Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سيرينا الإغريقية تواجه رنيم المصرية بين الفيوم وفلورنسا

 رشا عدلي تتحايل على التاريخ  لتكتب رواية الحاضر ومشكلاته

مشهد من الفيوم (صفحة الفيوم - فيسبوك)

تتسق رواية "أنت تشرق... أنت تضيء" (الدار العربية للعلوم – ناشرون / دارالشروق) مع مشروع كاتبتها رشا عدلي القائم على المراوحة بين الماضي والحاضر، بوصفها باحثة – أساساً – في تاريخ الفن، وقارئة للتاريخ العام. ظهر ذلك في روايتيها "شغف"، و"آخر أيام الباشا"، فهي تعود في الأولى إلى قصة زينب البكري وعلاقتها بالقائد الفرنسي نابليون بونابرت، وقصة "اللوحة" التي رسمها لها فنان مجهول، متأملة علاقة الشرق والغرب. وفي الرواية الثانية تنطلق عدلي من إهداء محمد علي باشا، زرافة إلى ملك فرنسا. وهكذا نستطيع أن نقول إن رشا عدلي تبدأ من الماضي البعيد أو القريب نسبياً، مستلهمة إياه للإسقاط على الحاضر. وهذا ما يظهر في "أنت تشرق... أنت تضيء"، فهي في هذا العمل تتحرك زمنياً ما بين القرن الأول بعد الميلاد، وعام 2018، ومكانياً ما بين الإسكندرية وفلورنسا.

وعلى رغم اعتماد الكاتبة على التاريخ، فإننا لا نستطيع إدراج رواياتها في خانة الرواية التاريخية، فهي لا تقوم بتسجيل التاريخ أو استحضاره في صورته الأولى على عادة كتاب مثل جرجي زيدان وعلي الجارم ومحمد فريد أبو حديد. إنها تستلهمه فحسب وتنطلق منه ثم يأخذ التخييل المساحة الأكبر في نسيج النص السردي. تقول في الإهداء: "على رغم أن أحداث هذه القصة خيالية، فإن هؤلاء الناس كانوا موجودين". وعلى رغم من أن زينب البكري هي الشخصية الرئيسة في "شغف"، و"رنيم مصطفى عبدالمولى" هي بطلة "أنت تشرق...أنت تضيء"، فإننا لا نستطيع وصف هاتين الروايتين بالنسوية، لأن الكاتبة لا تعرض مشكلات المرأة أو قضاياها بل تقدم المرأة بوصفها شريكاً للرجل في القضايا العامة.

الحقيقة أننا أمام بنيتين متوازيتين في هذه الراوية، لكن ذلك لم يمنع تقاطعهما في المكان - الفيوم تحديداً - على رغم الزمن السحيق الفاصل بينهما/ فنجد في القصة الحديثة "رنيم مصطفى" وفي القصة القديمة "سيرينا"، ابنة "أوكتافيوس" الإغريقي المنحدر من عائلة ذات حسب ونسب الذي قدم جده إلى مصر مع الإسكندر الأكبر الذي أوكل إليه الإشراف على بناء بل وتصميم هذه المدينة التي أطلق عليها اسمه. وكان "أوكتافيوس" يشبه هذا الجد، متمتعاً بالذكاء والثقافة والحكمة والوسامة الإغريقية. وهكذا فإن "سيرينا" تجمع بين الأصول الإغريقية من ناحية أبيها، والمصرية من جهة أمها، أي أنها "نتاج مزج أكبر وأهم حضارتين في العالم". البطولة إذا موزعة بين "رنيم" و"سيرينا"، لكن الهموم – هنا وهناك – عامة. حيث تعرض الرواية لسرقة الآثارالمصرية، وتهريبها، وللفساد الذي حاول الصحافي مصطفى عبدالمولى مواجهته فكان ضحيته، فهرب إلى إيطاليا طالباً اللجوء السياسي وعاش هو وأسرته على الكفاف. ظل يتذكر ما حدث له فلم ينس أنه كان صحافياً، "لم ترض السلطة عن مقالاته التي اعتبرتها تحريضية، تثير الرأي العام وتؤدي إلى نقمة الشعب على حاكمه وسلطته وحكومته. لذلك استغنت الجريدة عنه، واضطر أن يعمل في جرائد أقل أهمية مواصلاً الكشف عن رجال السياسة والأعمال الجشعين والفاسدين".  اضطر في النهاية إلى الهرب هو وعائلته في مركب يحمل ضعف حمولته، معرضاً حياته وحياة زوجته وابنته للخطر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما مأساة "سيرينا" فكانت أشد وطأة، فقد أحبها "ليوناردز"، نائب الإمبراطور الروماني حتى تمكن على غير رغبة أبيها الذي كان يمقت الرومانيين، من الزواج منها. وعلى رغم حب "سيرينا" له فإنها لم تستطع فهمه، فلم يكد يفرغ لها، حتى أحست بالملل والوحدة. كما فزعت من ازدواجيته بين معاملته الرقيقة لها ونظرته الفوقية الوحشية للمصريين بوصفهم – كما يرى – برابرة، لا يتورع من إطلاق الحيوانات المفترسة بعد تجويعها عليهم إذا حاولوا التمرد على ما يفرض عليهم من ضرائب باهظة، حتى تمكنت في النهاية من الهرب والانضمام إلى الثوار ثم هربها مع قليل منهم بعد فشل الثورة إلى الفيوم (جنوب القاهرة).

تقاطع البنيتين

هنا تتقاطع سردية "رنيم" التي حاولت تفسير سر وجوه "مومياوات الفيوم" و"سيرينا" التي كانت إحدى هذه المومياوات. فبعد التحاق "رنيم" بإحدى أكاديميات الفنون الإيطالية بفضل اجتهادها حتى تخرج من دائرة الفقر الشديد الذي فرض عليها، تكتشف هذه المومياوات في أحد المتاحف فكان عنوان أطروحتها "تمازج الفنون في الحضارات القديمة – مومياوات الفيوم نموذجاً".

عانت "رنيم" في طفولتها، لا لسبب سوى أن أباها كان يمتلك شجاعة مواجهة الفساد، لهذا قررت أن تثأر له بعد أن اطلعت على كل مذكراته التي دونها في ملف كبير وأعطاه لها. وبعد سفرها لمصر تكتشف أن رجل الأعمال "علاء الصواف" هو سبب مأساة أبيها، وسرعان ما يكتشف الجميع فساده ويلقى القبض عليه. وفي تلك الأثناء تنشر "رنيم" مذكرات أبيها، وهنا يتراءى لها طيفه مبتسماً، فتلوح له مرددة بما يشبه الهمس: "الآن يمكنك أن ترقد بسلام".

علاقات متشابكة

ظلت "رنيم" طوال صباها وشبابها معلقة بنموذج الأب القوي الذي وهب حياته للدفاع عن الحق والكشف عن الفساد، لكنه  بعد هجرته الاضطرارية، يصبح رجلاً "يسير بظهر منحن، وبخطى بطيئة ومرتبكة ونظرات زائغة وقلقة"، حتى ظهر "يزن" رجلاً مكتملاً يقترب من عمر أبيها، فتقع في حبه أو تتوهم ذلك. على رغم أنه متزوج ويحب زوجته، لكنها تراه نموذجاً للأب الذي تفتقده. وفي مصر تتعرف على "منتصر" ابن الرجل الذي أحب أمها ولم يستطع الاقتران بها، وبعد لأن تنشر مذكرات أبيها تجد نفسها قادرة على تجاوز تعلقها بـ "يزن". أما "سيرينا" فكانت هي الأخرى موزعة المشاعر بين "ليوناردوز" الغامض – وهو في هذا يشبه يزن – و"أوناس" الفنان الذي يعشقها. حتى تحسم أمرها أخيراً – بخاصة بعد مقتل أبيها على يد "ليوناردوز" بسبب اشتراكه في الثورة – باختيار "أوناس" والانضمام للثورة، وهكذا تكون قد بدأت بالثراء وانتهت بالكفاف ثم الموت بعد تناولها - ومن معها من الثوار الهاربين للفيوم - الخبز المخلوط بعشبة تؤدي إلى فقدان العقل ثم الموت كما قرر "ليوناردز" عقاباً لهم، بينما بدأت "رنيم" بالفقر المدقع وانتهت إلى الثراء الملحوظ.

مقارنات لافتة

تزخر الرواية بمقارنات لافتة بخاصة بين الأثرياء – مثل "يزن" وغيره – والفقراء الذين كانت أسرة "رنيم" أشدهم بؤساً، كما يبدو من قولها: "لماذا على أحد أن يغتنم لنفسه كل هذه النعم بينما يعيش غيره ذليلاً؟". وفي القصة القديمة تتكرر المقارنة بين الحي المصري والحي الروماني، فالأول عبارة عن "أكواخ مصنوعة من الطين بسقوف من خوص وجريد وأمام أبوابها جلست العجائز. أطفال يركضون في الحارات حفاة بملابس متسخة. كل شيء في هذا الحي يضج بالفقر والمعاناة"، بينما في الجانب الآخر يقع الحي الروماني الذي يسكنه المستعمر حيث "يعيشون في القصور ذات الحدائق الغناء والفسيفساء من البازليك والتماثيل الرخامية". على أن أهم مقارنة تعقدها الساردة كانت بين حضارتي مصر واليونان العريقتين من ناحية وتاريخ الرومان القائم على نهب خيرات البلاد، واحتقارهم – على رغم ذلك – للمصريين والإغريق معاً. وأخيراً يمكن القول إن رشا عدلي تمكنت بهذه المراوحة الزمنية والمكانية من أن ترسم رحلة طويلة ممتعة بحيوية وتدفق سردي لافت.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة