عندما يتحدث الناس عادة عن "أوبرا القروش الثلاثة" لا يمكن لهم إلا أن ينسبوها إلى برتولد بريخت. فهذه "الأوبرا"، مع أل التعريف بالتأكيد، ارتبطت باسم الكاتب المسرحي الكبير إلى درجة لم يعد من الممكن نسبتها إلى اسم أي شخص آخر. ومع هذا، من المعروف أن "الأوبرا"، منذ فجر العصر الأوبرالي، تنسب إلى مؤلف موسيقاها، أكثر مما تنسب إلى مؤلف كلماتها. ومن هنا واضح أن ثمة ظلماً يحيق بالموسيقي الذي كتب الألحان العذبة والحديثة والقوية التي تحتضن هذا العمل الاستعراضي المهم. وهذا الموسيقي هو كورت فايل، الذي لا ترقى شهرته، بأي حال من الأحوال، إلى شهرة بريخت، وإن كان لا يقل عنه موهبة وحضوراً في فنون القرن العشرين. ومهما يكن، كان فايل واحداً من الفنانين الألمان الذين أصابهم مصير بريخت نفسه، من نفي وتشريد، ومن هنا تنقسم حياته إلى أكثر من قسم: قسم أمضاه في الوطن، وآخر أمضاه في المنفى.
موت نيويوركي
ولئن كان بريخت قد عاد إلى ألمانيا بعد منفاه، وعاش آخر سنواته في وطنه، فإن فايل لم يقيّض له ذلك، بل مات في منفاه النيويوركي في أبريل (نيسان) 1950، في وقت كان يقول للمقربين منه إن أمنيته الكبرى هي العودة إلى ألمانيا وتقديم أعماله فيها. لكنه مات شاباً في الـ 50 من عمره، منفياً، وحزيناً أيضاً لأن شهرته، لا سيما خلال السنوات الأخيرة، لا تصل إلى شهرة زملائه الكبار. وطبعاً بعد ذلك، أعيد الاعتبار الفني لكورت فايل على أكثر من صعيد، وصار يعتبر واحداً من كبار موسيقيي القرن العشرين، خصوصاً أنه كان موسيقياً امتزجت لديه الطليعية الألمانية بالحداثة الأميركية وبالنزعة التمردية التي نشأت في فيينا، وأنتجت أحلى إبداعات الموسيقى الإثني عشرية، بالجاز الصاخب الآتي من أفريقيا، وبأغاني الكاباريه البرلينية. والحال أن هذا كله ما جعل لكورت فايل عالميته وتميزه في الوقت نفسه، وحافظ له على مكانته الكبرى التي يتمتع بها اليوم. ولعل السؤال الذي لا بدّ من طرحه هنا يبدو بسيطاً: هل ظلم بريخت حقاً شريكه في موسقة بعض أهم أعماله مغطياً عليه بشهرته؟
الحياة بعد بريخت
ليس هذا مؤكداً، ولا سيما إن نحن قسمنا تراث فايل الموسيقي قسمين، أحدهما يضمّ ما أنجزه من ألحان لمغنيات رئيسة من كتابة بريخت، ويضم الثاني تلك الأعمال الكثيرة التي أنتجها الرجل ولا سيما في الولايات المتحدة ومنها بخاصة الموسيقى التصويرية، ولكن غير التصويرية أيضاً، التي لحّنها لأعمال سينمائية ومسرحية لآخرين. فالحال أن ما يبقى كبيراً في رصيد فايل إنما هي "ماهاغوني"، الأغنية وحدها التي بنيت المغناة على أساسها، ثم المغناة التي كانت أول تعاون كبير بين بريخت وفايل، والأساس الذي منه انطلق الأول لـ "يعلّم" فايل معنى ذلك النوع من الأعمال ولا سيما المعنى السياسي في إرث من نوع من الفنون الموضوعية التي "يمحو فيها الفنان نفسه خلف الموضوع أو الدرس"، ويمكننا أن نفترض أن تلك كانت دروساً حذفها فايل، ولسوف تكون هي ما صنعت لها مكانته التالية وسط بيئة في برودواي وهوليوود كانت السياسة التقدمية تعصف بها. وهي الأجواء التي وجد فيها فايل ما يلائمه، وراح ينهل للبقاء في صميمها من دروس بريختية كانت هي على أي حال ما طبع أعمالهما المشتركة التي تضم إلى العملين الكبيرين اللذين ذكرنا، و"الخطايا السبع للبورجوازية الصغيرة"، و"ذاك الذي يقول لا"، و"مسرحيات بادن التعليمية"، وبخاصة ""طيران لندبرغ"، وغيرها من أعمال اعتبرت دائماً من قمم اشتغال بريخت مع فايل، وفي مجال استخدام الموسيقى في تلك الأعمال. وفي هذا السياق يكاد النقاد والمؤرخون يبدون حاسمين: لقد عاش فايل طوال النصف الثاني من زمن إنتاجه الإبداعي عالة على النصف الأول الذي استفاد فيه أكبر ما يمكنه من الاستفادة مما علّمه إياه بريخت الذي كان بالنسبة إليه بمثابة صديق وأستاذ وشريك في الإبداع بالتأكيد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نزعة ثورية
مهما يكن من أمر، لا بدّ من التأكيد هنا على أن فايل كان معروفاً بنزعته الثورية منذ بدايته، وكان متمرداً تجديدياً قبل زمن من التقائه ببريخت. فهو المولود في ديشاو عام 1900، كان لا يزال يافعاً حين تمرد على أهله وتوجه إلى برلين حيث درس مع الموسيقيين الكبيرين ألان بيرغ وإنجلبرت همبردنك. وخلال العامين 1919 – 1920، قاد الأوركسترا الأوبرالية في ديشاو، ثم تحول مرة أخرى إلى برلين حيث تابع دراسته وبدأ يؤلف قطعاً للآلات الوترية، وكانت قطعه الأولى تجريبية وتجريدية. أما "الأوبرا" الأولى التي لحنها فكانت بعنوان "الأطراف" وهي من فصل واحد أنجزها في 1926. وفي العامين التاليين، أنجز عملين أوبراليين آخرين، جعلاه يعتبر مع بول هندميث أفضل مؤلف أوبرالي شاب في ألمانيا. وكانت تلك هي المرحلة التي التقى فيها ببريخت وبدأ التعاون معه، وكان أول عمل لهما هو "صعود وسقوط مدينة ماهاغوني" (1927) الذي يسخر من الحياة في مدينة أميركية متخيلة. وفي العام التالي كانت "أوبرا القروش الثلاثة" المأخوذة عن مسرحية "أوبرا المعدمين"، للإنجليزي جون غاي، وهي أوبرا جعلت أحداثها هذه المرة تدور في برلين، في القرن العشرين، وفي أوساط الحثالة. وقد كتب لها فايل موسيقى سرعان ما اشتهرت في أوروبا كلها، بل فاقت شهرتها شهرة المؤلف الموسيقي نفسه، خصوصاً أنها سرعان ما ترجمت إلى 11 لغة وتعرف العالم كله على موسيقاها معتبراً إياها موسيقى الحداثة الألمانية نفسها.
نيويورك مقصد ومآل
غير أن الإجماع الذي ساد من حول هذا العمل سرعان ما انفرط بالنسبة لأعمال كورت فايل التالية، حيث بدا وكأنه يكرر نفسه. مهما يكن فإن مشكلات فايل في تلك الآونة لم تكن فنية بحتة، بل كانت سياسية أيضاً، إذ في عام 1933 اضطر لمبارحة برلين هرباً من اضطهاد النازيين الذين اعتبروا عمله الموسيقي "عملاً منحطاً مؤلفه يهودي منحط". وحين بارح فايل برلين أمضى بضع سنوات بين باريس ولندن، ثم توجه عام 1935 إلى نيويورك حيث كان النجاح الذي حصده كبيراً، عبر العديد من الاستعراضات الأوبرالية التي راح يمزج فيها موسيقاه الألمانية الطليعية بالجاز والحداثة الأميركيين، وكان من أبرز أعماله خلال تلك المرحلة "جوني جونسون" (1936) و"درب الخلود" (1937) و"السيدة في الظلام" (1941). ومنذ ذلك الحين لم يتوقف فايل عن العمل. وكان تعاونه بخاصة مع نصوص لماكسويل أندرسون وموس هارت وإيرا غرشوين شقيق جورج غرشوين.
الأميركيون يريدونه أوروبياً
ولقد جعله ذلك كله بالطبع جزءاً من تلك النهضة الموسيقية ذات الانتقائية الأوروبية التي أعادت "خلق" الحداثة الأوروبية في العالم الجديد، لكنها في الوقت نفسه وضعت حدوداً صارمة لما يمكن قبوله من تلك الانتقائية. فالحقيقة أن فايل وعلى كثرة من أنتج في مجال الموسيقى الاستعراضية، كما في مجال الموسيقى الغنائية الفردية والأعمال الأوركسترالية، كانت قد طغت على حياته وعمله تماماً شهرة ذينك العملين الأولين اللذين ارتبط اسمه بهما وجعلاه مطالباً دائماً بأن يعود إليهما كمرجع في كل عمل جديد له. وهما عملاه البريختيان الكبيران "ماهاغوني" و"القروش الثلاثة". واللافت هنا أن كورت فايل ظل مطالباً على رغم مرور عقود لا بأس بها على وصوله إلى أميركا، بأن يبقى أوروبياً، كما مطالباً على رغم عمله مع عدد من مؤلفين كبار غير بريخت، بأن يبقى بريختياً لا يبارح ذلك! ومن هنا لم يكن غريباً على فايل أن يشكو دائماً من كونه قد وقع ضحية "بائسة لشهرة ومكانة صديقه الكبير" بحسب تعبيره.
إضافة إلى ذلك، كتب كورت فايل في تلك المرحلة الكثير من الأغاني والأعمال الموسيقية لا سيما كونشرتو للبيانو وسيمفونيتين، لكن هذه الأعمال لم تلفت إليه الانتباه الذي كان قد واكب أعماله الأوبرالية. مهما يكن، خلال السنوات الأخيرة من حياته، كان إنجاز كورت فايل قد أضحى جزءاً من الماضي، ونُسي بعض الشيء، حتى كانت سنوات الستين حين استعيدت ذكراه مجدداً، لا سيما بعد وفاة برتولد بريخت، وعودة أعمال هذا الأخير إلى الذاكرة العالمية على إثر رحيله.