Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الخبراء الحقيقيون في شؤون الصين

ثمة دروس تستطيع واشنطن تعلمها من حلفائها الآسيويين

سفن بحرية أميركية وكورية جنوبية تشارك في مناورات مشتركة قبالة سواحل كوريا الجنوبية سبتمبر 2022 (رويترز)

طيلة أربع سنوات، بينما كانت الصين العدائية على نحو متزايد تتربص عن كثب بحلفاء الولايات المتحدة في آسيا، تحمّل هؤلاء بهدوء سيول إساءات صدرت من الرئيس دونالد ترمب. وفي عهد الرئيس جو بايدن، عاودوا امتلاك حظوة في واشنطن. فبحلول الوقت الذي تولى فيه منصبه، تحول بايدن، المتفائل البارز بالتعاون مع الصين حينما كان نائباً للرئيس، إلى مشكك متشدد في ما يخص بكين. ورقى الأشخاص الذين أدوا أدواراً محورية في صنع التحالفات الآسيوية، كي يشغلوا أعلى المناصب الرسمية المكلفة بشؤون آسيا في "مجلس الأمن القومي" ووزارة الخارجية والبنتاغون. وحرص على أن تجمعه القمة الأولى التي حضرها بشخصه [وليس عبر الفيديو] مع يوشيهيدي سوغا، رئيس وزراء اليابان آنذاك. ورفعت إدارته تحالف "كواد" (الحوار الأمني الرباعي)، وهو المجموعة التي تربط الولايات المتحدة بأستراليا والهند واليابان، إلى مستوى القمة المنتظمة. وكذلك وافقت إدارته على مساعدة أستراليا في بناء غواصات تعمل بالطاقة النووية بموجب اتفاق "أوكوس" المبرم مع ذلك البلد والمملكة المتحدة [يجمع اسم الاتفاق أسماء البلدان الثلاثة]. وأوردت استراتيجية البيت الأبيض الصادرة في فبراير (شباط) 2022، بشأن منطقة المحيطين الهندي والهادئ، كلمتي حلفاء أو تحالفات أكثر من 30 مرة في وثيقة مؤلفة من 19 صفحة. ولم تستحق الصين سوى إشارتين.

على رغم هذا الاهتمام المرحب به، لا تزال الولايات المتحدة تدفع العلاقة مع حلفائها الآسيويين إلى الوراء، في شكل أساسي. لا تشكّل تلك البلدان شركاء مترددين يحتاجون إلى من يخلصهم بحزم من الشعور بالرضا الذاتي. بالأحرى، إنها بلدان تعيش في ظل تهديد الصين كل يوم، وتحرص على تخفيفه، وقد مثّلت الجذور العميقة واقعياً في عدد من مبادرات إدارة بايدن الرامية إلى مواجهة نفوذ ذلك البلد [الصين]. واستطراداً، إنها ليست بلداناً مبتدئة متهورة تفشل في فهم مخاطر المنافسة مع الصين، بل إنها تمتلك في الغالب فهماً أكثر دقة للتعايش مع الصين بالمقارنة مع ذلك السائد في واشنطن. وبينما تدقق الولايات المتحدة في استراتيجيتها تجاه الصين، يجب عليها أن تستفيد في شكل متزايد مما تفعله أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية.

في الواقع، مع تزايد اعتماد الولايات المتحدة على الحلفاء للحفاظ على توازن قوى مؤاتٍ لها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ستتوقع تلك البلدان بطبيعة الحال رأياً أكبر لها في صياغة الاستراتيجية الخاصة بالصين. لكن الولايات المتحدة لا تزال غير متوائمة مع حلفائها في شأن إثنين من أكبر الأسئلة الاستراتيجية وهما الدور الذي يجب أن تؤديه اتفاقات التجارة الحرة الإقليمية في المنافسة مع الصين، والهدف النهائي لسياسة الحلفاء تجاه الصين. وهناك أوجه قصور خطيرة في تبادل التكنولوجيا وفي القيادة والسيطرة، تحتاج إلى معالجة. وليست أوجه سوء التواؤم هذه مجرد اختلافات غير ضارة بين الأصدقاء. فكلما طال أمدها، تمكنت الصين من الاستفادة منها.

إنذار مبكر

بينما يجدد واضعو السياسات الأميركيون سياسة بلادهم تجاه الصين، ثمة نقطة انطلاق جيدة تتمثّل بالاعتراف بأن الولايات المتحدة لم تكن هي من تحرك أولاً للرد على التحدي الصيني، بل حلفاؤها. قبل عقد، كانت إدارة أوباما تنظر في اقتراح الزعيم الصيني شي جينبينغ حول وضع "نموذج جديد للعلاقات بين القوى العظمى"، كان من شأنه، في النسخة التي ارتأتها بكين عنه، أن ينزل اليابان وكوريا الجنوبية إلى مرتبة ثانية في تجمع مشترك جديد ثنائي القطب يجمع بين الولايات المتحدة والصين.

واحتجت طوكيو وعواصم أخرى بهدوء، على غرار ما فعلت عام 2009 حينما وقع الرئيس باراك أوباما والرئيس الصيني هو جين تاو بياناً مشتركاً تعهدا فيه باحترام "المصالح الأساسية" بين الولايات المتحدة والصين، وكذلك حينما اقترح مسؤولو إدارة أوباما منح بكين "طمأنينة استراتيجية". لم يكن حلفاء الولايات المتحدة يسعون إلى مواجهة، لكنهم شعروا بمخاوف مشروعة من فقدان الدعم الأميركي في وقت تزايد فيه الإكراه الذي تمارسه الصين في منطقتهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وغيّر المسؤولون الأميركيون موقفهم قبيل انتهاء ولاية أوباما، حينما أصبحت الأبعاد التعديلية الخاصة بالاستراتيجية الصينية أكثر وضوحاً. وكذلك تغير مزاج الرأي العام الأوسع. ففي عام 2012، وجد استطلاع أجراه "مجلس شيكاغو للشؤون العالمية" أن 40 في المئة من الأميركيين يفضلون إعطاء أولوية أعلى إلى بناء علاقات جيدة مع الصين مقارنة بحلفاء الولايات المتحدة. ومع حلول عام 2018، انخفض هذا الرقم إلى 26 في المئة. وتماثل ذلك مع المشاعر على الجانب الآخر من المحيط الهادئ. إذ أظهرت استطلاعات الرأي في أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية دعماً ساحقاً في كل بلد هناك لتحالفات تلك الدول مع الولايات المتحدة.

إذ تنبهت واشنطن إلى تهديد الصين، فإنها فعلت ذلك في وقت متأخر عن أهم حلفائها في آسيا، لا سيما اليابان. عام 2013، حينما توقعت واشنطن شراكة أوثق مع شي، أصدرت حكومة رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي استراتيجية للمنافسة البعيدة الأجل تستند إلى افتراضات حول السلوك الصيني أصبحت الآن مقبولة على نطاق واسع في دوائر السياسة الأميركية.

وقد امتلك آبي آراء مثيرة للجدال حول تاريخ اليابان، إذ حاجج بأن اليابان تعرضت في الغالب إلى انتقادات غير عادلة بسبب سلوكها خلال الحرب العالمية الثانية. وجعلت تلك الآراء منه في نظر كثر في واشنطن، مفسداً غير مرحب به للعلاقات الأميركية - الصينية.

وسعت بكين إلى استغلال تلك الشكوك من خلال استهدافه بحملة إعلامية عالمية. (في واحدة من أكثر الحلقات المسرحية في حملة بكين التي لا هوادة فيها، ذهب السفير الصيني في لندن إلى حد كتابة مقال لصحيفة "تلغراف" يقارن آبي باللورد فولدمورت الشرير في كتب هاري بوتر).

لكن آبي أصر على استراتيجيته. وقد أعاده "الحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم" إلى السلطة في طوكيو في سياق تطلع ذلك الحزب إلى إعادة ضبط العلاقات مع بكين بعد سنوات من التوغلات الصينية المحرجة حول جزر "سينكاكو" (المعروفة في الصين باسم جزر دياويو) التي تديرها اليابان. لقد فهم آبي جيداً ما بدأت واشنطن في إدراكه للتو. لقد قيّم قادة الصين الولايات المتحدة واليابان باعتبارهما في انحدار حاد. وقد اعتزم آبي تغيير هذا التصور.

في مواجهة تدهور ميزان القوى في ما يتعلق بالصين، امتلك بلد كاليابان ثلاثة خيارات أساسية. يتمثل الأول بالانضمام إلى عربة القوة الصاعدة. لكن هذا الخيار لم يكن قط ما قد يفكر فيه آبي أو أي زعيم ياباني آخر. إذ نقل آبي إلى جمهور أميركي عام 2013، إن "اليابان ليست الآن ولن تكون أبداً قوة من الدرجة الثانية".

ويتجسد الخيار الثاني بالتوازن الداخلي، بمعنى تعزيز القوة لمواجهة التهديد. في حالة اليابان، تتلخص أسرع طريقة لتحقيق ذلك في الحصول على أسلحة نووية، وبوسع طوكيو أن تطورها في أقل من سنتين، لكن الرأي العام الياباني يظل معارضاً بغالبية ساحقة، وكذلك حلفاء اليابان. بدلاً من ذلك، استثمر آبي في قدرات دفاعية أكثر دقة في توجهاتها، ومصادر جديدة للنمو الاقتصادي. إذ اقترح الحصول على صواريخ بعيدة المدى تتجاوز المهمة الدفاعية الصارمة لقوات الدفاع الذاتي اليابانية، وأنهى انخفاضاً دام عقدين في ميزانيات الدفاع، وركز اتخاذ القرارات في مجال الأمن القومي، داخل مكتب رئيس الوزراء. في ما يتعلق بالاقتصاد، لم ينهض آبي بالإصلاحات الكاملة التي دعا إليها معظم الخبراء، لكنه حفز النمو من خلال تحرير مجموعة من القطاعات، مع ممارسة ضغوط بهدف زيادة عدد النساء في القوة العاملة.

ثمة طريقة ثالثة لمعالجة اختلال توازن القوى، وقد شكلت محور استراتيجية آبي الشاملة، تتمثّل بالتوازن الخارجي، أو تعزيز التحالفات. قبل عقد، ربما كانت واشنطن لا تزال تناقش الأهمية النسبية للتعاون مع الحلفاء في مقابل التعاون مع الصين.

في المقابل، بالنسبة إلى طوكيو لم يكن هناك شك بشأن أي من التعاونين هو أكثر أهمية. خلال معظم تاريخ اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، فسرت الحكومات الدستور السلمي للبلاد على أنه يمنع اليابان من مساعدة البلدان الصديقة التي تتعرض إلى هجوم. ولأن الرأي العام الياباني خشي دوماً الوقوع في شرك مغامرات الولايات المتحدة خلال "الحرب الباردة"، بأكثر من خشيته الاستبعاد، فقد وفر هذا التفسير ذريعة مريحة للوقوف موقف المتفرج أمام نزاعات من حرب فيتنام وصولاً إلى حرب الخليج. وأثناء حقبة ولايته، بات آبي أكثر قلقاً من الاستبعاد بالمقارنة مع الوقوع في أفخاخ [المغامرات الأميركية]. لقد أدت الجوقة الحمائمية المتنامية في واشنطن [بمعنى الميل إلى تخفيف النزعة العسكرية]، إلى جانب البصمة العسكرية المتوسعة للصين حول اليابان، إلى التخلص من تلك الذريعة.

 

في العام 2014، قدم آبي تشريعاً يعترف بأن اليابان ستمارس حق الدفاع الذاتي الجماعي ويمكنها القتال إلى جانب الولايات المتحدة إذا دعت الحاجة. وعلى رغم أن آبي كان مدفوعاً جزئياً بمعارضة أيديولوجية للقيود الدستورية اليابانية، فإنه قد سعى بشكل أساسي إلى ضمان اعتماد الولايات المتحدة في شكل أكبر على اليابان أثناء الأزمات حتى تظل اليابان قادرة على الاعتماد على الولايات المتحدة.

وبعد أكثر من 100 ساعة من النقاش الشاق في البرلمان الياباني، نال دعم البلاد. لم يتمثّل دافع آبي بالحنين إلى القيادة الأميركية بقدر ما كان تقييماً واقعياً لما يتطلبه تعزيز قوة الولايات المتحدة والتزاماتها في المنطقة، من أجل أمن اليابان الخاص. وكان هذا هو السبب في أن آبي، أكثر من أي زعيم عالمي آخر، أبدى استعداداً لاستيعاب انتقادات ترمب اللاذعة والتأكد من بقاء الرئيس الأميركي الزئبقي إلى جانبه.

كذلك تضمنت استراتيجية آبي على صعيد التوازن الخارجي تعزيز قدرة البلدان على الصمود في مواجهة النفوذ والإكراه الصينيَّين غير المبرَرَّين. ولم تكتف استراتيجيته حول "منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة" من ناحية التمويل، بالندية مع استراتيجية "مبادرة الحزام والطريق" الصينية، بل وعدت أيضاً باستثمارات عالية الجودة في البنية التحتية من شأنها حماية البيئة وتجنيب المستفيدين من الأفخاخ الخطيرة للديون [تعتبر الديون من المآخذ الأساسية على مبادرة الحزام والطريق].

وقد أينع هذا التركيز على مساعدة المنطقة ثماره حاضراً. إذ باتت اليابان اليوم تتمتع بتصنيفات تفضيلية في جنوب آسيا وجنوبها الشرقي تتجاوز بكثير تلك التي تحظى بها الصين أو أي بلد آخر في العالم. وكسب آبي تدريجاً دعم الشركاء المشككين في اقتراحه بإعادة تأسيس "كواد" بعد توغلات الصين في بحر الصين الجنوبي، وكذلك الحدود المتنازع عليها بينها وبين الهند في هضبة جبال هيمالايا.

كذلك توسعت اتفاقات التجارة الحرة التي تهدف إلى تعزيز القواعد الاقتصادية المفتوحة للمنطقة في عهد آبي. فحينما، بدأ فترته الثانية كرئيس للوزراء عام 2012، كان أقل من 20 في المئة من تجارة اليابان مشمولاً باتفاقات كهذه، لكن بحلول الوقت الذي ترك فيه منصبه عام 2020، وصلت الحصة إلى 80 في المئة.

وحينما انسحبت إدارة ترمب من اتفاق "الشراكة عبر المحيط الهادئ" Trans-Pacific Partnership (TPP) عام 2017، تدخل آبي مع نظرائه من أستراليا وكندا وسنغافورة لضمان المضي قدماً في ذلك الاتفاق، تاركاً مكاناً على الطاولة إذا استعادت الولايات المتحدة اتجاهاتها في السياسة التجارية.

لم يفعل أي زعيم عالمي آخر أكثر من ذلك في مواجهة النزعة التعديلية الصينية بغرض مواءمة القوى الكبرى والاستثمار في دوام البلدان ضدها، وهذا شكل في نهاية المطاف استراتيجية الولايات المتحدة. [يشير مصطلح النزعة التعديلية إلى ميل بعض الدول إلى إعادة النظر في المعطيات الحاضرة لتغييرها وفق تبريرات مختلفة ومتفاوتة، خصوصاً العودة إلى تاريخ قديم].

واستطراداً، تنبع استراتيجيتا إدارتي ترمب وبايدن حول منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرة والمفتوحة وتبنيهما "كواد"، من إطار آبي الأصلي، وفي شكل حرفي غالباً. وبدأت الحكومات في أنحاء أوروبا وآسيا كلها في صياغة نهجها تجاه المنطقة وفق مفهوم "منطقة المحيطين الهندي والهادئ" كي يكون ذلك بديلاً من التصور المتلاشي [الزعيم الصيني] شي، المتمحور حول الصين والمتمثل في مفهوم "مجتمع له مصير مشترك".

حينما اغتيل آبي في يوليو (تموز) 2022، اعترف العالم بأثره. كذلك أشار باحثون ودبلوماسيون إلى أوجه القصور في نهجه. وتمثّلت تلك الأوجه بالعلاقات الصعبة مع كوريا الجنوبية، والجهود الدبلوماسية غير المثمرة مع روسيا، والجهود غير المكتملة لتحفيز النمو الاقتصادي مع الحفاظ على التمكين الاقتصادي للمرأة بغية معالجة الصورة الديموغرافية القاسية لليابان.

لكن للمضي قدماً، يجب أن يتضمن نهج واشنطن تجاه الحلفاء فهماً لكيفية تقديم آبي المستمر والفاعل للإطار الذي يحدد المنافسة مع الصين، وأين تقصر استراتيجية الولايات المتحدة بالمقارنة مع ذلك الإطار.

الموالون

برزت اليابان بوصفها أهم مصدّر صاف للأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لكن أستراليا وكوريا الجنوبية لا تزالان طرفين مهمين، نظراً إلى جيشيهما القويين ومجموعات أدواتهما التنموية والدبلوماسية. لأسباب جغرافية إلى حد كبير، لم تكن كانبيرا وسيول سريعتين في التنظيم استجابة لتحدي الصين مثل اليابان.

ويرجع ذلك إلى أنها بعيدة جداً عن الصين وكوريا الجنوبية قريبة تماماً. يتمتع حلفاء الولايات المتحدة جميعاً بعلاقات تجارية أوثق مع الصين بالمقارنة مع علاقاتها تجاريّاً بالولايات المتحدة، لا سيما أستراليا وكوريا الجنوبية. إذ تذهب 35 في المئة من الصادرات الأسترالية و25 في المئة من الصادرات الكورية الجنوبية إلى الصين، بالمقارنة مع 22 في المئة إلى اليابان وتسعة في المئة إلى أميركا.

في المقابل، تجد أستراليا وكوريا الجنوبية بشكل متزايد طرقاً لتبني إطار "منطقة المحيطين الهندي والهادئ" نفسه الذي رفعت لواءه اليابان وتبنته واشنطن.

قبل عقدين، بدأت أستراليا في جني ثروة من تصدير الموارد الطبيعية إلى الصين واستيراد الطلاب والسياح منها. وفي الغالب، رأى الأستراليون إيجابيات تتأتى من علاقتهم الاقتصادية مع الصين، خصوصاً أنه ليس لديهم ذلك النوع من التصنيع الذي نبه الرأي العام الياباني في وقت مبكر إلى سوء السلوك الصيني في السوق العالمية كسرقة الملكية الفكرية، وإغراق الأسواق بصادرات بأسعار أقل من أسعار الأسواق، وتقييد الاستثمار الأجنبي.

وفي عام 2013، وجد "معهد لوي"، وهو مؤسسة بحثية أسترالية، أن 76 في المئة من الأستراليين يعتقدون بأن مستقبلهم الاقتصادي يكمن مع الصين وليس مع الولايات المتحدة. وتعبر تلك التوقعات أيضاً عن تفاؤل الولايات المتحدة المتزايد في شأن الصين في ذلك الوقت. وفي حين حفزت الإدارات الأميركية المتعاقبة طلب بكين "شراكة استراتيجية"، شكلت كانبيرا "شراكة استراتيجية شاملة" مع بكين عام 2014.

أثار توسع بكين في بحر الصين الجنوبي عامي 2014 و2015 قلق أعضاء في مجتمع الأمن القومي الأسترالي على غرار ما حصل مع نظرائهم الأميركيين. لكن بالنسبة إلى معظم الأستراليين، جاء التنبيه عام 2018، حينما أعلن رئيس الوزراء مالكولم تورنبول أن الصين تحاول بناء قاعدة غواصات في جزيرة "فانواتو" في المحيط الهادئ. وقد كان من شأن ذلك التطور أن يضع قوات معادية محتملة في جوار أستراليا للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية.

ومن ثم، عام 2019، كشف برنامج إخباري أسترالي مؤثر عن تفاصيل حية حول عمليات الحزب الشيوعي الصيني الواسعة للتأثير في المجال السياسي والمجتمع الأستراليين، ما دفع البرلمان إلى صياغة قوانين صارمة ضد التدخل الأجنبي.

وحينما دعت الحكومة الأسترالية إلى إجراء تحقيق دولي في أصول "كوفيد-19" عام 2020، هدد السفير الصيني في كانبيرا بمقاطعة استهلاكية ضخمة للبضائع الأسترالية. وسرعان ما انخفضت الواردات الصينية من الفحم والنحاس والشعير والنبيذ من أستراليا إلى حد كبير، إذ حاولت بكين استخدام الاعتماد الاقتصادي المتبادل كأداة للإكراه.

واحتُجِز صحافيون أستراليون داخل الصين. وشُنت حملة دعائية صينية تضليلية في المنطقة شملت إطلاق اتهامات استفزازية تتعلق بالعنصرية وجرائم الحرب الأسترالية. وصعدت بكين التوترات أكثر من خلال تقديم قائمة من 14 مطلباً طلبت من كانبيرا تلبيتها كشرط لتحسين العلاقات، بما في ذلك الصمت عن الانتهاكات الصينية لحقوق الإنسان ووقف تمويل المؤسسات البحثية التي تنتقد الأنشطة العسكرية الصينية.

وفشلت المناورة الصينية في شكل مذهل. ذلك أن استطلاع "معهد لوي" هذا العام بيّن انقلاباً مذهلاً في وجهات النظر تجاه الصين. إذ ذكر 75 في المئة من الأستراليين أن الصين ستصبح تهديداً عسكرياً لأستراليا في المستقبل. وأصبحت أستراليا أول دولة تحظر الشركتين الصينيتين "هواوي" و"زد تي إي" من أسواق الاتصالات لديها، وكذلك يعمل مجلس جديد لمراجعة الاستثمار الأجنبي، على الحد من عمليات الاستحواذ الصينية للأصول الاستراتيجية في أستراليا.

وتحدت حكومة رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون الذي تولى منصبه في أغسطس (آب) 2018، مطالب الصين بأن وافقت على بناء غواصات تعمل بالطاقة النووية وتطوير قدرات متقدمة أخرى مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بموجب اتفاق "أوكوس".

وفي السياق نفسه، توسع أستراليا التعاون الدفاعي مع اليابان. إذ وقعت اتفاقاً عام 2022 ينص على الوصول المتبادل إلى المنشآت العسكرية في البلدين، ودعت أعداداً أكبر من القوات اليابانية للمشاركة في تدريبات عسكرية في أستراليا. كذلك وقعت البلاد اتفاقيات دفاعية جديدة مع الهند. وعلى غرار اليابان، تحركت أستراليا في شكل أسرع من الولايات المتحدة لإدارة المنافسة مع الصين.

تُعَد كوريا الجنوبية أحدث حليف للولايات المتحدة في آسيا يلتحق بالركب [مواجهة الصين]. في حالة، أدى قرب الصين إلى تقليص كبير لمجال المرونة، بالمقارنة مع أستراليا واليابان. لقد أحبطت اليابان غزواً صينياً واحداً في القرن الثالث عشر، ولم تواجه أستراليا أي غزو صيني، لكن تاريخ كوريا الجنوبية مليء بالعشرات من الغزوات من جارتها العملاقة الواقعة إلى الشمال. وبصورة مطردة، يتزايد تأثير الصين في كوريا الشمالية التي تمثل التحدي الأمني الأكثر أهمية لكوريا الجنوبية، وقد أصبحت بيونغ يانغ تعتمد على الصين في 90 في المئة من تجارتها.

 

في بعض الأحيان، لم تؤد جهود سيول في إدارة العلاقات مع القوى العظمى عبر أنحاء شبه الجزيرة الكورية كلها، إلا إلى إثارة مزيد من الشكوك والغيرة والضغط. ووقعت حكومتا الرئيسين السابقين، بارك جيون-هاي ومون جاي-إن، في هذا الفخ. إذ طلبت بارك دعم بكين على رغم حسن نواياها بشأن التحالف مع واشنطن. وأيدت حكومتها ضمنياً هيكلاً أميركياً صينياً للوضع الجيوسياسي الآسيوي من خلال اقتراح حوار ثلاثي بين الولايات المتحدة والصين وكوريا الجنوبية، ما أثار استياء طوكيو.

ورداً على مقاطعة صينية بمليارات الدولارات للشركات الكورية الجنوبية بغية معاقبة سيول بسبب قبولها بطاريات صواريخ أميركية من فئة "الدفاع الجوي في الارتفاعات العالية الطرفية" ("ثاد" THAAD) عام 2016، وعدت حكومة مون بكين بأنها ستحد في المستقبل من التعاون العسكري في مجال الدفاع الصاروخي مع الولايات المتحدة. هذا التكيف الذي لا مثيل له مع الصين في ما يتعلق بالتحالف بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، أثار الشكوك في واشنطن وحرّك الطموحات في بكين.

مع ذلك، توتر الرأي العام الكوري الجنوبي إزاء الصين بشكل أسرع مما حصل في أستراليا. وقد تدهورت معدلات التأييد لبكين في كوريا الجنوبية، بأثر من المقاطعة بسبب "ثاد"، والتعاطف مع مواطني هونغ كونغ بعد حملة بكين القمعية، والمشكلات المتزايدة التي واجهتها الشركات الكورية الجنوبية العاملة في الصين.

مع حلول عام 2021، أفاد 77 في المئة من الكوريين الجنوبيين إنهم لا يثقون في الصين. وحينما أصبح السياسي المحافظ يون سوك- يول رئيساً في مايو (أيار) 2022، أعاد تنظيم الدبلوماسية الكورية الجنوبية مع الولايات المتحدة وحتى اليابان على رغم التوترات المستمرة مع طوكيو حول مسائل تاريخية مؤلمة.

وسيظل يون مقيداً بالجغرافيا ومشكلة كوريا الشمالية. ومثلاً، حينما زارت نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي، طوكيو بعد زيارتها المثيرة للجدل إلى تايوان في أغسطس 2022، التقت برئيس وزراء اليابان. في المقابل، حينما حلت بيلوسي في سيول، كانت يون في إجازة. ومع ذلك، باتت سيول الآن تتبع خطى أستراليا واليابان في التوافق المتزايد مع الولايات المتحدة.

في النسيج الأكبر للعلاقات الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، تركز إدارة بايدن بشكل صائب على توسيع المشاركة مع الهند من خلال تحالف "كواد"، و"رابطة دول جنوب شرقي آسيا"، وحلفاء قدامى تربطهم بالولايات المتحدة معاهدات كالفيليبين وتايلاند، والآن بلدان جزر المحيط الهادئ.

ويضم عدد من البلدان التي تتودد إليها الولايات المتحدة، شعوباً ديناميكية مستعدة لأداء أدوار قيادية في مستقبل المنطقة والعالم. ويتنافس بعض تلك البلدان مع الصين لكن بطريقة محسوبة، على غرار الحال في فيتنام والهند. ويناقش الجميع مساراتهم المستقبلية، بما في ذلك علاقاتهم البعيدة الأجل مع الولايات المتحدة والصين. ومن شأن هذا البحث عن الذات أن يزيد من أهمية تعميق المشاركة الأميركية.

بالترافق مع ذلك، في المستقبل المنظور، ستكون أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ضمن قائمة خاصة بها. إنها بالضبط التحالفات التي ستحتاج إليها الولايات المتحدة أكثر من غيرها في أي أزمة إقليمية، وإدارة بايدن محقة في إعطائها الأولوية. من ناحية أخرى، سيتعين على هذه الإدارة البدء في اعتبار الحلفاء ليس مجرد أدوات للسياسة الأميركية بل مبتكرين استراتيجيين يرون بوضوح الثغرات في نهج واشنطن نفسه.

 

أخبرهم إلى أين ستصل الأمور

ثمة اختلاف دقيق لكنه حاسم، في الرؤية البعيدة الأجل للعلاقات مع الصين. لقد بُنِيت استراتيجية آبي على إعادة ضبط العلاقات مع الصين، وليس احتواء الاقتصاد الصيني أو الانفصال عنه بالكامل. في أبريل (نيسان) 2022، حينما "أعدت لجنة بحوث الأمن القومي" المتشددة في "الحزب الليبرالي الديمقراطي"، إطار عمل الحزب الحاكم بشأن خطة الدفاع اليابانية المقبلة، دعا أعضاؤها إلى مضاعفة الإنفاق الدفاعي إلى إثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في غضون خمس سنوات، وتوسيع قدرة اليابان على توجيه ضربات.

ومع ذلك، أوضحت الوثيقة أن الهدف النهائي للبلاد يتمثّل في "علاقة بناءة ومستقرة" مع الصين. وحتى بعد المقاطعة الاقتصادية التي فرضتها بكين، وسعت حكومة موريسون في أستراليا تمويل التبادلات مع الصين من خلال منظمات كـ"المؤسسة الوطنية للعلاقات الأسترالية الصينية"، وكذلك تحدثت وزيرة الخارجية العمالية الجديدة، بيني وونغ، عن رغبتها في "استقرار" العلاقات [مع الصين]. ورغم أن الرئيس الكوري الجنوبي يون وعد بدعم استراتيجية بايدن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وأن يكون أقل محاباة للصين، تعهدت وزير خارجيته، بارك جين، خلال زيارتها بكين، بدعم التعاون الإقليمي والعالمي.

يمكن للمرء أن يفسر هذه المواقف على أنها تسوية مزدوجة، لكن القراءة الأكثر دقة تبيّن أن الحلفاء الرئيسيين الثلاثة يسعون إلى العمل مع بكين في شأن المسائل المثيرة للقلق من موقع قوة مدعوم بتحالف أوثق مع الولايات المتحدة وغيرها من البلدان ذات التفكير المماثل في المنطقة. بعبارة أخرى، لا يزال حلفاء الولايات المتحدة في آسيا يأملون في الحصول على نسخة من الاستراتيجية التي اتبعها رؤساء الولايات المتحدة من ريتشارد نيكسون إلى أوباما في المنطقة.

وتتمثّل تلك الاستراتيجية في مزيج من التوازن والتوصل إلى انخراط الصين معها، لكن مع هدف بعيد الأجل يتمثل في أن يحدث ذلك الانخراط الصيني في ظل قواعد مؤاتية للديمقراطيات الصناعية المتقدمة. إذاً، تتمثّل الفكرة في التنافس مع الصين، لكن مع أخذ حالة نهائية واضحة في الاعتبار.

إذاً، ثمة إجماع واسع في كانبيرا وسيول وطوكيو وواشنطن على أن الزعيم الصيني شي سيطرح تحديات جيوسياسية واقتصادية خلال العقد المقبل، بالتالي يحتاج حلفاء الولايات المتحدة إلى التعاون بهدف إضعاف أسوأ طموحاته. في المقابل، يتجسّد الفارق بين واشنطن وأولئك الحلفاء بالحاجة إلى إطار عمل يقدم أكثر من مجرد العمل على عزل بكين.

في ذلك الإطار، جاء جزء كبير من استراتيجية الولايات المتحدة بعد "الحرب الباردة" على شكل سعي صريح إلى تشكيل الصين في ضوء اعتقاد مفاده بأن مزيجاً من المشاركة والتوازن يمكن أن يجبر بكين على الدخول في علاقة أكثر ديمومة في الأجل البعيد.

في المقابل، تتخلى استراتيجية إدارة بايدن بشأن "منطقة المحيطين الهندي والهادئ" بوضوح عن هذه المهمة. إذ جاء في الوثيقة [المتعلقة بتلك المنطقة] أن "هدفنا ليس تغيير [جمهورية الصين الشعبية] بل تشكيل البيئة الاستراتيجية التي تعمل فيها، وبناء توازن نفوذ في العالم يكون مؤاتياً إلى أقصى حد للولايات المتحدة وحلفائنا وشركائنا، والمصالح والقيم التي نتشاركها".

إن الصين في ظل شي عبارة عن ندٍّ أكثر صرامة، بالتالي فستشتد المنافسة في المجالات كلها، من الجيش إلى التكنولوجيا. لكن النهج الأميركي الحالي ترك الحلفاء والشركاء يتساءلون عن نهاية اللعبة الأميركية [بمعنى الهدف النهائي] في شأن العلاقات مع الصين. بالتالي، إذا لم يتخل أولئك الحلفاء عن تشكيل الصين، فلا ينبغي للولايات المتحدة أن تفعل ذلك.

إنها الاستراتيجية الاقتصادية يا غبي

يضرب الإحباط المعروف جيداً لدى الحلفاء الآسيويين من عدم وجود استراتيجية تجارية أميركية منذ عهد إدارة ترمب، جذوره في هذا البحث البعيد الأجل عن توازن عملي مع الصين التي تمثّل الشريك التجاري الأول لمعظم بلدان المنطقة.

لقد جذبت "الشراكة عبر المحيط الهادئ" شركاء الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لأنها دمجتهم في السوق الأميركية الجذابة وكذلك لكونها قد مهدت الطريق أمام مفاوضات أكثر نجاحاً مع بكين حول القواعد الاقتصادية في المستقبل. تتمثل الرؤية الأصلية لاتفاق "الشراكة عبر المحيط الهادئ" في أن وزن هذا العدد من الاقتصادات الإقليمية المفتوحة من شأنه أن يعزز المحادثات حول اتفاق "الشراكة في التجارة والاستثمار عبر الأطلسي" Trans-Atlantic Trade and Investment Partnership (TTIP) مع أوروبا، ويضع ضغوطاً هائلة على بكين مع تزويدها بحوافز للتفاوض على المنوال نفسه مع كل الدول الأعضاء [في اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ].

ففي سيدني عام 2007، اتفقت الولايات المتحدة وغيرها من البلدان التي حضرت "منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ" على أن اتفاق "الشراكة عبر المحيط الهادئ" سيكون لبنة تسهم في صنع منطقة أوسع للتجارة الحرة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ تشمل الصين. (أصر الوفد الأميركي على مصطلح "منطقة" بدلاً من "اتفاق" لتجنب إخطار الكونغرس قبل إعداد الطاولة لإجراء مفاوضات مع بكين).

وبالاستعادة، حينما وصل زخم "الشراكة عبر المحيط الهادئ" ذروته في عام 2015، أطلع أوباما نظيره الصيني شي على ذلك الاتفاق. وكذل أشار مسؤولون صينيون بارزون إليها على أنها مصادقة خارجية على إصلاحات اقتصادية، ما يتشابه بالكامل مع استخدام رئيس الوزراء تشو رونغزي اتفاقية إنشاء "منظمة التجارة العالمية" في تسعينيات القرن العشرين، لإعادة هيكلة الشركات المملوكة للدولة في الصين.

واستطراداً، ثمة سؤال بات إشكالياً الآن عن مدى إمكانية تحقيق هذه الرؤية الأصلية لاتفاق "الشراكة عبر المحيط الهادئ" بوصفه ثقل موازن لبكين. ويرجع ذلك إلى انسحاب إدارة ترمب من اتفاق الشراكة، فيما تصر إدارة بايدن على أنها لن تعود إليها. بالتالي، بات حلفاء الولايات المتحدة، ومجتمع الأعمال الأميركي، وحتى عدد من الشركات الصينية، في موقف تفاوضي أضعف بكثير تجاه الدولة الصينية.

ويتبدى أن الأمر الأكثر إثارة للقلق لدى من يعتمدون على نظام تقوده الولايات المتحدة، يتجسّد في الفراغ الناجم عن تراجع واشنطن في السياسة التجارية. وخلال عام 2022، ارتقت أميركا في مؤشر للقوة الإقليمية يديره "معهد لوي" الأسترالي، إلى أعلى نفوذ دبلوماسي إقليمي، لكنه أشار إلى أن أثرها الاقتصادي انخفض أكثر من أي وقت مضى منذ سنوات ترمب. وفي وقت سابق على ذلك، شدد شي على هذه النقطة في عام 2021، حينما أعلن عن نية الصين الانضمام إلى الاتفاق الذي سيحل بديلاً من "الشراكة عبر المحيط الهادئ"، وهو اتفاق رفعت واشنطن لواءه ذات مرة.

من خلال فهم التداعيات الجيوسياسية لاستراتيجيتها الاقتصادية الغائبة، أعلنت إدارة بايدن في مايو 2022 عن "الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ" Indo-Pacific Economic Framework (IPEF) في طوكيو. ويجمع الإطار الولايات المتحدة مع 13 اقتصاداً إقليمياً آخر للحوار حول مواضيع تشمل التجارة الرقمية والبيئة والفساد.

ورغم أن مشاركة البلدان التي تجنبت في السابق الاتفاقات التجارية مع الولايات المتحدة، كالهند وإندونيسيا، تعتبر ميزة جيوسياسية، إلا أن مسؤولي إدارة بايدن يصرون على أن الإطار ليس اتفاقاً تجارياً، ولن يتضمن أحكاماً تنص على الوصول إلى الأسواق كتلك التي ميزت اتفاق "الشراكة عبر المحيط الهادئ".

وقد وافقت الهند وإندونيسيا على المشاركة [في اتفاق الإطار الاقتصادي] بالضبط لأنهما لم تكونا مطالبتين بفتح أسواقهما بأي طريقة مهمة. وبالتأكيد، يعالج "الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ" مسائل حديثة مهمة كالتجارة الرقمية، ومن الممكن أن تكتسب المحادثات في شأنه زخماً وتسفر عن اتفاقات وازنة، من دون شروط تتعلق بتحرير التجارة أو مسألة الوصول إلى الأسواق. ولا تشكل المعطيات الآنفة الذكر سوى غيض من الفيض المحتمل للمآلات الكامنة في اتفاق "الشراكة عبر المحيط الهادئ".

استطراداً، إذ يدرك حلفاء الولايات المتحدة أن ربع الإطار الذي يقدمه اتفاق "الإطار الاقتصادي" خير من عدم وجوده على الإطلاق، فإنهم يدافعون علانية عنه بوصفه دليلاً على أن الولايات المتحدة عادت إلى لعبة وضع القواعد الاقتصادية في آسيا.

لكن في السر، لا يزال هناك قلق كبير من أن "الإطار الاقتصادي" غير كاف لإضعاف نفوذ الصين الاقتصادي المتنامي. بالتالي، تتمثل الطريقة الواضحة لجعل "الإطار الاقتصادي" أكثر أساسية في التفاوض على اتفاق بشأن التجارة الرقمية يكون مستنداً إلى الأحكام الحالية الواردة في الاتفاقات الأميركية مع كندا واليابان والمكسيك التي فاوضت عليها إدارة ترمب، واتفاقات مماثلة وقعتها أستراليا وسنغافورة.

ومن غير المرجح أن يحدث هذا قريباً، نظراً إلى وجود أنصار للحمائية في صفوف الكونغرس وإدارة بايدن، يشعرون بالقلق من أن اتفاق "الإطار الاقتصادي" قد يفتح الباب أمام عودة أميركا لاتفاق "الشراكة عبر المحيط الهادئ". في المقابل، سيستمر تراكم الضغوط مِنْ قِبَل الحلفاء والشركات بهدف إنجاز اتفاقات أساسية.

 

معاً أفضل

مثلما يحتاج الحلفاء المقربون إلى أن تقود الولايات المتحدة مشاركة بناءة مع بكين ومبادرات اقتصادية معها تكون ذات مغزى لتلك المنطقة، فإنهم يحتاجون أيضاً إلى دعم الولايات المتحدة في تعزيز قدرات الردع لمواجهة الصين التي باتت أكثر تهديداً. (قد يبدو هذا تناقضاً، لكن الحلفاء في المنطقة يجب أن يتعاملوا مع كلا الواقعين). إذ ينهض حلفاء الولايات المتحدة بتحركات كبيرة ويتحملون مخاطر جديدة. وقد أدى اعتراف اليابان بحق الدفاع الجماعي واعتمادها القدرة على توجيه ضربات، إلى وضع طوكيو مباشرة في مرمى بكين.

وبانتظام، تنشر الصين الآن صوراً عبر الأقمار الصناعية عن نطاقات تدريبات تتخذ شكل قواعد يابانية دمرتها هجمات [صينية] بالصواريخ الباليستية. وبالإضافة إلى الالتزام بـ"أوكوس"، تعهدت أستراليا بتوسيع إنتاج الأسلحة مع الشركات الأميركية من خلال "مشروع الأسلحة الموجهة والذخائر المتفجرة" Guided Weapons and Explosive Ordnance Enterprise، وهو مؤسسة عبارة عن برنامج تبلغ قيمته مليارات الدولارات.

واستجابة للتحديات العسكرية الصينية المتزايدة، تضع أستراليا مبادرات جديدة بشأن استضافة مزيد من القوات الأميركية وتمنح الجيش الأميركي وصولاً أكبر إلى شمال البلاد وغربها. وفي كوريا الجنوبية، رغم تهديدات بكين وموسكو وبيونغ يانغ، يسعى رئيس الوزراء يون إلى زيادة الاستعداد من خلال استئناف التدريبات الدفاعية المنتظمة مع الولايات المتحدة التي أوقفت في حقبة ترمب ومون.

لقد تبنت إدارة بايدن والكونغرس هذه التطورات كلها. ومع ذلك، على رغم أن حلفاء الولايات المتحدة يجرون تغييرات كبيرة في إنتاجهم وعملياتهم الدفاعية، لا تزال آليات إدارة التحالف في واشنطن تستند إلى تصاميم قديمة. صحيح أن الولايات المتحدة رفعت مستوى تعاونها الأمني مع اليابان عبر إنشاء مجموعات عمل عسكرية جديدة، لكن التحالف الأميركي الياباني يفتقر إلى أي شيء يشبه القيادات المشتركة التي تميز تحالفات الولايات المتحدة مع كوريا الجنوبية أو حلف شمال الأطلسي.

وقد صّممت تلك التحالفات خلال حقبة "الحرب الباردة" كي تكون على الخطوط الأمامية مستعدة "للقتال هذه الليلة"، وهو مستوى استعداد تحتفظ به القيادة الأميركية حتى الآن في كوريا الجنوبية. كذلك لم يكن التحالف الأميركي الأسترالي مصمماً للقتال المشترك في المحيطين الهندي والهادئ، على رغم العلاقة العملياتية الوثيقة التي طورتها القوات الأميركية والأسترالية للقتال معاً في الشرق الأوسط.

وتُعَد القيادة والسيطرة المتكاملتان أمراً بالغ الأهمية في تلك التحالفات لأن الصواريخ الكورية الشمالية وعمليات الانتشار البحرية الصينية وضعت اليابان، وحتى أستراليا، على الخطوط الأمامية لحرب باتت محتملة للمرة الأولى. وتبرز أهمية تلك الأمور مع تذكر أن نشر اليابان للقدرات العسكرية المتعلقة بتوجيه ضربات بعيدة المدى، يمكن أن يؤدي إلى تصعيد من قبل الصين أو كوريا الشمالية إذا لم يُدمَج هذا النشر في شكل جيد ضمن التخطيط العسكري الأميركي.

بالتزامن مع ذلك، تعتمد أستراليا على البنتاغون ووزارة الخارجية الأميركية في تبادل التكنولوجيا العسكرية عبر طرق تسير وفق التزام بايدن بالمساعدة في بناء غواصات تعمل بالطاقة النووية وغيرها من القدرات العسكرية المتقدمة. عام 2017، وسع الكونغرس تعريف "التكنولوجيا والقاعدة الصناعية الوطنيتين"، وهو مفهوم قانوني يحدد البلدان التي تُمنَح شركاتها أولوية على صعيد الأمن القومي، فأضاف إليها المملكة المتحدة وأستراليا.

في المقابل، ثمة أجزاء من البنتاغون ووزارة الخارجية، يستمر فيها تنفيذ القواعد التي تحكم تراخيص التصدير ونقل التكنولوجيا على أساس دراسة كل حالة على حدة، فكأن إضافة أستراليا والمملكة المتحدة لم تحدث بالنسبة إليها.

وعلى نحوٍ مماثل، لا تزال أحكام "شراء المنتج الأميركي" في التشريعات الأميركية، تعرقل الجهود المبذولة لنقل التكنولوجيات ودمج الإنتاج بين الحلفاء الموثوق بهم. ومن دون إصلاح، سيكون من الصعب تنفيذ اتفاق "أوكوس" وغير ذلك من الاستثمارات الأسترالية في الردع. وبالتالي، سيشكل ذلك نكسة للدفاع الأسترالي، وتحالف أستراليا مع الولايات المتحدة، والتوازن العام للقوى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

إذاً، هنالك قرارات كبيرة أمام الحلفاء يجب أن يتخذوها أيضاً. وبهدف تمكين اليابان فعلياً من زيادة الإنفاق الدفاعي إلى إثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، سيتعين على الحكومة أن تخفض برامج الرعاية الاجتماعية أو تستدين أكثر كثيراً مما تفعل. وإذا أرادت اليابان دمج نفسها بشكل أكبر في التخطيط العسكري الأميركي، سيتعين عليها تحسين حمايتها للمعلومات إلى مستويات الشركاء في تحالف "العيون الخمس" الاستخباراتي Five Eyes [يضم أستراليا وكندا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة] كي تضحي شبيهة بأستراليا التي يمكن الوثوق بها لجهة عدم تسريب المعلومات الاستخباراتية والتقنية الأكثر حساسية.

في سياق متصل، ستتطلب مبادرات أستراليا بشأن زيادة الإنفاق أو حسم خيارات صعبة في شأن أولوياتها. كذلك تعهدت كوريا الجنوبية تحت قيادة يون، بدعم استراتيجية إدارة بايدن بشأن "منطقة المحيطين الهندي والهادئ" في جنوب شرقي آسيا، لكنها تتمسك بأعذارها حينما يتعلق الأمر بحالات الطوارئ في تايوان القريبة، مفضلة البقاء على الحياد بدلاً من إغضاب بكين.

ومع ذلك، فمن دون مزيد من الإصلاح الاستباقي من قِبَل الكونغرس وإدارة بايدن، قد تظل تلك الخيارات صعبة للغاية على حلفاء الولايات المتحدة، الأمر الذي من شأنه أن يعرض أمن المشاركين جميعاً إلى الخطر.

المركز يتعرف على الأطراف

تتمتع الولايات المتحدة بميزة واحدة في المنافسة الجيوسياسية الجارية مع الصين لا تستطيع بكين تكرارها، تتمثل في وجود شبكة من التحالفات الأمنية مع الديمقراطيات المنتشرة عبر المحيط الهادئ. وعلى رغم أن الصين يمكن أن تزعم أنها تحقق نفوذاً متزايداً في أجزاء من الجنوب العالمي، تقتصر أقرب الشراكات الأمنية لبكين على روسيا المتعثرة، وإيران المعزولة، وكوريا الشمالية الاستفزازية. وعلى النقيض من ذلك، لدى الولايات المتحدة معاهدات راسخة مع الاقتصادات والجيوش الأكثر تقدماً في المنطقة.

في عام 1991، كتب جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركي آنذاك، في هذه الصفحات [مجلة فورين أفيرز]، إن الأمن الآسيوي يتلقى الدعم من "مركز وأطراف" تشكلهُ التحالفات الثنائية الأميركية في المنطقة.

واليوم، يتحول هذا الهيكل أكثر فأكثر نحو بناء مراكز. إذ تنشئ أستراليا واليابان تعاوناً أمنياً أعمق مع بعضهما البعض، وتبنيان شراكات وقدرات في بلدان أخرى في المنطقة كإندونيسيا والفيليبين وفيتنام. وستؤتي زيادة استثمار الولايات المتحدة في أقرب تحالفاتها ثمارها عبر تكامل تلك العلاقات الثنائية واستعدادها، إضافة إلى تكوّن قدرة لدى حلفاء الولايات المتحدة في تعزيز التعاون والمرونة عبر أنحاء المنطقة كلها.

وفي سياق متصل، سيساعد تعزيز هذه الشبكات المتصلة بتحالف أوسع نطاقاً، في إعادة ضبط توقعات الصين بشأن المثابرة الأميركية ومتانة شبكات الأمن الإقليمية. وكذلك يؤدي الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين حلفاء الولايات المتحدة جميعاً مع الصين، إلى استبعاد إمكانية تركيب منظومة أمن جماعي تكون على غرار حلف شمال الأطلسي، في غياب تحركات عسكرية كبيرة من قِبَل بكين.

في المقابل، يأتي اتفاقا "كواد"، و"أوكوس"، والعلاقات الأمنية المزدهرة بين الديمقراطيات الآسيوية، كتذكير مفيد لبكين بأن ممارستها الإكراه ستكون لها عواقب، وترتيبات الأمن الجماعي التي تقيد خيارات الصين ممكنة بالفعل.

وفي الوقت نفسه، قد يجد البعض في بكين أيضاً أن تركيز الولايات المتحدة على الحلفاء يساعد على استقرار العلاقات الأميركية الصينية. لقد ساعدت استراتيجية آبي في مجال المنافسة مع الصين في تحديد استراتيجية الولايات المتحدة في عهد كل من ترمب وبايدن. ويجب أيضاً أن يعمل بحث آبي عن توازن مستدام مع الصين، على تشكيل طرق التفكير في واشنطن. في نهاية المطاف، من كانبيرا إلى طوكيو، هناك إجماع عميق قوامه أن اللعبة الطويلة الأمد تحقق علاقة مثمرة مع بكين، تترافق مع المهمة المباشرة المتمثلة في الدفاع ضد الإكراه الصيني.

 

* مايكل جاي غرين، الرئيس التنفيذي لمركز دراسات الولايات المتحدة في سيدني. وشغل منصب المساعد الخاص للرئيس لشؤون الأمن القومي والمدير الأول للشؤون الآسيوية في "مجلس الأمن القومي" في عهد إدارة جورج دبليو بوش.

المزيد من آراء