرا أصلاً في الولايات المتحدة الأميركية، ويشتركان في مناقشتهما، أزمة الغذاء على مستوى العالم، ودور القوى الكبرى، وعلى رأسها أميركا بالطبع، في صنع تلك الأزمة، ومن ثم استمرارها، بل وتفاقمها بمرور الزمن.

في خلاصة الكتاب الأول جاء أنه في الوقت (السبعينيات) الذي تنتج الأرض ما يكفي لإطعام ساكنيها وأكثر، يوجد نصف مليار جائع! وبالتحليل والأرقام والوقائع، يتبين أن ثلاثة في المئة من سكان العالم يتحكمون في نحو 77 في المئة من مساحة الأراضي الزراعية، وأن ما يزرع من مجمل تلك الأراضي لا يتجاوز 44 في المئة، بينما لا تصل النسبة في بلدان العالم الثالث إلى 20 في المئة. ويقول المؤلفان: "إن من أكثر الخرافات الغذائية ظلماً، تلك التي تقول إن البلدان المتخلفة لا يمكنها أن تزرع سوى محاصيل مدارية، وفي الحقيقة بإمكان هذه البلدان أن تزرع مجموعة كثيرة التنوع من المحاصيل، لأن التركيز على عدد محدود من المحاصيل يخلق حالاً من ضعف البنية الاقتصادية التي تتميز بها البلدان المتخلفة، وضعف البنية هذا يعني عدم القدرة على السيطرة على مصيرها، والحقيقة أيضاً هي أن المزارعين يكدحون في الزراعة، ولكن هذه الحقيقة لا تعني أنهم هم الذين يأكلون ما زرعوا، فإنتاجهم يذهب بالأحرى إلى سوبر ماركت عالمي لا يستطيع أي شخص بلا نقود أن يقف في طابور الدفع فيه، وأن الشركات الزراعية تتحدث عن إنتاج الغذاء في البلدان المتخلفة، ولكنها لا تتحدث عن الأغذية الأساسية التي يحتاج إليها الجياع، مثل الفول والذرة والأرز، وإنما تشير إلى محاصيل الترفيه، مثل المانجو والأناناس، وحتى الزهور".

بعد 40 عاماً

أما الكتاب الثاني الذي نحن بصدد عرض محتواه هنا، بحسب نسخته العربية، فقد صدرت طبعته الأصلية عام 2015، أي بعد أكثر من 40 عاماً على صدور الكتاب الأول. ويطرح كتاب "عار الجوع" The Reproach of Hunger السؤال التالي: لماذ أخفق العالم في إيجاد حل لأزمة الجوع في القرن الـ21؟ هذا هو السؤال الرئيس والأهم الذي طرحه مؤلف الكتاب ديفيد ريف، وهو خبير بارز في مجال المساعدات الإنسانية والتنمية، الذي يعكف من خلاله على تقييم ما إذا كانت نهاية الفقر المدقع والوجوع المنتشر على نطاق واسع باتت في متناول أيدينا حقاً، كما بشرتنا الوعود المتزايدة، مع حلول الألفية الثالثة. ويشير هذا الكتاب إلى أنه في عام 2000 اتفق زعماء العالم وكثير من مستشاريهم على أن استئصال شأفة الجوع يعد أولوية قصوى للألفية الجديدة وتحدياً من المرجح التغلب عليه بحلول منتصف هذا القرن. وعلى رغم ذلك تصاعدت أسعار القمح وفول الصويا والأرز، وهو ما أدى إلى توسيع فجوة الفقر وإثارة موجة من الاضطرابات السياسية. ومن ثم، ألقت هذه الأزمة الطاحنة بظلالها القاتمة على السكان الأشد فقراً في العالم الجنوبي، أو من يطلق عليهم "مليار الجوع"، الذين يعيشون على أقل من دولار يومياً، الذين يعانون دائماً وطأة الجوع.

في هذا السياق يركز ديفيد ريف على البحث عن الأسباب الكامنة وراء أزمة الأمن الغذائي، وكذلك الأسباب التي تقف وراء الإخفاقات في الاستجابة لهذه الكارثة الإنسانية، وإضافة إلى المشكلات التي نجمت عن التغير المناخي، وسوء إدارة الأزمات، والتفاؤل المضلل، يطلق الكتاب صرخة تحذير من عواقب الخصخصة المتزايدة لخطط وبرامج مساعدات التنمية. وهنا، يحذر مؤلف الكتاب من ممارسات التدخل من قبل نشطاء حقوق الغذاء من المشاهير، لافتاً إلى ما يطرحونه من حلول تحركها المصالح والأعمال التجارية تفرغ التنمية من مضمونها السياسي الملح. أخيراً، يرفض المؤلف الأمل الخامل بأن ندرة الغذاء يمكن حلها عن طريق الابتكار التكنولوجي وحده، كما يطالب بإعادة التفكير في الأسباب الجوهرية للتفاوتات الغريبة في الثروات حول العالم، ويرى أن المشكلة تمثل تحدياً سياسياً، "فشلنا جميعاً في مجابهته".

جدول أعمال العالم

في مقدمته لكتابه يشير ديفيد ريف إلى قول راجيف شاه الذي شغل منصب مدير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في فترة رئاسة باراك أوباما: "بحلول أواخر التسعينيات كان الأمن الغذائي العالمي قد خرج في الأغلب من جدول أعمال العالم". وبحسب المؤلف فإن جزءاً من الأسباب التي تكمن وراء هذا كان تجريبياً (حتى إنه تبين أن هذه الأسباب، بديهياً وفي وقت لاحق، لم تكن تجريبية بما يكفي) وجزءاً آخر كان أيديولوجياً، حتى فيما كان من المفترض أن يكون عصر ما بعد الأيديولوجية. هذا الجزء التجريبي - يقول ريف - كان يستند إلى ما بدا أنه تراجع دائم بدلاً من كونه موقتاً، في أسعار المواد الغذائية التي وبحلول عام 2000 بلغت أدنى مستوياتها على الإطلاق. والجزء الأيديولوجي يكمن في افتراض أن - كما ذكر شاه - نجاح الثورة الخضراء (في الزراعة) قد ساعد مئات الملايين من الأشخاص في أميركا اللاتينية وآسيا على تفادي حياة الجوع الشديد والفقر المدقع. وافترضت الحكومات في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، أن هذا النجاح سينتشر، ومن ثم خفضت استثماراتها في الزراعة، وهو ما سمح لها بتحويل اهتمامها إلى مجالات أخرى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كانت أهداف التنمية المستدامة، التي وصفها مدير "مركز بروكس للفقر العالمي" في جامعة ماساشوستس، ديفيد هولم، "أكبر وعد في العالم"، وكان في مقدمة تلك الأهداف التي طرحت "الصيغة صفر" منها، في أوائل يونيو (حزيران) 2014، على مجموعة عمل تابعة للأمم المتحدة، "إنهاء الفقر بكل أشكاله في كل مكان وإنهاء الجوع". لكن 40 دولة فقيرة، على الأقل، كانت تفتقر إلى بيانات كافية حتى يمكنها متابعة أدائها بشأن تلبية ذلك الهدف، بحسب المؤلف الذي شدد في خاتمة الكتاب على أنه مهما كانت العقيدة التنموية الحالية، فإن المشكلات الأساسية لدى العالم قد كانت دائماً أخلاقية، وليست تكنولوجية. ذلك أن - يضيف ريف - "الكليشيه" السائد في عالم التنمية هو أن مؤسسات مثل تلك التي يمتلكها بيل غيتس، والمنتدى الاقتصادي العالمي، وصندوق كلينتون العالمي، تعد مؤسسات براغماتية واقعية عنيدة، في حين أن "حركة الحق في الغذاء"، وغيرها من الحركات المنشقة، حركات حالمة.

ليس مسألة علمية

لكن النقاش بشأن كيف يمكن جعل نظام الغذاء العالمي يعمل بنجاح لإطعام سكان العالم، ليس ببساطة مسألة علمية، وذلك بغض النظر عن عدد المرات التي حاجج فيها باحثون يفضلون موضوع الكائنات المعدلة وراثياً بأنها كذلك، وعلى نحو يفوق النقاش بأن بناء القنبلة الذرية كان مجرد مسألة تقنية. ويضيف المؤلف أنه في السبعينيات لم يكن من المتصور أن القضية الكبرى بشأن محاولة التخفيف من حدة الفقر المدقع والجوع، كان يمكن أن يتعاقد عليها من الباطن، من قبل الحكومات الأقوى في الشمال العالمي، ومن قبل منظومة الأمم المتحدة، وذلك لمصلحة شركات متعددة الجنسيات، ولهؤلاء الأشخاص الذين ينتمون إلى نسبة واحد في المئة الأكثر ثراء بين سكان العالم، بداية من بيل غيتس وانتهاء بغيره من أثرياء العالم الذين قرروا أنهم يريدون أن يصبحوا رأسماليين خيرين – بعبارة أخرى لمصلحة الأفراد (والمؤسسات) الذين يفتقرون كثيراً إلى الديموقراطية، والأقل خضوعاً للمساءلة في هذا العالم. ويختم ديفيد ريف بالقول إنه عندما تكون الدولة جادة في سعيها إلى الحد من الفقر أو الجوع، يمكن تحقيق أشياء عظيمة. يجب - يقول ريف - وضع مشكلة الجوع في إطار سياسي، بدلاً من سياقها الفني، وقد حدث هذا في البرازيل على سبيل المثال عبر برنامج القضاء على الجوع الذي بدأ تطبيقه عام 2003. فقد جرى تناول المشكلة لا باعتبارها مسألة تتعلق ببذور محسنة أو سلاسل قيمة مبسطة، أو لها صلة بالمسؤولية الاجتماعية لشركات أجنبية، أو في الواقع شركات محلية، ولكن بوصفها مسألة عدالة اجتماعية والتزامات الدولة حيال مواطنيها.    

ديفيد ريف، صحافي ومحلل سياسي أميركي، تناولت كتاباته كثيراً من المواضيع مثل الحرب وحقوق الإنسان، والمساعدات الإنسانية في أفريقيا، وهجرة مواطني العالم الثالث إلى الولايات المتحدة، والقضايا الثقافية. ومن أشهر كتبه "تحت تهديد السلاح: الأحلام الديموقراطية والتدخل المسلح"، و"المسلخ: البوسنة وفشل الغرب"، و"في مديح النسيان"، و"السباحة في بحر الموت".  

اقرأ المزيد

المزيد من كتب