Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فيسكونتي وازن بين انفتاحه على السينما وهيامه بالمسرح والأوبرا

الأرستقراطي الأحمر ينتظر ماريا كالاس ليعود إلى شغفه القديم

لوكينو فيسكونتي بين السينما والمسرح والأوبرا (الموسوعة البريطانية)

الزمان عشية الحرب العالمية الأولى، المكان قصر آل مودروني المنيف في ميلانو الإيطالية، وآل مودروني كان قد سبق لهم أن حكموا المدينة طوال أكثر من 200 عام، لكنهم الآن من وجهائها وأثريائها العاملين في الصناعة. سيد القصر بورجوازي محب للفنون له بنواره الخاص في قاعة "لاسكالا"، أما زوجته الثرية المتحدرة من أسرة منتجة لأفخم خمور المدينة فتمسك البيت بقوة تثير إعجاب الصغار وغيظ الأب حتى ولو كانت مثله من هواة الفن وتجميع الأصدقاء من حولهما. وكان هؤلاء يجتمعون مرات عديدة في الشهر في قاعة تبدو كمسرح صغير في القصر، قاعة ينصرف فيها ربا المنزل وحفنة من أصدقائهما إلى تقديم عروض مسرحية وفقرات أوبرالية وهم يشربون ويتناولون الطعام. وكان من بين المتفرجين الدائمين صبي يقترب حثيثاً من العاشرة من عمره يبدو مأخوذاً بما يشاهد ومذهولاً بأمه التي تتخلى على الخشبة عن جبروتها وجديتها لتلعب أدواراً بالكاد يفهم عنها شيئاً. في تلك الأمسيات لن يتنبه أحد إلى ذلك الصبي بشكل خاص، لكن الصبي، وهو واحد من خمسة أطفال للعائلة، سيتنبه إلى كل ما حوله ولن ينساه أبداً، وبالتحديد لأن ما حوله هو الذي سيصنع حياته، ولئن كان سيجعل منه لاحقاً واحداً من كبار سينمائيي العالم، فإنه لن ينسيه أبداً أن هواه الأول لم يكن السينما، بل المسرح والأوبرا اللذان غذيا طفولته وود دائماً لو أنه لا يغتذي إلا بهما.

 

السينما على سبيل التعويض

من الواضح أن الطفل الذي نتحدث عنه هنا والذي كانه عشية الحرب العالمية الأولى لوكينو فيسكونتي، سيجد نفسه يتجه إلى السينما أكثر وأكثر كلما تقدم به العمر، وتحديداً كما حال زميله ومجايله السويدي إنغمار برغمان، لكن المسرح والأوبرا سيظلان لدى الإيطالي جزءاً أساسياً من حياته يفعلان في سينماه، على عكس برغمان الذي سيفصل بينهما تماماً. فيصبح سيداً في فن السينما وسيداً في فنون الخشبة من دون أدنى مزج بين هذه وتلك، هو الذي كان يقول دائماً: السينما زوجتي، والمسرح عشيقتي. أما بالنسبة إلى فيسكونتي، فالاختلاط حتمي بحيث يصعب علينا أن ندرك لمن الأفضلية في حياته للزوجة أم للعشيقة. بالنسبة إليه، يبدو أن الاثنتين امتزجتا في امرأة واحدة، ولعل تأملاً لأفلام فيسكونتي الكبرى بما فيها "لودفيغ" و"الملعونون" و"الحس"، وغيرها يضعنا أمام تلك الحقيقة القائلة لنا إن هذا المبدع الذي كان يسارياً على رغم أرستقراطيته، وهاوياً لفنون الخشبة على رغم هيامه بسباقات الخيل، عرف دائماً كيف يخلط ذلك كله في بوتقة واحدة إلى درجة أن المرء سيصعب عليه، وهو يشاهد فيلماً من أفلامه الكبيرة أن يدرك ما إذا كان يشاهد فيلماً سينمائياً أو أوبرا مصورة.

مسرحي أولاً

مهما يكن، لا شك أن علينا أن نتذكر هنا كيف أن "دليل أوكسفورد للمسرح" الذي عرف فيسكونتي وكان لا يزال حياً، ومن دون أن يحتج هذا الأخير، بأنه قبل أي شيء آخر "منتج ومصمم مناظر للمسرح"، حدث له وهو بعد شاب أن توجه إلى باريس، حيث قادته ظروف معينة إلى أن "يتورط" في الصناعة السينمائية بعد أن كان قصد عاصمة النور ليعمل في مسارحها، إذ عرفته مصممة الأزياء الشهيرة وسيدة المجتمع كوكو شانيل إلى جان كوكتو الذي كان من أساطين الإخراج المسرحي فيها يومها. فعرفه كوكتو على جان رينوار في عز زحام الإنتاجات السينمائية أيام الجبهة الشعبية اليسارية، وهكذا وجد فيسكونتي نفسه يخوض العمل السينمائي ليؤسس لاحقاً في إيطاليا تلك الواقعية السينمائية الجديدة التي، ولا سيما في بداياتها، تبدت شديدة البعد عن الفنون الأوبرالية، لكن ذلك كله لم يبتعد بفيسكونتي عن هواه المسرحي، وعلى هذا النحو نراه "يكتشف" المسرح الواقعي الأميركي، من تينيسي ويليامز إلى آرثر ميلر، وصولاً حتى إلى مسرح الثلاثينيات اليساري في عهد روزفلت، وهكذا إذ نحى الأوبرا جانباً بعض الشيء وراح يمعن في خوض السينما الواقعية، وجد فيسكونتي نفسه في خضم المسرح الواقعي، ولا سيما بعد أن أجبرته ظروف الحرب العالمية الثانية على الابتعاد عن فرنسا، والتخلي عن حلمه بالعمل مع جان رينوار. وفي ميلانو مدينته الأثيرة، وفي وقت كان يستعد فيه لخوض السينما جدياً، نجده يشارك فرقة طليعية ناشئة ظهرت لاحقاً في روما هي فرقة "تياترو إليزيو" في تقديم عمل شكسبيري سيكون في عام 1944 أول انفتاح حقيقي له على المسرح، بل واحدة من التجارب الإيطالية الأولى في إزالة الفوارق بين السينما والمسرح. ونتحدث هنا عن إخراجه مسرحية "كما تريدها" لشكسبير، ولكن تحت عنوان مختلف هو "روزاليندا". وكان قد سبق له أن أخرج قبل ذلك بعامين نص بومارشيه المسرحي الذي اقتبسه موتسارت في "زواج فيغارو".

أوبرا شاعرية ومسرح واقعي

ولقد أتاح له ذلك أن ينضم في الوقت نفسه إلى فرقة باولو ستوبا. رينا موريللي التي كانت تمزج بين الأوبرا الشاعرية والمسرح الواقعي لتخرج للفرقة تباعاً أعمال تبدو حائرة بين كونها أوبرالية ومسرحية، ولكن دائماً ضمن حس طليعي مدهش. أو على الأقل بدا قادراً على إثارة دهشة الحركة المسرحية الإيطالية عبر ابتكارات تقنية لا شك أن فيسكونتي مهد بها لمزجه بين الفنون الثلاثة التي كان يتقنها، حتى وإن شاب عمله على ذلك نوع من "تبرير دائم" لنزوعه نحو الفن السابع، ومهما يكن من أمر، في الوقت الذي كان فيسكونتي يخوض فيه نوعاً خاصاً جداً من سينما واقعية تخصه أكثر مما تخص ذلك التيار الذي سيظل يعد مؤسسه (من "هوس" المأخوذ عن فيلم أميركي مقتبس بدوره عن رواية بوليسية، إلى "الأجمل" و"روكو وإخوته" مروراً بـ"الأرض تهتز" عن رواية للكاتب اليساري فرغا، وصولاً طبعاً إلى "الفهد" عن رواية الأمير دي لامبيدوزا، في فيلم أكد بعد "الحس" توجهاً أوبرالياً رائعاً في سينما فيسكونتي سيتعزز في "الموت في البندقية" عن رواية توماس مان، ثم "البريء" عن رواية غابرييلي دانونزيو). في ذلك الوقت، كان هذا الفنان المتحسر دائماً في أفلامه على انحطاط القيم الجمالية في زمننا هذا، كان يخرج للمسرح الإيطالي تحفاً كبرى جعلته واحداً من أكبر مخرجي المسرح في زمنه: من "الحيوانات الزجاجية" لويليامس، إلى " أوريديس" لجان أنويه، و"موت بائع جوال" و"منظر على الجسر" لأرثر ميلر، وصولاً إلى مسؤولية مطلقة عن تقديم عدد من أعمال تشيخوف في موسم واحد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لم ينس الأوبرا

ولكن أين الأوبرا من ذلك كله؟ طبعاً لم تذهب ضحية للنسيان. فهو بعد أن كان قبل سنوات قد وجد نفسه يقدم "زواج فيغارو" بأبعد ما يكون عن صيغتها الأوبرالية كما وضعها موتسارت، في مقابل تقريب "كما تريدها" الشكسبيرية أقرب ما يكون إلى العمل الأوبرالي، ها هو في عام 1954 يعود إلى ذلك الهوى الأوبرالي القديم، ولكن متكئاً هذه المرة على الكبيرة ماريا كالاس التي كانت في أوج شهرتها في ذلك الحين، فأخرج لها، وتحديداً على خشبتها الأثيرة "لا سكالا دي ميلانو" أول عمل أوبرالي حقيقي اضطلع به، وكان بالطبع أوبرا "لا فستولا" التي ستقول كالاس دائماً إنها أتاحت لها واحداً من أعظم أدوارها الأوبرالية على الإطلاق. ولقد تبدى عملهما المشترك هذا ناجحاً إلى درجة أنهما سيعيدان الكرة معاً مرتين على التوالي إحداهما عام 1955 حين اشتركا في تقديم "لا ترافياتا" لفردي عن "غادة الكاميليا"، والثانية عام 1957 حين قدماً أوبرا "آن بولين" بنجاح استثنائي، وأيضاً على خشبة لا سكالا الميلانية الكبرى.

صناعة التاريخ

وهنا قد يكون من المفيد أن نشير إلى أن لوكينو فيسكونتي (1906 - 1976) لم ينكر أبداً، لا فضل ماريا كالاس في إتاحة تلك الفرصة له كي يصل أخيراً إلى حلمه الأوبرالي الكبير، كما لم ينكر فضل فرانكو زافاريلي الذي مقابل العمل معه، أي مع فيسكونتي، كمساعد في أعظم أفلامه الكبرى ذات الحساسية الأوبرالية، رضي أن يشركه في نشاطه الأوبرالي إذ كان زافاريلي سابقاً أستاذه الكبير في الدنو من ذلك الفن الصعب والمركب. ومن هنا، لعب دوراً أساسياً في ربط فيسكونتي بالأوبرا ولو في سنواته الأخيرة. ولقد تجلى التعاون الخلاق بين الإثنين في أسمى معانيه حين تشاركا في إخراج أوبرالي لقصيدة شكسبير "ترويلوس وكريسيدا" في تقديم تاريخي بمدينة فلورنسا، في أداء سيقال دائماً إن العروض الأوبرالية الإيطالية لم تشهد مثيلاً له في تاريخها المعاصر.

المزيد من ثقافة