يقول إعلان صادر عن اتحاد الخدمات العامّة "يونيسون" Unison (وهو كيان نقابي في المملكة المتحدة، يتبع لـ "مؤتمر اتّحاد العمّال") في إطار دفاعه عن إضراباته، إنه "لمواصلة إنقاذ الأرواح، يتعيّن علينا إنقاذ قطاع "خدمات الصحة الوطنية" (أن أتش أس) NHS". إن رسالةً كهذه لم تكن لتشكّل أهميةً كبيرة قبل بضعة أعوام. لكنها اليوم تلقى أصداء واسعة وآذاناً صاغية: فالإضراب الاعتراضي النقابي لا يتعلّق بمستوى الأجور فحسب، بل بالجسم المريض والمتهالك لخدمات "أن أتش أس".
وقد أدّى توقّف الممرّضات وطواقم الإسعاف عن العمل إلى طرح السؤال الآتي المحرج للحكومة: في الأيام التي لم تتخلّلها إضرابات، كانت "خدمات الصحة" ترزح تحت وطأة منهكة في الأساس، فهل أمكن لأحد أن يلاحظ الفارق؟ إذ كان عاملو الإسعاف يقضون نوبةً كاملة من دوام عملهم قابعين داخل سيّاراتهم المصطفّة في طوابير طويلة خارج أقسام "الحوادث والطوارئ" A&E، فيما كان أطبّاء الطوارئ يتفاجأون لدى عودتهم إلى العمل بعد 12 ساعة فقط من الراحة، بأن المرضى ما زالوا هم أنفسهم في صفّ الانتظار.
في خضم كل ذلك، يبدو أن هناك بعض "المحافظين" المتشدّدين الذين يستمتعون في الواقع بهذه الأزمة الوجودية باعتبارها فرصةً طال انتظارها، لإصلاح مؤسّسةٍ يرون أنها وليدة دولة اشتراكية مفرطة في التدخّل في شؤون مواطنيها، ما زالت عالقة في القرن الماضي. وقد قال لي أحدهم إن "الموضوع لم يعد من المحرّمات. ففي فترة تفشّي الوباء لم يكن ممكناً طرح مسألة مستقبل مرافق “أن أتش أس”، لكن الآن فُتح النقاش".
يعتقد جناح اليمين في الحزب البريطاني أنه في الوقت الذي ما زال الناس فيه يستهوون ما تقدّمه وتمثّله لهم "خدمات الصحة الوطنية" - التي كان وزير الخزانة البريطاني السابق نايجل لوسون قد وصفها بأنها "أقرب ما تكون إلى معتقد ديني بالنسبة إلى الإنجليز" - فإن صبرهم قد بدأ ينفد مع تهالك هذا النظام أمام أعينهم، ووصول قوائم المرضى الذين ينتظرون تلقّي علاجاتهم إلى رقمٍ قياسي هو 7 ملايين و200 ألف شخص.
يودّ اليمين وقف تمويل موازنة هيئة "خدمات الصحة الوطنية" البالغة 180 مليار جنيه استرليني (218 مليار دولار أميركي) من خلال الضرائب العامّة، الأمر الذي من شأنه أن يعزّز خططه الخاصّة بخفض الضرائب عن كاهل المكلّفين. ويؤيّد البعض فرض رسومٍ على خدماتٍ كزيارة طبيبٍ عام، ما يشكّل بداية تطوّر مؤذٍ وأكثر خطورة. فيما يريد البعض منح إعفاءٍ ضريبي على مساهمات التأمين الصحّي الخاص - وهي خطوة تستهدف تسهيل دفع الأفراد تكاليف الرعاية الصحّية الخاصّة بهم، فيما تتحوّل مرافق "أن أتش أس" إلى شبكة أمانٍ للفقراء.
ويرى المنتقدون أن مثل هذا النظام المزدوج ذي المستويين، إنما هو أشبه بمشروع خصخصةٍ ضمني. والواقع أنه سيكون من الصعب الحفاظ على شبكة أمانٍ مموّلة من الخزينة العامّة، إذا لم يحصل دافعو الضرائب على شيءٍ في المقابل. فالنظام الراهن، على الرغم من جميع مشكلاته، ما زال يعطي الجميع حصّةً من "خدمات الصحة الوطنية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع اقتراب هيئة "خدمات الصحة الوطنية" من ذكرى ميلادها الخامسة والسبعين في يوليو (تموز) عام 2023، يريد ريشي سوناك رئيس الوزراء البريطاني أن يكون إصلاح القطاع الصحّي من بنات أفكاره التي يفتخر بها. ومن منطلق أنه كان وزيراً سابقاً للخزانة، فقد فاجأ زملاءه الوزراء بلغةٍ صارمة تعتبر أن إضافة مزيدٍ من الموارد إلى القطاع لا يشكّل حلاً. وبات حلفاؤه الآن يتكلّمون على "تحديث النظام وليس المال". وقد أنشأ فريق عملٍ على غرار الفريق الذي تولّى تقديم لقاحات "كوفيد"، لضمان أن مقدّمي الرعاية الصحّية في القطاع الخاص يمكنهم معالجة المزيد من مرضى "خدمات الصحة الوطنية"، بعيداً من الخصخصة، وبما يبقي العلاج مجّانياً عند الحاجة إليه.
إن الدعوات المطالبة بإصلاح قطاع "خدمات الصحة الوطنية" ليست بجديدة. لكن الساسة عادةً ما يميلون إلى اختيار الحلول السهلة وقصيرة الأمد، في وقتٍ يتطلّعون فيه إلى الانتخابات المقبلة. أما سوناك فسيتولى بشكلٍ أساسي إدارة الطلب على الخدمات، أو ربّما تدهور النظام. وهذا مرّةً أخرى، لا يترك سوى القليل من الوقت لاعتماد الوقاية - الخيار الأفضل على المدى الطويل من العلاج.
إن أيّ حلّ حقيقيٍ لمشكلات "أن أتش أس"، سيعني إيجاد حلّ للرعاية الاجتماعية، لأن نحو 13 ألف شخصٍ هم عالقون في مستشفيات البلاد ولا يتطلّب وضعهم الصحّي إبقاءهم فيها. لكن إنقاذ نظام الرعاية سيتطلّب من المملكة المتّحدة - التي ما زالت ضرائبها منخفضة نسبياً مقارنةً باقتصادات الدول المتقدّمة - فرض مزيدٍ من الضرائب. وقد حاول ريشي سوناك اللجوء إلى ذلك من خلال إضافة "ضريبة الرعاية الصحّية والاجتماعية" Health and Social Care Levy على مدفوعات الضمان الاجتماعي الوطني، إلا أن ليز تراس قامت بإلغائها لدى تولّيها رئاسة الوزراء. وهو يعلم أن نوّابه سينتفضون عليه إذا ما حاول فرض مزيدٍ من الضرائب.
وهناك خطوة ضرورية أخرى تتمثّل في نقل سلطة اتّخاذ القرار داخل هيئة "خدمات الصحة الوطنية"، لكن الحكومة البريطانية تتردّد في "المضي في ذلك"، مدركةً أنه سيتمّ إلقاء اللوم عليها في أيّ أزمة تحدث. وقد منح تشريعها الأخير وزير الصحّة مزيداً من الصلاحيات للتدخّل في عمل "هيئة خدمات الصحة الوطنية في إنجلترا" (أن أتش أس إنغلاند) NHS England، على رغم أنه يستحيل إدارة مثل هذه المنظّمة الضخمة انطلاقاً من دوائر وايتهول الحكومية".
تكمن في الواقع مشكلة رئيس الوزراء سوناك، في أن الناخبين البريطانيّين من غير المرجّح أن يعتقدوا أن مرافق "أن أتش أس" ستبقى آمنةً في أيدي "المحافظين". وتعدّ الإضرابات الراهنة بمثابة ردٍّ على انتكاسة 12 عاماً من التقصير في التمويل (نظراً إلى الوطأة الناشئة عن شيخوخة السكّان). ولا يمكن إلقاء اللوم على جائحة "كوفيد" في المشكلات التي يعانيها القطاع اليوم، كما تقول الحكومة، إذ إن قوائم انتظار المرضى للاستشفاء كانت تزيد على 4 ملايين شخص قبل انتشار الوباء. كما أن عبارة "امنحونا فرصةً لتصحيح أخطائنا"، ليست بسرديّة سياسية مقنعة وشديدة الفاعلية.
صحيح أن تخصيص مزيدٍ من المال ليس هو الحل الوحيد لإنقاذ القطاع. فأرقام "معهد الدراسات المالية" Institute for Fiscal Studies (مركز أبحاثٍ اقتصادية متخصّص بالضرائب والسياسات العامّة في المملكة المتّحدة) تشير إلى أن الإنفاق على مرافق "خدمات الصحة الوطنية" في إنجلترا، هو أعلى بنسبة 12 في المئة ممّا كان عليه عندما وصل "المحافظون" إلى السلطة في عام 2010، مع زيادة عدد الأطبّاء بنحو 13 في المئة والممرّضات بـ 11 في المئة، لكن على رغم ذلك فإن عدداً أقلّ من المرضى تتم معالجتهم مقارنةً بما قبل الجائحة.
وفي الوقت الراهن، يوجد إجماعٌ سياسي على ضرورة الإصلاح. وقد علمتُ أن كير ستارمر زعيم حزب "العمّال" البريطاني المعارض، رفض النهج الحذر الذي اعتمده مستشاروه في الصيف الماضي، وطلب من ويس ستريتينغ (وزير الدولة لشؤون الرعاية الصحّية والاجتماعية في حكومة الظل "العمّالية") أن يأتيه بتغييراتٍ جذرية. وقد استمتع ستريتينغ الذي امتاز بأدائه الرائع بالقيام بالبعض منها، منبّهاً إلى ضرورة "إصلاح "خدمات الصحة الوطنية" وإلا فإنها ستلفظ أنفاسها الأخيرة". وقد حظي باستحسان الصحف الداعمة لحزب "المحافظين" تحديدا، الأمر الذي جعل الحكومة تبدو وكأنها تسير على غير هدى في هذا المجال. فعلى سبيل المثال، سيستفيد حزب "العمّال" من القطاع الخاص، بشكلٍ أكبر من غريمه حزب "المحافظين". لكن سيتعيّن على ستريتينغ أن يفصح عن المزيد من المبادرات الفاعلة ليبقى متقدّماً بخطوة على ريشي سوناك.
إن سوء تعامل الحكومة مع النزاعات المتعلّقة بالأجور، سيصعّب بلا شك على حزب "المحافظين" اكتساب صدقية في مقاربته لموضوع "خدمات الصحة الوطنية". في حين أن حزب "العمّال" أنقذ الوضع من قبل، عندما زادت حكومتا طوني بلير وغوردون براون مدفوعات الضمان الاجتماعي لرفع الإنفاق الصحّي إلى المستويات الأوروبية وتقليص قوائم انتظار المرضى لتلقّي العلاج. وقد غادر "حزب العمّال الجديد" السلطة بمستوياتٍ قياسية من رضا المرضى عن القطاع الصحّي، التي تُعدّ بعيدة كلّ البعد عمّا هي عليه اليوم.
يبقى القول أخيراً إنه سيكون لزاماً على الحزب الذي أسّس "خدمات الصحة الوطنية" في المملكة المتّحدة، أن يعمل هو على إنقاذها مرّةً أخرى.
© The Independent